إعلام أوروبي للاجئين العرب

 
محمد موسى 
 
أرغمت أزمة اللاجئين العالمية المتواصلة حكومات دول أوروبية، من التي استقبلت أكثر من غيرها أعداد غير مسبوقة منهم، على تغيير سياسياتها الداخلية، والسماح مجدداً للغات أجنبية من دول بعيدة بالعودة إلى إعلامها ودوائرها الرسمية، وبعد أن كانت هذه الدول تتجنب ومنذ منتصف عقد التسعينات الماضي استخدام لغات أخرى عدا لغاتها الوطنية في مؤسساتها الحكومية، كجزء من مساعيها وقتها لتشجيع خطط الاندماج التي يعرقلها أحياناً جهل مهاجرين بلغات البلدان الجديدة التي يعيشون فيها. بيد أن فداحة مشكلة اللاجئين والتي لم تعرف أوروبا مثيلاتها منذ الحرب العالمية الثانية، وخطر التنظيمات الإرهابية مثل “داعش”، ضغطت على دول أوروبية من أجل أن تعيد ترتيب أولوياتها مجدداً، لتضع قضية التفاهم السريع مع اللاجئين في اهتماماتها، حتى لو عنى ذلك التواصل معهم بلغاتهم الأُمّ.
 
والحال أنه يمكن قراءة السرعة التي تم فيها تحضير وإطلاق منصات إعلامية أوروبية تتوجه إلى اللاجئين الجدد، من منظار الأمن، والذي يشغل مؤسسات خاصة في الإتحاد الأوروبي، كشفت في مناسبات عديدة عن قلقها الشديد من قوة وتنظيم الحرب الإعلامية التي يشنّها “داعش” من وراء البحار، وقادت إلى تجنيد مئات وربما آلاف الشباب الأوروبي المسلم في حروب التنظيم في الشرق الأوسط. 
كما خصّص الإتحاد الأوروبي ميزانيات ضخمة لتنظيم وإطلاق إعلام يتصدّى لبروباغندا الإعلام المتطرف. صحيح أننا لا نعرف لليوم ملامح هذا الإعلام الأوروبي الخاص، لكنه لن يخرج في سماته العامة، عن خطاب المؤسسات الإعلامية الأوروبية الحكومية، والأخيرة هي من يطلق اليوم مبادرات إعلامية خاصة باللاجئين.
 
وعلى الرغم من اهتزاز وضع اليسار في العديد من الدول الأوروبية وتراجع تمثيله في البرلمانات والحكومات هناك، وهو التيار السياسي الذي كان دائماً متعاطفاً مع قضايا العالم البعيد وكوارثه، اقتنعت حكومات أوروبية بتوصيات مؤسسات إعلامية وإنسانية ببدء مشاريع إعلامية ضخمة تتوجه إلى اللاجئين. وهي المشاريع التي تتعرّض لانتقادات واسعة من الأحزاب الشعوبية الأوروبية، لا تختلف في حدّتها عن انتقادات الأحزاب ذاتها لسياسات حكوماتها في استقبال اللاجئين، بخاصة الآتين من العالم الإسلامي، لما تراه هذه الأحزاب من خطر دائم يرتبط بوجود هؤلاء. كما أن الأحزاب ذاتها تذكر دائماً بأن على دولها أن تحلّ أولاً مشاكل الجيل الثاني والثالث من أبناء مهاجرين من دول إسلامية قبل أن تستقبل المزيد منهم.
تختلف طبيعة المبادرات الإعلامية الأوروبية الخاصة باللاجئين والتي بدأت في الأعوام الأخيرة، فمنها ما هو مرحلي ومؤقت، انطلق كاستجابة عفوية لظروف طارئة، مثل البرامج التلفزيونية باللغة العربية التي عرضتها قنوات تلفزيونية في ألمانيا واليونان، والتي بدأت في أَوْجِ أزمة اللاجئين في صيف العام الماضي، وحاولت أن تتفاعل وتساعد في تسهيل معضلات آنية.
 
