“القاهرة 30”.. بلاغة اللقطة الطويلة

أحمد القاسمي

لقد أوكل صلاح أبو سيف للمصوّر الأكبر، أهم الأدوار في “القاهرة 30” الذي اقتبسه عن رواية القاهرة الجديدة لنجيب محفوظ، من تنظيم للفضاء وتأطير للصورة وتكوين لها وتفاعل بين قطاعاتها الثّلاثة وسلّم للقطاتها ومأتى خطورتها من عملها على ضبط مختلف ردود المتفرّج. والمصوّر الأكبر (Grand Imagier) اصطلاح ابتكره “لافاي” يُقدّم مستندًا باعتباره شخصيّة خياليّة وغير منظورة تقبع من خلف المتفرّد لتقلّب له صفحات الألبوم وتوجّه انتباهه بسبابة سريّة. حاز في الأثر كفاءات عديدة فقد كان على علم بمختلف عناصر القصّة وبما سينشأ فيها من التّحوّلات، قدر علمه ببواطن الشّخصيات أو بردود أفعالها. ومن منطلق كفاءاته هذه كان يقترب من الممثّل ليلتقط الانطباع أو المؤثر على ملامحه وإضاءته لوجهه، أو يبتعد عنه بما يكفيه من المسافة ليلتقط حركته في الفضاء. كما خوّلت له قدراته هذه استباق الأحداث واقتحام الأفضية واعتراض الشّخصيّة في المكان والزّمان المناسبين لتسجيل أفعالها. فيتسلل إلى غرفة النّوم في الفيلا الخضراء ليتلصص على “إحسان شحاتة” وهي تغيّر ملابسها فيها وليرصدها وهي تتملى أنوثتها وتكتشف -بفضل هدايا “قاسم”- سحر جمالها، وفي الآن نفسه يرصد “قاسم بك” في الخارج وهو يستعدّ لامتلاك الجسد الأنثوي القائم داخل تلك الهدايا، ولشرب نخب انتصار المادة والجاه على قيم الحب والوفاء بعد أن تركت من أجله حبيبها “علي” أو “محجوب عبد الدّايم” في دار الضّريرات ليرصد مدى انبهاره بسطوة المال وسلطانه وليرصد من خلال ما يرى فساد الطّبقة الأرستقراطيّة واستئثارها بخيرات البلاد.

فتمّ تصوير المشاهد بواسطة الكاميرا الموضوعيّة التي تعكس إدراكًا بصريًا لعنصر كائن خارج المساق القصصي. ولكن هذه النزعة العامة لا تنفي التجاء المصور الأكبر إلى الكاميرا الذاتية في مواطن متعدّدة من الفيلم. فيعرض صورة الرّائي أولاً ثم يعرض صورة المرئي أو العكس. فنرى في اللّقطات الأولى من الفيلم “علي طه” يطلّ من النّافذة ويحدّق نحو الأسفل مشيرًا إلى السّاعة كمن يعقد موعدًا. لنرى بعدئذ “إحسان شحاتة” عبر لقطة تتقاطع زاوية تصوير مع منظوره هو لنستنتج أننا نراها من خلال إبصاره أو نراه يحدّق في ملابسها عند زيارتها له في نهاية الفيلم، ثم نرى الملابس من حركة بانورامية تتجه فيها الكاميرا من الأسفل إلى الأعلى لتتوقف عند الخاتم الثّمين، ثم تعود في حركة معاكسة فتنحدر من الأعلى إلى الأسفل. فندرك أننا نتلقّى صورة “إحسان” من خلال إبصار “عليّ” وأن في إمعانه النّظر إليها وتمليّ ثيابها إنكارًا لمقايضتها لمشاعر الحب التي كانت تجمعها به بمظاهر البذخ تلك. 

