البطل الأخلاقي في الفيلم الشعبي المصري

أمير العمري

عرض فيلم “رصيف نمرة 5”- إخراج نيازي مصطفى، في فبراير عام 1956، ولم تكن قد مرت أربعة أعوام على قيام حركة ضباط الجيش التي أطاحت بالحكم الملكي، وأسست الجمهورية المصرية. وكان العسكريون الشباب الذين حسموا أمرهم وقرروا في مارس 1954، أن يحكموا بأنفسهم، وكانوا يتمتعون بشعبية كبيرة مشبعة بروح يملؤها الأمل والاستبشار من جانب الشعب المصري، الذي كان يتطلع لرؤية نظام جديد، ينصف المظلومين وتنال فيه الطبقات المحرومة الضعيفة حقوقها.

ولأن من قاموا بتلك الحركة لم يكونوا من الضباط الكبار، بدا أنهم أيضا منحازون لصغار الفلاحين ضد الإقطاع، ولصغار الضباط والجنود وليس لكبار القيادات التي اعتبرت “رجعية” أو “محافظة”، لذلك فقد ظهرت أفلام كثيرة في تلك الفترة، تتركز على شخصية الضابط الصغير أو العسكري البسيط، الذي ينتمي إلى البسطاء والفقراء، لكنه يتمتع بالطيبة والشهامة والإخلاص المثالي لبيته وعمله ووطنه، وأنه مستعد للتضحية بحياته من أجل مقاومة الفساد والإجرام وضبط الأوضاع في الشارع.

شجعت الحكومة الجديدة هذا الاتجاه الذي كان يرمي إلى عقد مصالحة مع الطبقات الشعبية، عن طريق إبراز دور أبنائها وما يتحلون به من قيم أخلاقية رفيعة في مواجهة أبناء الطبقات الكبيرة (من الإقطاعيين والرأسماليين) الذين بدأ النظام ينقض عليهم بشكل تدريجي وصل إلى ذروته “الأولى” مع تمصير الشركات والبنوك عام 1957 بعد إصدار قوانين الإصلاح الزراعي وتحديد الملكية الزراعية في سبتمبر 1952 ثم جاءت الذروة الثانية في 1961 مع صدور قرارات التأميم الاشتراكية.

العملاقان زكي رستم وفريد شوقي في فيلم "رصيف نمرة حمسة" لنيازي مصطفى

رصيف نمرة 5

في “رصيف نمرة 5” تتجسد القيم النبيلة كلها في شخصية “خميس” التي يقوم بها فريد شوقي، وهو “شاويش” في شرطة البحرية المصرية في الإسكندرية، من أصول شعبية، متزوج ويعول ابنا وابنة. وكانت شرطة البحرية في ذلك الوقت تتعامل مع عصابات تهريب المخدرات وتطارد المجرمين في منطقة الميناء. ولكن رغم فقر خميس الواضح، فإنه يرفض الرشوة التي يعرضها عليه شقيق زوجته الذي يتعامل مع عصابة مهربي المخدرات، كما يرفض محاولات العصابة المتكررة شراءه وضمان ولائه أو صمته، ثم تهديده، ثم يتعرض لمكيدة تتسبب في إعفائه من عمله بعد أن يفقد سلاحه بتأثير حالة الفزع التي انتابته عندما اتصلت به سيدة مجهولة وهو في موقع عمله، تخبره – كذبا- بوفاة ابنته الصغيرة.

يتزعم عصابة التهريب والاتجار في المخدرات التي لا تتورع في سبيل تحقيق أهدافها عن الخطف والقتل، “المعلم بيومي” (زكي رستم) الذي يبدو أمام الجميع رجلا تقيا ورعا، لا يفوّت فرضا من الفروض، يتظاهر بأنه رجل الخير والمعروف والإحسان، لكنه هو الذي يدير الأمور كلها من وراء الستار، يعاونه من جهة أخرى، المعلم “عرفان الفرارجي” (محمود المليجي) الذي يلجأ أولا إلى استخدام القباقيب الخشبية في تهريب الهيروين، وهي حيلة سرعان ما يكشفها “خميس”، ثم بعد ذلك إلى استخدام الحمام الزاجل في تهريب الكوكايين. وعندما يضيق خميس على العصابة، وتفشل كل خططها الرامية إلى ردعه ثم إلى قتله، لا يصبح أمام المعلم بيومي سوى أن يقتله بنفسه، لكنه يخطيء فيقتل بدلا منه زوجته (ملك الجمل) التي بدلت مكان نومها في تلك الليلة، وتشاهده المرأة الخرساء “بهانة” (نعيمة وصفي) وهو يفر من مكان الجريمة.

