الدورة التاسعة عشر لمهرجان الإسماعيلية
رشا حسني
دون الإفصاح أو التصريح المباشر من إدارة مهرجان الإسماعيلية للأفلام التسجيلية والروائية القصيرة ورئيسه الناقد “عصام زكريا” عن موضوع معين يتبناه المهرجان هذا العام وتدور في فلكه معظم الأفلام المعروضة، يمكن وبسهولة أن نستشف عدة موضوعات مترابطة كانت حاضرة وبقوة في مُختلف مسابقات وأقسام الدورة التاسعة عشر للمهرجان التي امتدت من 19 وحتى 23 أبريل 2017. دارت معظم أفلام المهرجان هذا العام في فلك الموضوعين الأكثر بروزًا على مستوى العالم وهما “الحرب والإرهاب” سواء في البلدان التي تعاني من الحرب وتقع تحت وطأتها القاسية أو حتى البلدان التي لا تعاني منها، فالجميع يتأثر بالحرب ولكن بأشكال مختلفة. فاللاجئين على الحدود بين الدول نتاج لهذه الحروب الشرسة والعنيفة، وفي نفس الوقت يؤثرون في الدول التي هم على حدودها. كما أن الحرب تؤثر على كل شيء، فكل القيم والمعاني الإنسانية والحياتية تتأثر بالحرب، قيم مثل الحب والحلم والرغبة في الحياة واستمرارها، إلى جانب أن الحرب تقترن بعدة موضوعات أخرى منها السلطة والقهر والموت، ومن بين كل الأفكار والمواضيع السابقة تنوعت أفلام المهرجان.
الأفلام التسجيلية
راديو كوباني

حصل الفيلم الهولندي “راديو كوباني” للمخرج “ريبر دوسكي” على جائزة أحسن فيلم تسجيلي طويل في دورة هذا العام من المهرجان كما حصل على جائزة لجنة تحكيم النقاد كأفضل فيلم في المهرجان. يتناول الفيلم الموضوع الذي تم تناوله من خلال أكثر من فيلم تسجيلي في أفلام هذا العام، وهو الدمار الذي تعرضت له مدينة كوباني والتي تقع على الحدود السورية التركية من قِبل تنظيم “داعش” ومقاومة سكان كوباني من نساء ورجال وتكوينهم لجيش جبهة للدفاع عن مدينتهم وتحريرها ثم إعادة تعميرها مرة أخرى.
تناول الفيلم فكرة الحرب والدمار وما يترتب عليها من خراب من خلال شخصية الفتاة “ديلوفان” المراسلة الصحفية التي تبلغ من العمر 20 عامًا والتي تؤسس محطة إذاعية باسم راديو كوباني تبث من خلالها أخبار المدينة وتستضيف من خلالها شخصيات تروي ما حدث لها خلال فترة الحرب وكيف أثرت تلك الحرب عليهم. ينتقل مخرج الفيلم “ريبر دوسكي” من الخاص إلى العام فيبدأ الفيلم برسالة توجهها “ديلوفان” إلى طفلها الذي لم يولد بعد، تقرأها ويتم بثها عبر إذاعة راديو كوباني، تخبره فيها عن الحرب وماذا فعلت الحرب بها وكيف تعاملت معها لننتقل بعدها مباشرة إلى مشهد تسير فيه “ديلوفان” بين أطلال المدينة المدمرة وتصعد إلى مبنى يقف وسط هذا الحطام والدمار لنكتشف أن في هذا المبنى بدأت “ديلوفان” وصديقتها المقربة مشروعهما “راديو كوباني” في إشارة واضحة إلى أن من رحم الخراب والدمار يمكن أن يولد الأمل. وعند نقطة النهاية يمكن للبعض أن يرى البداية من جديد.