لقد وفر هذا الأسلوب للمصور الأكبر قائمة طويلة من الاختيارات لتنظيم مواد قصه وتشكيل دعائم حكايته تدعوه إلى أن يوظفها بوعي حتى يمتلك أسلوبه الخاص، ويدس المعنى طي الخطاب البصري. فيفتح الدلالة على الاحتمال المخصب وينأى بها عن التقرير المجدب. فمثّل تحريك الكاميرا محور تميز وسم أثر “صلاح أبو سيف” فجاء وفق إيقاع يأخذ في الحسبان حركة الشخصية لضبط التبئير والإضاءة وزوايا التصوير. فنزع فيلم “القاهرة 30” نزعة صريحة لاعتماد الكاميرا المتحركة واللقطة الطويلة التي كثيرًا ما تستغرق المشهد كله وتغدو لقطة متوالية. فبلغ عدد لقطاته نحو المائتين فيما يبلغ متوسط لقطات الفيلم التخيلي النمطي نحو السبع مائة لقطة. ومعلوم أن تحريك الكاميرا ضمن اللقطة الطويلة في الفيلم أسلوب جمالي عصيّ، يتطلب من صاحبه السيطرة على مختلف تقنيات صناعة الصورة حتى ينظم مواد القص ويشكل المنظور السردي بسلاسة تشد المتفرج. 

لتفصيل هذا الأسلوب ننتخب لقطة من الفيلم نعتقد في قدرتها التّمثيليّة لعامة أسلوب الرّجل تجسّد المواجهة بين “محجوب” و”سالم” عند ترقيّة الأول ليكون مديرًا لمكتب الوزير في نهاية مرحلة الوسط من الأثر وتتجاوز الأربع دقائق: وترد اللّقطة في نهاية مرحلة الوسط من بناء الفيلم. وفي الذّروة التي تعبر بنا إلى مرحلة النّهاية فتشكّل موضع حبكة. تُهيّأ الكاميرا فيها لتسجيل لقطة نصف عامة ذات غطس خفيف. فترصد مكتب “محجوب” أثناء احتفال الموظفين بترقيته إلى إدارة مكتب الوزير “قاسم بك” فتطمس بزاويتها تلك حضور الجمع وهم في حضرة مدير المكتب. ويخرج الموظفون عندما يدخل “سالم الإخشيدي” ويقترب من “محجوب” ويعلمه بأن الوقت قد حان ليردّ إليه الجميل ويتذكّر ما بينهما من الصّداقة. فيتنازل له عن التّرقية. عندها يكون محجوب قد أدار إليه ظهره بفعل استلقائه على كرسيّه الدّوار، واتّجه إلى الكاميرا التي تنخفض وتقترب منه بدورها في حركة زوم أماميّة فيغدو حاصل الصّورة عندئذ واجهة تعرض لقطة كبيرة لـ “محجوب” وتكشف من خلال قسمات وجهه عن مشاعر الرّيبة التي تنتابه. بينما يعرض الوسط “سالمًا” في لحظات انكسار وهو يلتمس منه أن يتنازل له عن هذه التّرقية لأنه الأجدر بها.  ولكنّ الكاميرا لا تكفّ عن الحركة، وتغيّر سلّمها بين لقطات متوسطة وأخرى كبيرة بحسب قرب الممثّل منها أو بعده عنها، أو قرب الكاميرا نفسها من الموضوع أو بعدها عنه، وبحسب المؤثّر الدّراميّ الذي يريده لها المصوّر الأكبر. كأن تعرض ضحك “محجوب” بزهو وانتصار بعد أن يسلّم “سالم” بهزيمته ويغادر المكتب وهي تقترب منه في نهاية المشهد وتتحوّل من لقطة متوسّطة إلى لقطة كبيرة. 

