عوالم مخرج التحريك الياباني كييشي هارا
محمد موسى

خصصت الدورة الثلاثين الاحتفالية من مهرجان طوكيو السينمائي (عقدت بين الخامس والعشرين من شهر أكتوبر وحتى الثالث من شهر نوفمبر) برنامجها السنوي الخاص بسينما التحريك للمخرج الياباني كييشي هارا، عرض فيه معظم أعماله، من بينها أفلامه الطويلة الأخيرة من العقد السابق، والتي حققت نجاحات شعبية ونقدية كبيرة. كما ضَّمَ البرنامج أيضاً فيلمه الروائي “سقوط صانع الأفلام: قصة كيسوك كينوشيتا”، والذي يقدم مِحنة المخرج الياباني “كيسوك كينوشيتا” الذي أُجبر على عمل أفلام دعائية سياسية لنظام بلده قبل الحرب العالمية الثانية. وهو الفيلم الوحيد الذي لا ينتمي لفئة الرسوم المتحركة، التي قضى المخرج أكثر من ثلاثين عاماً مُتنقلاً بين مهام عديدة في مجال صناعتها، قبل أن يتفرغ تماماً منذ عشر سنوات لإخراج الأفلام الطويلة المخصصة للعرض السينمائي.
ولد هارا في عام 1959 في مدينة صغيرة شمال العاصمة طوكيو، وشغف مبكراً بعوالم القصص المصورة المطبوعة وأفلام التحريك، التي تلقى شعبية كبيرة في اليابان وربما أكثر من أي بلد آخر في العالم. التحق المخرج بكلية غاكوين العريقة للتصميم في العاصمة اليابانية طوكيو، واختار تخصص الرسوم المتحركة. بدأ العمل بعد تخرجه في استديو”شين – أي”. تدرج هارا في الاستديو الياباني من رسام تحريك إلى مخرج أساسي ومدير فنيّ للاستديو. اقترن اسم المخرج بمجموعة من السلاسل التلفزيونية التي لاقت شهرة واسعة في اليابان في عقد التسعينيات، ووصل بعضها إلى الصالات السينمائية، وحصلت على جوائز سينمائية في مهرجان أفلام التحريك. أخرج فيلمه القصير الأول في عام 1988، وفي عام 1993 أخرج فيلمه الطويل الأول للتلفزيون، والذي عرض كذلك بشكل محدود في صالات السينما.
في عام 2007، ومن إنتاج استديو “شين- أي”، أنجز هارا فيلمه الطويل الأول المخصص للعرض السينمائي والذي حمل عنوان “أيام الصيف مع كوكو”. والفيلم، الذي قام بكتابه هارا نفسه عن قصة مصورة للكاتب والرسام ماساو كوغور، هو مشروع سينمائي اشتغل عليه المخرج الياباني طوال عشرين عاماً قبل أن يرى النور. ترك هارا استديو “شين – أي” في العام نفسه الذي عرض فيه فيلمه “أيام الصيف مع كوكو”، ليبدأ العمل كمخرج حرّ. بعد ثلاثة أعوام على فيلمه الأول، أتم هارا فيلمه الثاني “غني بالألوان”، وهو الأول له بعيداً عن الاستديو السينمائي الذي تعامل معه على مدار عقدين. يستند الفيلم إلى رواية شعبية للكاتب إتوموري. وعرض له في عام 2013 فيلمه “سقوط صانع الأفلام: قصة كيسوك كينوشيتا”. أما آخر أفلامه فكان “آنسة هوكوساي” عن ابنة الفنان الياباني كاتسوشيكا هوكوساي واسمها “أو- إي”. والمجهولة كثيراً للياباني العادي، رغم أنها كانت فنانة تشكيلية هي الأخرى وسبقت زمنها بأعمالها الحداثية، وفي خياراتها الجريئة في الحياة.
