“True Detective” .. لعنة النجاح الأول

طارق خميس

“ما أسوأ ما يمكن أن يحدث لمبدع ما؟” يجيب محمود درويش: “أن يكون عمله الأول هو الأجمل”. الشيء نفسه ينسحب على “المسلسل” بوصفه عملاً إبداعيًا، مع وجود فارق مهم هو أن “المسلسل” من اسمه، يتسلسل بأجزائه المتعددة ليخلق عمليات إبداع، وليس عملية واحدة. ولكن الاسم هنا يقسو على المسمى، نقول مسلسل بالمفرد لكنه موجود بصيغ الجماعة إبداعيًا، وهذا ما يجعلنا دائمًا نقارن المواسم ببعضها للعمل الواحد.

حين يحمل المسلسل اسمًا فإن مواسمه التالية لها علاقة نسابة بالموسم الأول، لا يقرأ الموسم الثاني منه مثلاً بوصفه عملاً مستقلاً حتى لو كان ذا قصة وشخصيات مختلفة كليًا، وهذا السبب الرئيسي في إخفاق الموسم الثاني من “True Detective” أكثر من كونها أسباب موضوعية تتصل بالعمل من داخله. خلق الموسم الأول عالمًا تعلق به الجمهور وحينما تهيأوا لإيجاده مرة أخرى في موسمه الثاني لم يجدوه.

الموسم الثاني: عبقرية النهايات

في الواقع، تفوّق الموسم الثاني 2015 من المسلسل على الموسم الأول من حيث الفنيات، على مستوى اللقطات والزاوية وبناء الأمكنة. خصوصًا الجو المهيب الذي كانت تخلقه محادثة البار، وأغنية My Least Favorite Life المرافقة الدائمة التي جعلت المشهد يبدو أكبر من حوار عادي يجري بين شرطي وزعيم عصابة. كما أننا أمام سيناريو مركّب جدًا، مليء بالتشابكات والشخصيات؛ التي من الممكن أن تثقل المشاهد أو تجذبه في آن واحد. فريق مكوّن من ثلاثة محققين تجمعهم الهشاشة ومهمة التحقيق في جرائم يقف خلفها شخصيات كبرى في المدينة.

الموسم الثاني

لدينا الشرطي “ريف فالكورو” – يلعب دوره “كولين فاريل” – مدمن الكحول والمطلق، والذي لا يمنعه من الانهيار الكلي سوى ابنه الصغير الذي يثابر على تحسين علاقته به لكن الابن لا يبدو متحمسًا لذلك. وهناك الشرطية “آني” -تلعب الدور “رايتشل مكأدامز”- التي تحاول أن تكنس مشاكلها العاطفية والأسرية تحت بزّة الشرطية الصارمة والمثابرة. وينضم لفريق التحقيق هذا شرطي بمواهب متواضعة “باولو ويدرج” جعلته الصدفة قريبًا من حتفه، بهوية جنسية مثلية يثابر على إنكارها.

يتقاطع مع هذا الفريق زعيم العصابة “فرانك سيمون” -لعب دوره “فينس فون”- الذي يواجه حقيقة أن زمانه قد ولّى، وأن حقائق جديدة آخذة في التشكل يبدو أنها لا تأخذه بعين الاعتبار. ولكن عالم العصابات لا يحيل المتعبين إلى التقاعد بل إلى الموت. ويمكننا القول إن ميتته حملت من العبثية والكبرياء ما يجعلها من أجمل مشاهد النهايات التي يمكن أن نراها. “نهاية رجل شجاع” بكل ما تحمله الكلمة من معنى وتطابق مع رواية “حنة مينا”. على يد عصابة هامشية كان موته، يمشي وهو يجر جسدًا نخرته السكاكين وذكريات الطفولة في القبو، مدفوعًا بحرص على نفسه الأخير؛ لأن ثمة حبيبة تنتظره بثياب الفرح، ولأن انتصاره الممزوج بالضعف والكبرياء هذا، قُسّم على اثنين: “زمنه” و”إرادته” فلقد وصل ولم يصل، لأنه حين التفت وجد جسده قد خانه منذ زمن وسقط ميتًا.