لقد كان المصور الأكبر، عالمًا بنوايا شخصياته مستبقًا حركاتها وسكناتها ضبطًا للعدسات وللتبئير وأعماق المجال الملائمة واختيارًا للصّورة وتقسيمها إلى قطاعات متفاعلة تنقل مختلف الأحداث على أكمل وجه. إنه عليم كليّ المعرفة، ولكنه كان يعرض دون أن يتكلّم ويشير دون أن يصرّح، ويوحي دون أن يقرّر، ويجسّد دون أن يجرّد، فلا يبلّغ المتفرّج مراده في دقّة وصرامة، بل يطلب إليه أن يقوم بالجهد التّأويلي الضّروري، ليجتني من احتمالات ما تتيحه له خبراته وقدرته على الاستدلال وكفاياته الموسوعيّة. وعليه، فقد اعتمد الفيلم أساسًا اللّقطة المتوسطة وفق خيارين. يتمثّل الخيار الأول في خلق علاقات تباينيّة بين قطاعات الصّورة الثّلاثة، واجهة وقطاع أوسط وخلفيّة منشؤها التّفاعل بين حركة الكاميرا وحركة الشّخصية. فتتحوّل الواجهة إلى خلفيّة، والخلفيّة إلى واجهة. ويعمل المصور الأكبر من خلال هذه الحركة باستمرار على الدّفع بالموضوع -وجه الممثل- إلى الواجهة. ويتجلى هذا الخيار خاصّة في تصوير “سالم” و”محجوب”، بما يحوّل اللّقطة المتوسطة إلى لقطة كبيرة، تنزع إلى تشويه ملامحهما وتضخيم قسمات وجهيهما لخلق انطباع معاد لهما لدى المتفرج رافض لتدهورهما الأخلاقيّ. أمّا الخيار الثّاني فيتمثّل في تسطيح الخلفيّة وإلغائها بمنحها لونًا محايدًا يغيّبها أكثر ممّا يجلب إليها الانتباه، أو بالحدّ من عمق المجال وهو ما يصرف انتباه المتفرج إلى الواجهة، حتى تنصبّ على ملامح الممثّل المحرّفة رصدًا للمؤثر الوجداني القائم طيّها وخلقًا للاشمئزاز لديه يحصّنه من التّعاطف مع الشّخصيّة.

وحاصل الخيارين واحد هو جعل سلم اللّقطات متحوّلاً ينزع إلى تحويل قراءة اللّقطة المتوسّطة التي عليها عماد الفيلم من رصد وضعية الجسد في الفضاء وسبل تعامله معه، إلى رصد ملامح الممثّل إثر وضعية ما. ممّا يكشف مدى التّعقيد السّيميائي للمنظور السّردي ومؤثّرات صوره. فالفيلم يتنزّل ضمن منظور حسي حركي تترابط فيه الأحداث عضويًا وفق قانون الصّورة. تمثّل أطروحات “جون بيار اسكينازي” مدخلاً مهمًا يعمّق فهمنا للفيلم. فللحركة منه -سواء كان مأتاها الكاميرا أو الشّخصيّة- دور هام في ضبط تمثّل المتفرّج للأثر السّينمائي. وعمليّة إدراك الحركة هي في ذاتها حركة إدراك. فحركة الكاميرا البطيئة وما يتحقّق منها من لقطات تحدّد موقعا ماديا للمتفرّج في الفيلم وتمنحه وجودًا افتراضيًا وموضعًا للإدراك يصطلح عليها “اسكينازي” بالأنا افتراضيّة التي يجعلها أسلوب “صلاح أبو سيف” تجوب الفضاء وتتسلّل بين الممثّلين فتتملى العالم، وتعمل على تأوله وضبط مواقفها وسلم قيمها من خلال تقييم تجربة شخصيات الفيلم فيه. فيقترب من “سالم” ليدرك غيرته من “محجوب عبد الدّايم” وفرط ندمه وهو الذي خوّل له أن يتقدّم عليه في السّلم الوظيفي وأن يصبح صاحب سلطة عليه ونفوذ، أو يقترب من “محجوب” ليرصد ريبته أولاً من “سالم” وزهوه بانتصاره عليه ثانيًا. ولمّا كان الفيلم كائنًا تذكاريًا منظّمًا لسلسلة من التّأويلات والانتظارات يستدعي الصدام بين الرجلين إلى ذاكرة المتفرج الضمني أحداثًا سابقة كمعرفة “سالم” بأسرار “محجوب”، ويصيبه بعدم الاطمئنان لانسحاب “سالم” وتظاهره بالهزيمة وينبّهه لما في مشهد الطلب والتّوسّل ظاهرًا من التهديد المضمر والابتزاز غير المعلن ابتزازًا يدركه محجوب ويقرر ألا يخضع له وقد احتمى بـ “قاسم الوزير”. 