تتميز أفلام هارا بسلاستها البنائية، وتحتل الحكاية المركز الأساسي في هذه الأعمال وتُسخَّر كل العناصر الفنيّة الأخرى في الفيلم لإبراز خطوط القصة. يفضل المخرج الياباني السرد التصاعدي التقليدي، وهو راوي حكايات من الطراز الأول. وأعماله وإن تضمنت مفاهيم وتجارب حداثية وفنيّة وتجريبية، الا أن لا شيء يجب أن يقف فيها أمام السرد الواضح للقصة، لهذا يكون من السهل دائماً تتبع ما يجري في كل مشهد من مشاهد أفلام هارا، كما أن الانتقالات بين المشاهد في أفلامه بديهية ومُبررة. أفلام المخرج هي رحلات متفرقة في الزمان والمكان في تاريخ بلده، إذ إنه يبحث على الدوام عن قصص بهويات محلية وثيمات إنسانية عامة.
ينجذب المخرج إلى قضايا وثيمات سوداوية ولا يخشى تقديم العنف أو تناول قضايا جدليّة. يبدأ فيلمه ” أيام الصيف مع كوكو” بمشهد يقتل في نهايته بوحشية كبيرة والد بطل الفيلم. ويتناول فيلم “غني بالألوان” موضوع قتل النفس، وهي قضية آنية حساسة كثيراً في اليابان، البلد الذي يشهد ارتفاعاً في معدلات الانتحار بين الشباب. ويعود في فيلمه “سقوط صانع الأفلام: قصة كيسوك كينوشيتا” إلى زمن ما قبل الحرب العالمية الثانية، عندما كان انتهاك الحريات والقمع السياسي سائدين في البلد، وهي قضية شائكة هي الأخرى في يابان اليوم. في حين يتناول فيلمه الأخير “آنسة هوكوساي” ثيمات غير سهلة مثل :الهوية الجنسية والتمرد ومجتمع عالم الفنانين.

كائن أسطوري محبوس في طوكيو
مبكراً في زمن فيلم “أيام الصيف مع كوكو”، يعثر صبي من طوكيو على صخرة تجمد في داخلها منذ 300 سنة طفل كائن ماء الأسطوري الياباني. يفك الصبي أسر هذا الكائن الذي يتكلم مثل البشر لكنه نسى اسمه، ما حدا بالصبي أن يطلق عليه اسم “كوكو” وسيصحبه إلى بيته. ستقع عائلة الصبي الياباني بحب “كوكو”. بيد أن الفيلم لن يبدأ بحادثة العثور على كوكو البريء، بل للأخير برفقة والده قبل ثلاثة قرون، حيث كان الأب يحاول أن يقنع محاربين من الساموراي بعدم تدمير منطقة الأهوار التي تعيش فيها كائنات الماء الأسطورية. هذه المواجهة ستنتهي بقتل الأب بوحشية، بينما الابن كان يتفرج برعب على تقطيع والده بالسيوف.
يهتم نصف الفيلم الأول بتطور العلاقة الدافئة بين “كوكو” والعائلة التي ستستضيفه وتعتبره ابنا لها. كوكو سيصادق كلب العائلة أيضاً، ذلك أنه قادر على فهم والتحدث بلغات جميع الكائنات. سيبدأ كوكو رغم الحب الذي يحيطه من كل جانب بالحنين إلى المكان الذي ولد فيه، ويبدأ بطرح أسئلة عن عائلته التي نسى ما حدث لها. وعندما يبدأ بالخروج خارج البيت، سيلفت انتباه بعض الجيران، ثم الإعلام الياباني، عندها يبدأ كابوس “كوكو” وعائلة الفيلم، ويأخذ الفيلم حينها مساراً معتماً، وبالخصوص عندما يتذكر “كوكو” ما حدث لوالده، وبعدها عثوره على ذراع ذلك الوالد التي قطعت حينها واحتفظ بها عالم آثار.