في المقابل انطلقت في العام الأخير في دول أوروبية مثل ألمانيا وهولندا، مؤسسات إعلامية ترتكز على هيكليات رصينة، ويتوقع لها أن تستمر لسنوات قادمة، بخاصة مع غياب مؤشرات أن أزمة اللاجئين في طريقها إلى الانتهاء، أو أن أعدادهم ستعود إلى مستويات ما قبل العامين الأخيرين.
تحتلّ اللغة العربية مكانة أساسية في كل الخطط الإعلامية الحديثة، فهي وإلى جانب اللغة الإنكليزية تمثل اللغة المشتركة في كل المبادرات الجديدة. يأتي هذا الاهتمام استجابة لنسبة المتكلمين بالعربية من عدد اللاجئين الكلي، ولأهمية الوصول والتأثير إعلامياً على الآتين من الشرق الأوسط بالتحديد لاعتبارات أمنية ملحّة، وعدم الرغبة بتركهم رهن إعلام خارجي بالكامل. ورغم أنه من المبكر الحديث عن أثر هذه المبادرات الإعلامية الجديدة على مشهد الإعلام العربي التي أصبحت جزء منه، لكن من المؤكد أن هذه النوافذ التي فتحت حديثاً، سيكون لها جمهوراً عربياً متنوعاً، بعضه لا يعيش في أوروبا.
 
هولندا الآن
يندرج الموقع الإلكتروني “هولندا الآن” (www.netinnederland.nl)، ضمن مشروع إعلامي كبير للتلفزيون الهولندي الرسمي، وهي المؤسسة الإعلامية الأكثر شعبية في البلاد. فبحسب إعلان من مدير المشروع العام الماضي، يخطط التلفزيون الهولندي الرسمي إلى إطلاق برنامج تطبيقي للأجهزة الإلكترونية على غرار ما تقدمه شركة “نتفليكس” الأمريكية، يقوم بتقديم برامج التلفزيون الهولندي الرسمي مع ترجمة بالعربية والإنكليزية مجاناً للراغبين. كما أن هناك خططاً لإنتاج برامج خاصة باللاجئين تعرض على المنصة الإعلامية ذاتها.
 
يُوفّر الموقع الإلكتروني والذي بدأ نشاطه قبل أشهر قليلة فقط، معلوماته بثلاث لغات هي: الهولندية، الإنكليزية والعربية. ويتألف من قسمين رئيسين: معلومات عامة على شكل مقالات مكتوبة تقدم صورة محدودة عن الحياة في هولندا. والقسم الآخر هو برامج منتقاة من التلفزيون الهولندي تعرض مترجمة إلى العربية. كما أن هناك أفلاماً تعليمية عن الحياة في هولندا، منها عن طرق استخدام المواصلات العامة، الرعاية الصحية، وإيجاد العمل.
يتعثر الموقع الذي لازال في بداياته في إيجاد التصميم المثير، إذ يبدو تصميمه الحالي وكأنه يعود إلى سنوات سابقة من عمر الإنترنت، كما لم يجد الموقع حلولاً لإظهار النصوص العربية فيه بشكل أنيق، وهي مشكلة مزمنة للعديد من مواقع المؤسسات الأوروبية التي تتعامل مع النصوص العربية. والأهم من كل ذلك، أن شق المعلومات الذي يقدّمه الموقع يبقى محدوداً كثيراً، ويتوجه إلى الذين يصلون لتوّهم لهولندا، ولن يعود نافعا للذين قضوا أشهر في البلد، وهي الفئة التي تحتاج أكثر من غيرها إلى تواصل أكبر مع الإعلام الهولندي.
 
 
على صعيد البرامج التي تم ترجمتها للعربية من التلفزيون الهولندي، فهناك انتقائية محيرة لبرامج بعينها لا تحمل أهمية فنيّة أو موضوعية كبيرة، ولن تساعد كثيراً في دفع المشاهد في التفاعل مع ما يقدمه التلفزيون الهولندي، والذي تعدّ برامجه من أفضل ما يقدم على الشاشات التلفزيونية الأوروبية لجودتها وأصالتها ( تأتي هولندا في المرتبة الثالثة بعد الولايات المتحدة والمملكة المتحدة في إيرادات بيع الأفكار التلفزيونية في العالم). فهناك غياب في الموقع لبرامج عديدة جيدة، بعضها حواري وأخرى تحقيقي، بالإضافة إلى غياب الأفلام التسجيلية، والتي تحظى باهتمام خاص على التلفزيون الهولندي الرسمي. 
 