وبدل الخضوع له أو ترضيته بلطيف الكلام، يعمل “محجوب” على الانتقام من سالم وإذلاله وقد رجحت الكفّة لصالحه، حتّى يعاقبه على معرفته بأسراره ويبرهن له، ولنفسه خاصّة، أنه كان على حق حينما قبل الوظيفة نظير اقتسامه لجسد زوجته مع “قاسم”. فيكشف صلفه عن شدة تدهوره وتمزّقه الباطني ولوهنه هذا وعجزه عن مواجهة نفسه يعمل على الدّفع بصراعه النّفسيّ إلى الخارج في شكل صراع مادي مع “سالم”. فيكتشف المتفرّج الضمني عندها قدرة اللّقطة الطّويلة وحركة الكاميرا منها على تجسيم العنف بطريقة سينمائيّة فنيّة أكثر تأثيرًا مما اقترحه “نجيب محفوظ”، أن ينتهي الفيلم على تقاتل الرّجلين فعلاً وأن تسيل دماؤهما غزيرة. ولهذه الأنا الافتراضيّة أن تبتعد بمقدار يسمح لها بقراءة الصّورة من منطلق ما فيها من الأحداث فتمثّل الحركة على الشّاشة وضعيّة يمنحها الفيلم للمتفرّج. فنرى هذا الأخير يُعطى وضعيّة أو بالأحرى موقعًا في الفيلم. وعندما يتعرّف إلى وضعيته في الحركة ويسلّم بها، يصبح بشكل من الأشكال منتهاها ونقطة تلاشيها. وبالجملة يمنحه موقعه الافتراضي المتنقّل بنقلة الكاميرا موقعًا للإبصار داخل الفيلم نفسه بما يجعل من زاوية النّظر معطى داخليًا ضمن الصّورة في حالة حركة. فحالما يتعرّف المتفرّج على موقعه داخل “القاهرة 30” يحدّد مشاركته في إنتاج معناه ومداره على وضع “محجوب” المفارق فهو كلّما ارتقى في السّلم الوظيفي والاجتماعي يمتهن الإنسانيّ منه أكثر، ويتحوّل إلى وحش آدميّ تجسده تحريفات وجهه عند اقتراب الكاميرا منه لتمنح المتفرّج لقطة كبيرة.

لقد مثّلت الحركة عنصر بلاغة الفيلم وعماد لغة المخرج السّينمائيّة المميّزة فكانت ثنائيّة المصدر تنشأ من تنقّل الكاميرا كما تنشأ من تنقّل الممثّل في الفضاء وفق صيغ مختلفة. فيحدث أن نجد بين حركة الطّرفين تناغما وموازاة كما يحدث أن تتناظر حركة الممثّل مع حركة الكاميرا مركزيًا من خلال نقطة وهمية تشكّل مركز التّناظر الافتراضي فتتجه ال��اميرا يمينًا، فيما يتجه الممثل يسارًا أو العكس. كما في بعض المواطن من لقطة التّحدي بين “سالم” و”محجوب”، لتولّد لدى المتفرّج شكلا ًمن أشكال الدّوار يمثّل فاعليّة فرجة تحثه على إدانة ما انتهى إليه الخصمان من تدهور أخلاقي. تولّت حركة الكاميرا تحديد موقع المتفرّج الضّمني ومنحه موطن الإدراك، وأنا افتراضيّة تلاحق الكاميرا وتتملى ما تتملاّه، وتتحكّم في سلّم اللّقطات ونزعاتها في التّأطير، وطرق تشكيل الصّور، وأنماط الصّلات بين قطاعاتها. كما تولّت تحديد أداء الممثّل فكانت عنصرًا ناظمًا مشكّلاً لبلاغة الأثر السّينمائي، بما يتعارض جوهريًا مع بلاغة رواية “محفوظ” التي تنحدر من كيفيّة نسج الرّاوي للكلمات وتشكيل عوالم سرده منها. ولمّا اتّصف الكلام كان تنقّل راوي “القاهرة الجديدة” بين أزمة الشّخصيّة المختلفة مقوّم الرّواية الأبرز. فكان ينطلق من حاضرها فيصوّر عشق إحسان لـ “علي طه” ليستعيد ماضيها ويذكّر بتاريخ أسرتها المتأصل في الرّذيلة منفتحًا على مستقبلها الذي يكرّس قانون الخضوع للوسط الاجتماعيّ، وكان من منطلق الحركة في الزّمن يشكّل عوالم السّرد. أما في الفيلم فقد توفر للمصوّر الأكبر مستوى ثان هو المساحة والفضاء وما فيهما من الأبعاد والألوان والأشكال ونسب تباين الأضواء، فعمل على استثمار هذا المعطى لخلق فعاليات الفرجة، وحث المتفرّج الضّمني على استنتاجات دون غيرها. وكانت حركته في هذا المستوى مقوّمًا جمالّيًا أساسيًا. ولا يخصّ الأمر أثر “صلاح أبو سيف” وحده أو آثار غيره من المخرجين ممّن يغلّبون اللّقطة الطّويلة أو اللّقطة المتوالية بكثافة في أعمالهم، فالمونتاج السّريع يمنحنا بدوره هذا النّقل في الفضاء ويجعلها سبيل تشكيل عوالم السّرد الأول بتنويعه بين زوايا التّصوير ومواطن الإدراك. ولا غرو فالخطاب السّينمائي تشكيل بصري أوّلا.