 

 

بطريقة لا تقل تراجيدية، غادر “ريف فالكور” الحياة. حاصرته مجموعة مسلحة تتبع للجهة المتضرّرة من التحقيق الذي يجرونه، اختار الاشتباك معهم وحده بين الجبال بما يملك من ذخيرة، ولأنه رأى الموت على بعد أنفاس قليلة، فلقد أرسل عن طريق هاتفه رسالة صوتية لابنه بمثابة الوصية الأخيرة، ضغط زر الإرسال واستقبل رصاصاتهم برحابة صدر. لكن الرسالة لم تصل لخلل فني وهذا ما لا يعرفه “فالكور” لأنه قد مات. عبثت تفاهة التكنولوجيا هنا بأقدس الأشياء، كلماتنا الأخيرة قبل الموت.

تجتمع التفاهة مع الكبرياء لتخلق لدينا الإحساس العالي بهشاشة الحياة وعظمة الموقف في آن واحد، وتتركنا هكذا بدون عزاء يذكر أمام الانتصارات غير الكاملة والنهايات الحتمية. هذا الخط الفلسفي في الموسم الثاني متصل بطريقة التفافية مع الموسم الأول لكنه متصل بالنهاية.

 كان الموسم الثاني طافحًا بالتراجيديات وعظمة المصير الفردي. امتزجت بفظاعة اجتماعية وقسوة أنيقة ترتدي البدلات وتحكم المدن، على عكس الموسم الأول الذي كان ذات أجواء ريفية. ويستفيد كاتب النص “نيك بيزولاتو” بذكاء من عالم التحقيقات الجنائية في جعل التطور الغامض لازمًا لأدرينالين يفرز حول عنقه محاولاً خنق نفسه. لكنه تطور بطيء يغزل أكثر منه يهرول، مما اضطر منتج العمل أن يدعو المشاهدين من على حسابه في تويتر إلى انتظار الحلقة الأخيرة وعدم التعجل في الحكم.

 في الواقع هذا أمر أساسي في فهم أسباب إخفاق الموسم الثاني، لقد دُفع بكل الحبكة التي يمتلكها الموسم إلى حلقته الأخيرة. هناك وجدت شخصيات المسلسل نفسها على لقاء مصيرها التراجيدي الأخير الذي وصفناه أعلاه، والذين لم يملكوا النَفس لانتظار الحلقة الأخيرة، كانوا قد خرجوا خائبي الآمال من هذ الموسم. 

"راست كول" في الموسم الأول

الموسم الأول: عبقرية الشخصية 

نجد أنفسنا في الموسم الأول (2014) أمام شخصية مركزية وحيدة وهي “ماثيو مكوناوي” بدور “راست كول” ويمكن القول إنه أفضل أداء لـ “ماثيو” على الإطلاق، متفوقًا بذلك على دوره في فيلم Dallas Buyers Club 2013 
نجح ماثيو في أن يؤدي مستويين لشخصية واحدة، وساعده الاستخدام الذكي لـ “فلاش باك” في تقديم “ماثيو الشاب” و”ماثيو العجوز”، ماثيو الشاب يبدو غامضًا وجادًا ويتحرك ببدلة أنيقة بعض الشيء، ودفتر كبير يشبه دفتر رجال الحسابات الحكوميين (وهو اللقب الذي كان يطلقه عليه زملائه).

 كان يعتقد بأننا ندفع ثمن حماقة أجدادنا الذين قبلوا “الوعي” وانفصلوا عن القردة، ولتصحيح هذا الخطأ التاريخي علينا التوقف عن الإنجاب. وأن نخلد إلى الفناء لكي يختفي هذا “النوع البشري” غير المثير للاهتمام والجالب للمشكلات. ولكن كيف لهذه الروح العدمية المغرقة في اللامبالاة أن تكون مثابرة في عمل التحقيقات الجنائية، وهي مهنة –كما هو معروف- تتطلب الاهتمام المفرط بالناس؟ 