وعلى رغم أن الصداقات غير المألوفة التي تنشأ بين كائنات فضائية وبشر ليست غريبة عن السينما، وقدمت في أفلام عديدة أشهرها فيلم “إي تي” للمخرج الأمريكي المعروف ستيفن سبيلبرغ، الا أن المخرج الياباني يمنح فيلمه خصوصية يابانية مع الإبقاء على ثيمات كونية معروفة، مثل توسع المدن على حساب المساحات الخضراء، وهمجية الإعلام التي تقترب من الوحشية في سعيه للحصول على قصص يغذي بها ماكنته اليومية التي لا تشبع. هناك في الفيلم مطاردة قاسية لكوكو الذي كان برفقة كلب العائلة في العاصمة طوكيو، حيث بدا أن لا أمل على الإطلاق بالخروج من غابة الخرسانة التي تمتد على مد البصر.
يصوغ المخرج شخصيات واضحة ومحببة كثيراً، من “كوكو” نفسه، بصوته وهيئة البريئتين، إلى العائلة وكلبها الوفي الذي سيقدم الفيلم قصة مؤثرة له، فهو عُذِّبَ كثيراً على يد صاحبه القديم، والذي كان هو نفسه ضحية لتنمر طلاب في مدرسته. تزداد قتامة الفيلم مع تواصل زمنه، بيد أن الكوميديا لن تغيب عنه، وبالخصوص في نصفه الأول، حيث كانت تتفجر من الوضع الجديد لكوكو مع عائلة الفيلم وكلبها. يضم النصف الثاني من الفيلم مشاهد ضخمة بعدد شخصياتها والحركات والانفعالات التي تقدمها، ويصل الأداء إلى مستويات معقدة ومتقنة وبالخصوص لكوكو نفسه، الذي يشعر أن عالم البشر بدأ يضيق عليه كثيراً، فهم وراء كل الخراب الذي على هذا الكوكب، ومثلما قال أبوه يوما: “الوحوش أرحم أحياناً من بعض البشر”.

فنانة متمردة
يستخدم هارا في فيلمه الأخير “آنسة هوكوساي” أساليب فنيّة عصرية كثيراً لسرد يوميات الحياة العائلية للفنان التشكيلي الياباني كاتسوشيكا هوكوساي. فهناك التعليق الصوتي الذي جاء مُختلفاً بطبيعته وإيجازه وعلاقته بالسرد، كما كانت الحوارات بين الشخصيات عصرية كثيراً وتذكر بأفلام وودي آلن من عقد السبعينيات، وغابت عنها اللغة الشاعرية المُفخمة التي تطبع الأفلام اليابانية التي تتناول حقباً تاريخية سابقة وكما يفعل الفيلم المذكور، في حين بدت تركيبة الشخصيات نفسها وبالخصوص ابنة الرسام الفنانة “أو- أي” حديثة للغاية، بتمردها وعلاقتها بوالدها وبالرجال والنساء الذين مروا في حياتها.
لن يحدث الكثير في الفيلم، الذي اقتطع أياماً معدودات من حياة البطلة وأبيها، مُركزاً على علاقتهما بمجتمع الفنانين في ذلك العصر، وأسئلة الموهبة والزيف. تتميز مناخات الفيلم بحسيتها وشاعريتها ومحدودية الحركة في المشهد الواحد، وإبرازها لخصوصية الحقبة التاريخية التي جرت فيها الأحداث، والمحيط الاجتماعي الذي عاشت فيه الشخصيات الرئيسية، والذي امتزج فيه السحر والفن والفقر وحضور نساء غاويات خطرات. ستروي البطلة نفسها وبحنين طاغ قصتها في الفيلم، أحياناً من على الجسر القريب من بيتها والذي شهد لحظات مهمة من حياتها، ومن هناك ستخبر المشاهد بما آل إليه مصيرها ومصير والدها بعد سنوات عديدة من زمن وقائع الفيلم. تضيف هذه التفصيلة بالتحديد الكثير من الأسى على فيلم السيرة التاريخية الخاص هذا.