لقد مثّل طول اللّقطة وحنكة المخرج في تشكيلها حلقة مفقودة من تقبّل النّقد السّينمائي لأثر “صلاح أبو سيف” فلم نجد من التفت إليها أو توسّع في سماتها، وقد جاءت القراءات على اختلافها سريعة، فاتهم أثره برتابة التّقطيع الفنّي لعدم تغيير زوايا التّصوير ولكثرة اللّقطات الطّويلة، أتهم ضمنًا بمسرحة السّينما. ولئن بالغ الممثلون أحيانًا في الأداء، كما فعل “حمدي أحمد” في الانحناء أمام “قاسم” عند لقائهما الأول، أو في تمطيطه في حركة قدمه وهو يستند إلى كرسيه الفاخر في مشهد التّحدي، فيلطّخ ثياب “سالم” كناية عن احتقاره له أو مبالغة “سالم” و”محجوب” على حدّ سواء في إبراز قسمات الوجه للإيحاء بالمؤثر العاطفي بما يتماشى مع وضعيّة إدراك متفرّج المسرح، لبعده عن الممثلين. فإن الفرق الجوهري الذي غفل عنه هذا النّقد يمتثّل في أن متفرّج المسرح لا يمتلك تلك الأنا الافتراضيّة التي تنتقل من موضع إدراك إلى آخر باختلاف زوايا التّصوير وسلّم اللّقطات أو بتدرّج حركة الكاميرا كما الأمر في السّينما، وأنّ للّقطةِ الطّويلة خصائصها الإنشائيّة المختلفة كأن يكون المونتاج معطى داخليًا كائنًا ضمنها. وأن يعمل الفيلم على المواءمة بين حركة الكاميرا وحركة الشّخصيّة، وأن يكفل العبور الوظيفيّ من سلم لقطات ثابت إلى لقطات متحولة باستمرار وفق تقدير ما قبليّ. فيذكّي التّفاعل بين المواضيع في قطاعات الصّورة. فاللّقطة الكبيرة أن تتحول بفعل انتقال الكاميرا إلى لقطة عامة، وللواجهة أن تتحوّل إلى خلفيّة بما يمثّل مضايق وإكراهات يلزم المخرج بها نفسه وبما يقتضي الاستعداد المحكم ضبطًا لنسب الإضاءة ولأجهزة الرّصد وأنواع التبئير. فـ”صلاح أبو سيف” في تقديرنا قد ألزم نفسه بما لا يلزم حينما اختار اللّقطة الطّويلة والمقاربة الجماليّة الأصعب فجعل من الفيلم عرضًا لمدى سيطرته على الفضاء السّينمائي وقدرته على تحويله إلى عنصر تشكيلي متحرك. ممّا يباعد بين “القاهرة 30” وخصائص الإنشاء في المسرح. ثم إنّ الممثل على الخشبة كائن حقيقيّ يجهد في إقناع المتفرّج بكونه علامة، أما في “القاهرة 30” فهو كائن من ضوء ولون وعلامة تعمل على إقناع المتفرّج بكونها كائنًا حقيقيًا.