في الواقع إن إخلاصه لمهنته هو الحبكة الأساسية التي تقوم عليها القصة. إنه ليس إخلاصًا تمامًا بقدر ما هو “هوس”. يبدو كما لو كان يطارد استنتاجاته أكثر من مطاردته للقاتل المتسلسل، فإن كان لابد أن ننهض من الفراش كل يوم فلنركض خلف هلوساتنا لآخرها. وكان من المناسب جدًا لكي نرى هذه الشخصية بكل وضوح أن يكون رفيقها بالعمل هو “وودي هارلسون” بدور “مارتي هارت” الذي أدى دوره بإتقان شديد علينا ألا نتجاهله. يكفي أن تراه يدفع باطن شفته السفلى بلسانه حتى تعلم حجم الورطة التي يشعر بها شخص مثله. إنه شخص بسيط لا يحب الأسئلة الكبيرة وبدت له فلتات لسان “ماثيو” الوجودية لا تُحتمل، كما أن صمته لا يحتمل. يحاول قدر الإمكان المحافظة على زواجه في ظل فلتاته السلوكية هو أيضًا. فيما يبدو لغز القاتل المتسلسل أمامه ثقيلاً، لكنه أقل وطأه من العمل بقرب هذا الغامض المتسلسل “رست” الذي لا يكف عن إثارة قلقه ودهشته.

"راست كول" في الموسم الأول

في “ماثيو” العجوز يصبح سكيرًا لكنه لا يفقد ثيمته الوجودية الأساسية، وإنما يحوّلها لسخرية ما أمكنه; متخففًا من ملامحه الجدية في شبابه. مما زاد من بريق الشخصية وجاذبيتها. مسلسلات الشخصية الواحدة -المعمولة بإتقان- تجعل من المسلسل يتفوّق إذا تفوّقت الشخصية الواحدة. فمثلاً يغفر المرء بساطة الحبكات في “taboo” من أجل الدور المتقن لـ “توم هاردي”. ونشاهد House من أجل “الدكتور هاوس”. وباستثناء ذوي الاهتمامات الطبية فإننا لا نتذكر شيئًا من التشخيص والأمراض التي كان يعالجها لكننا نتذكر جيدًا “قفشاته” وسخريته وتعابير وجهه. لكي ينجح المسلسل ذو الشخصية الواحدة عليه أن يكون لديه شخصية واحدة بالفعل. وهذا ما كان موجودًا في الموسم الاول.

    نقطة ضعف الموسم الأول هي نفسها نقطة قوّة الموسم الثاني. ففي نهاية الموسم الثاني لم ينتصر الخير، ومن أمكنهم النجاة فروا بجلدهم، ومن أطبق عليهم الموت ماتوا كما يرغبون بطريقة تليق بنزاهتهم. وعلى العكس تمامًا كانت نهاية الموسم الأول رومانسية الطابع، أفسدت شخصية عظيمة يعدّ العبث فيها مركزيًا فيها، لتجعلها تنظر للسماء وتتفاءل بالقادم!
 في الحوار الأخير الذي جمع “ماثيو” بــ” هارلسون ” في المستشفى، كنا أمام شخصية جرى فرطها سريعًا على الورق كما لو كان كاتب السيناريو قد تفاجأ بأنه يحتاج إلى نهاية وتساءل: “كيف تكون النهاية عادة؟”

ما يشبه خاتمة

 قرأت مرّة حوارًا مع المخرج الأمريكي ” تورنتينو” قال فيه: “إن مسلسل True Detective لم يعجبه بالمرّة، حيث بدا جديًا أكثر من اللازم بشخصياته المتجهمة التي تخلو من الحياة والظرافة” هكذا يقول، من شاهد أعمال “تورنتينو” Pulp Fiction 1994 أو Reservoir Dogs 1992 أو حتى عمله الأخير الذي يختلف بعض الشيء The Hateful Eight 2015 يمكنه أن يفهم تمامًا تعليقه على العمل.

لا يقارب “تورنتينو” العنف إلا وهو يلعب به وبأجوائه. لكن أقسى مشاهده لا تعتبر عنيفة في النهاية، بل تجعل الإيقاعات البطيئة وقتًا ظريفًا للانتظار. أقول هذه الملاحظة ختامًا، لأنني عادة أسأل من يريد مشاهدة True Detective للمرة الأولى: “هل تحب أعمال “تورنتينو؟”

 

 


إعلان