عبر دوسكي بصريًا عن المراحل السردية في الفيلم وعن فكرة الفيلم بشكل عام وهي إصرار وصمود أهل كوباني على الدفاع عن مدينتهم ورغبتهم في استمرار الحياة من خلال مراحل الفيلم اللونية التي بدأت بالألوان الزرقاء والرمادية الباهتة التي تتماشى وجو الحرب والدمار وصولاً إلى مرحلة البناء التي تتسم باللون الأصفر الفاتح لون الشمس وكأنه أراد أن يقول أن الشمس كانت قد امتنعت عن الشروق في كوباني طوال فترة الحرب ثم عادت لتشرق مع عودة الحياة إليها. كما تأكد ذلك من خلال استخدام دوسكي للأغاني التي تحمل أوزانها نفس المعنى، فلا يرتبط معرفتك بلغة كوباني من عدمه شعورك بما تحمله ألحان الأغاني من بهجة وفرح، ليخصص دوسكي آخر جزء في الفيلم لتتبع نشأة قصة الحب بين “ديلوفان” وصديقها وتبادلهما الهدايا في عيد ميلادها، وصولاً إلى مشهد عرسهما في إشارة إلى بداية حياة جديدة.
ميَل يا غزيَل

“ميَل يا غزيَل” للمخرجة “إليان الراهب” هو الفيلم الفائز بجائزة لجنة التحكيم الخاصة وتدور أحداثه عن “هيكل” الرجل الذي يعشق حبات رمال وأشجار وأحجار أرضه التي تقع في منطقة “الشمبوق” أعلى مرتفعات “عكار”، والذي تمسك بها ورفض أن يبيعها أو أن يغادرها حتى تحت وطأة ظروف الحرب والفتنة. ومن خلال حكاية “هيكل” تتعرض “الراهب” إلى كثير من المواضيع التي تتعلق بالأرض والحرب والفتنة وهوس الاضطهاد ولكن دون فجاجة أو مباشرة بل على العكس قدمت “الراهب” هذه الأطروحات من خلال سرد بصري أخاذ يُشعرك بالارتباط بهذه الأرض وبهذا المكان حتى وإن كنت لا تنتمي إليه. عنوان الفيلم باللغة العربية هو عن اسم أغنية فلكلورية غنتها المطربة نجاح سلام أتقنت “الراهب” استخدامها وتوظيفها في الفيلم خاصة في الفصل والانتقال بين فصول الفيلم الثلاثة. أما عنوان الفيلم باللغة الإنجليزية “Those who Remain” أو “أولئك الذين بقوا” فهو العنوان الأقرب لفكرة الفيلم ومضمونه لأنه يعبر وبشكل مباشر عن شخصيات الفيلم الرئيسية “هيكل” و”أنطوان” وحتى “رويدا” التي رفضت ترك “هيكل” وحيدًا بعد تبدل الحال ومؤازراتها له ووقوفها وتحديها لأهلها من أجل البقاء إلى جواره. فكان بقائها بقاءً معنويًا ووجدانيًا وليس فقط بقاءً ماديًا.

تحيلنا الراهب من خلال فيلمها إلى العناصر الأولية في الحياة والوجود: الأرض، السماء، الهواء والماء، وتؤكد من خلال استخدامها للغة سينمائية على أهمية هذه العناصر في سردية الفيلم وبنائه. يظهر ذلك بوضوح من خلال أحجام اللقطات الواسعة التي تضم على سبيل المثال الأرض والجبال والسماء وفي أحيان أخرى تضم الأرض والماء ثم تركز على أرض “هيكل” أثناء حكيه عنها وعن أشجار التفاح التي يزرعها ويظهر بين هذه الأشجار بحميمية شديدة وكأنه بين أصدقائه أو أقربائه. ثم تنتقل إلى لقطات قريبة ومتوسطة عندما ينتقل “هيكل” إلى البيت الذي يبنيه والذي يمثل بناؤه حلم من أحلام حياته، فتركز “الراهب” على يديه وهو يعمل وحيدًا ويضع أحجار البيت حجر فوق حجر. كما تولي “الراهب” اهتمامًا واضحًا بالجزء الذي يحكي فيه “أنطوان” عن الغابة الوحيدة الباقية بالمنطقة وتتخير لحظة غروب الشمس لتظهر الغابة وكأنها جنة من جنان السماء على الأرض وبين لون شمس الغروب وخضار الأراضي الزراعية وبياض الثلج تكون “الراهب” صورة طبيعية أخاذة عن “هيكل” وجيرانه وأرض لبنان.
الأفلام الروائية القصيرة وأفلام التحريك
مستورد