دويتشه فيله 
حتى قبل أن تطلق مؤسسة “دويتشه فيله” الألمانية قناتها الثانية بالعربية والتي تهتم بشكل كبير بأحوال اللاجئين في ألمانيا، كانت قناتها العربية الأخرى والتي بدأت منذ سنوات، قد أولت هذا الجانب اهتماماً كبيراً، يعكس العدد الهائل من اللاجئين الذين استقبلتهم ألمانيا في العامين الأخيرين. لذلك لم تكن القناة الجديدة انعطافة كبيرة في عمل المؤسسة الإعلامية الحكومية الألمانية، بقدر كونه تعديلاً في سياساتها التحريرية، لتولّي قضايا اللاجئين الجدد مساحات مهمة في برمجتها. 
استفادت “دويتشه فيله” من فريقها العربي في تدعيم قناتها الجديدة، وهو الفريق الذي أثبت جدارته في القناة الأصلية التي يعمل فيها، إذ تحجز القناة الإخبارية الألمانية حصة من الفضاء العربي المزدحم بالقنوات التي تقدم الأخبار على مدار الساعة. كما تقوم القناة الجديدة بترجمة برامج ومسلسلات ألمانية للأطفال والبالغين إلى اللغة العربية وتعرضها على شاشاتها، إضافة إلى عرض بعض البرامج الشعبية من القناة الأصلية أيضاً.
 
 مواقع التواصل الاجتماعي 
وفي موازاة مبادرات مؤسسات إعلامية أوروبية لتسهيل الحياة للاجئين الجدد من الأصول العربية، هناك نشاطاً آخر لا يقلّ شعبية لصفحات عربية خاصة على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث تنتشر وتتكاثر هذه الصفحات الخاصة التي غالبا ما يديرها مجهولون، وتتخصص بتقديم معلومات، وتجميع ما ينشره الإعلام عن قضايا اللاجئين في أوروبا. فهناك اليوم صفحات باللغة العربية خاصة بكل بلد أوروبي تقريباً، تنشر على مدار الساعة أخبار ومعلومات وصور، وأحياناً مشاهد فيديو يقوم بتصويرها هواة.
 
يعكس الاهتمام الكبير بصفحات أو مجموعات مواقع التواصل الاجتماعي، شعبية الإنترنت بين الشباب اليوم، في مقابل تراجع معدلات مشاهدة التلفزيون التقليدي بينهم، وكما تبيّن جميع الإحصاءات المتوافرة. بيد أن المادة الصورية التي تستخدمها هذه الصفحات ترجع في معظمها إلى قنوات التلفزيون الأوروبية الجديّة، والتي تشكل بتاريخها الطويل وتقاليدها العريقة مصدراً موثوقاً للأخبار، على عكس الفوضى التي تجري اليوم على مواقع التواصل الاجتماعي، من نقل أخبار كاذبة أو مضللة، تقلق هي الأخرى الحكومات الأوروبية.
 
لا شك أن المنافسة التي تخوضها المؤسسات الإعلامية الأوروبية الحكومية للوصول والتأثير باللاجئين والمهاجرين الجدد حامية كثيراً، فإلى جانب الإنترنت وشعبيته الكبيرة، ينافس الأوروبيون بإعلامهم الجديد قنوات تلفزيونية متعددة الجنسيات والخلفيات، والتي تبث بلغات المهاجرين الأصلية، مثل القنوات العربية الفضائية التي تصل اليوم إلى كل مكان، والتي أسس بعضها علاقات وثيقة مع جمهور واسع، انتقل بعضاً منه إلى الدول الأوروبية أخيراً. 

إعلان