“مستورد Import” هو فيلم روائي قصير للمخرجة البوسنية “إينا سانديدرافيش”. حصل الفيلم على تنويه خاص من لجنة التحكيم، وتدور أحداثه عن عائلة بوسنية تحصل على حق اللجوء إلى “هولندا” وتستقر في إحدى القرى الصغيرة وتحاول التكيف مع الوضع الجديد. تعبر المخرجة من خلال تكوينات فنية مُعبرة عن علاقة الأسرة بالأماكن الجديدة التي يعيشون فيها ويذهبون إليها بشكل يومي، مثل منزلهم والمستشفى محل عمل الأم، والحديقة التي يذهب إليها الأطفال. وهي أماكن لم يستطيعوا بعد التكيف معها، فنجدهم دائمًا مجتمعين على حافة الكادر وفي الناحية الأخرى من الكادر مساحة خالية. تكوين يوحي بعدم الارتياح والاعتيادية، خاصة مع تكراره على مدار أحداث الفيلم.
صمت

“صمت Silence” للمخرج “شادي عون” هو فيلم تحريك تدور أحداثه حول مدينة “غبرا” التي تخضع لقانون يفرض على سكانها الصمت التام ويكون الموت هو مصير الذي يخرج عن هذا النظام المفروض من قِبل السلطة أو النظام الحاكم لهذه المدينة في تعبير عن الاستبداد الذي ما يكون عادة مقدمة لتفسخ المجتمعات المكبوتة، كما يكون ذريعة لمجتمعات أخرى لغزو هذه الدول بغرض تحريرها. حتى يتمرد بالفعل مجموعة من الشباب على هذا النظام القمعي ويعبروا عن تمردهم ومعارضتهم عن طريق الرقص في طرقات المدينة أمام أعين الأشهاد فيكون مصيرهم القتل رميًا بالسهام.
يبدأ “عون” فيلمه بصورة مشوشة ومهتزة لشخص يبدو وكأنه حاكم المدينة يلقي خطابًا أو بيانًا على أهل المدينة. ثم في اللقطة التي تليها لقطة لفتاة يُحدث صوت أساور يديها صوت يكسر حالة الصمت المفروضة على المدينة التي يعلو جدرانها لافتات تحمل عبارة “الصمت إلزامي”، فيأتي إليها أحد الحراس في الشارع ويروعها بقوسه مدببًا سهمه إلى عينيها ثم تنطلق فيما بعد بعد رحيل الحارس رقصًا في الشارع مُتحدية بذلك الحراس والقوانين إلى أن تلقى مصيرها المحتوم.
عبر “عون” بصريًا عن فكرته بطريقة بصرية مميزة من خلال الحالة اللونية الرمادية التي تكسو هذه المدينة الميتة، ومن خلال ملابس الحراس وأقنعتهم التي تخفي وجوههم وكأنهم هم أنفسهم ميتون وليسوا على قيد الحياة. في حين تضج الفتاة الراقصة بالحيوية والنشاط ويظهر لون فستانها الأزرق ولون أساور يديها الذهبية أكثر مقارنة بالحالة العامة للمدينة. فتظهر الفتاة تملئها الحياة والحيوية والانطلاق في مقابل الجهل والصمت والقهر والخنوع. كما اعتمد “عون” فكرة التضاد منذ بداية فيلمه وحتى نهايته ليوضح تلك الفروقات. حصل فيلم صمت على جائزة لجنة التحكيم الخاصة.
مساحة فارغة

“مساحة فارغة Empty Space” فيلم تحريك للمخرج الإستوني “أولو بيكوف”. تدور أحداثه عن “ميريكا” الفتاة التي تبلغ من العمر عشرة أعوام والتي تتلقى هدية عبارة عن بيت مُصغر ذو أثاث خشبي صغير جدًا من والدها الذي لم تكن تعرف عنه شيئًا حتى بلوغها هذه السن، والذي تغيب عنها لاختبائه من القوات السوفيتية أثناء الحرب العالمية الثانية.
يُلقي الفيلم بظلاله على أحد الجوانب المظلمة للحرب وما تفعله بالبشر من خلال قصة شديدة البساطة والرهافة. وهي علاقة “ميريكا” بوالدها التي كانت تحتاج أن تكبر في حضنه وإلى جواره وأن يُلبي لها احتياجاتها. ومدى خيبة أملها عندما تلقت هذه الهدية في الوقت الذي كبرت فيه عن اللعب. يتجسد ذلك الشعور جليًا من خلال نظرة “ميريكا” الشخصية الحقيقية لبيت الألعاب أمامها في آخر مشاهد الفيلم نظرة حسرة وحرمان على الأعوام التي لم تعشها مع والدها وعلى اهتماماتها التي لم تشاركه إياها في حينها.