يشك خميس في المعلم عرفان، ولكن الشرطة لا تستطيع العثور على دليل يدينه، وعرفان يتردد على مسكن امرأة جميلة هي “نزهة” (هدى سلطان) التي تعمل مغنية وراقصة تسلي الزبائن في “خمارة بحري” التي تمتلكها العصابة وتدير منها نشاطها، وهي المعادل في هذا الفيلم لما يعرف بـ “الخٌص” او الكوخ الكبير الذي نشاهده على الطريق في كثير من أفلام الخمسينيات، يجتمع فيه الزبائن من الصعاليك وأفراد العصابة الذين يعملون في الميناء، لتناول الخمور والاستماع إلى غناء “نزهة” التي لا تعرف حقيقة ما يقوم به عرفان، ثم تبدأ في التذمر من قسوته معها، تريده إما أن يتزوجها أو يتركها تذهب، لكنه يهددها بالقتل، ويرغمها على مواصلة الغناء لزبائن الخمارة.

يتمكن خميس بعد مفارقات عديدة من التوصل إلى قاتل زوجته، أي المعلم بيومي الذي تتعرف عليه المرأة الخرساء “بهانة” فيكون مصيرها القتل. وفي النهاية يعود خميس إلى عمله بالبحرية بعد تكريمه، ويتزوج المغنية التي تكون قد فرت من العمل بالخمارة وأصبحت ترعى طفليه.

تمتع "خميس" بحياة هانئة قبل أن تقتل زوجته.

صور نمطية

هذا هو موجز الفيلم الذي يتخذ خط الفيلم البوليسي thriller في إطار ميلودرامي واضح يمتليء بالمبالغات والمصادفات القدرية، كما يغالي في تصوير قوة “البطل” (شجيع الشاشة كما كان يعرف وقتها فريد شوقي) وقدرته على إنزال الهزيمة بأعدائه، باستخدام القبضة الحديدية.

في الفيلم عصابة تهريب، شاويش مطرود من الخدمة ظلما يحاول استعادة سمعته والانتقام لما حل بأسرته، سلسلة من جرائم القتل البشعة، امرأة جميلة طيبة القلب مرغمة على العيش (في الخطيئة) مع مجرم لا تكتشف حقيقته سوى قرب النهاية قبل أن تهرب، زعيم عصابة يتستر بالدين ليواصل إدارة الأعمال غير القانونية، أناس طيبون (مثل بائع الجمبري والمغنية) وأشرار مثل مساعدي المعلم عرفان، مشاجرات عديدة تقع داخل “الخمارة” أي ذلك المقصف الذي يجتمع فيه أفراد العصابة، ومطاردة في حارة ضيقة بين خميس والمعلم عرفان تنتهي بمقتل عرفان على يدي المعلم بيومي الذي يتمكن من الهرب. باختصار هناك صراع شرس بين الخير والشر ينتهي كما هي العادة، بانتصار الخير على الشر.

تشبث "خميس" بمنظومة قيمه الأخلاقية حتى انتصرت في النهاية.

خميس هو الرمز المجسد للخير والاعتزاز بالنفس، كونه ينتمي للفقراء الذين “يرضون بقليلهم”- كما يردد حرفيا في بداية الفيلم- وهو أيضا متدين ومتمسك بالأخلاق من دون مغالاة، يحب أسرته ويحرص على بيته كما يحترم عمله ويخلص له مهما كلفه الأمر. هذا هو البطل الشعبي الجديد الذي أتى بعد حركة ضباط الجيش في 1952. وهو أيضا شأنه في هذا شأن معظم الأبطال الشعبيين في الفيلم المصري التقليدي، رجل يؤمن بالقضاء والقدر، يهتم بالمظاهر الدينية التي يتفاءل بها ويعتبرها مقدمة لأن ينصره الله على أعدائه. فهو يقيم “حضرة” أي حلقة إنشاد ديني قرب نهاية الفيلم بعد نجاح ابنه (عليوة)، يقدم خلالها الطعام والشراب للجميع (رغم فقره وحاجته الواضحة). وخلالها تتعرف المرأة الخرساء على القاتل، وبعدها مباشرة تنجلي الحقيقة ويقع القاتل في قبضة خميس، وكأن معجزة إلهية قد وقعت.

في فيلم "توحة" نموذج المرأة المتسلطة التي تستخدم الجميع لتحقيق أهدافها.

توحة

هذا هو شأن البطل في فيلم “توحة” (1958) – إخراج حسن الصيفي- أي “رشاد” (يقوم بدوره محسن سرحان) وهو ينتمي أيضا للطبقة الشعبية الفقيرة أو المستورة- كما يقال، فهو سائق في شركة “أبو رجيلة” التي كانت تدير شبكة النقل العام في مدينة القاهرة قبل أن يطالها التأميم في أوائل الستينيات، لكنه يتمتع بالشهامة وطيبة القلب والقدرة على أن يكتم غضبه ويمتنع عن ارتكاب المعاصي رغم الإغراءات الشديدة التي يتعرض لها من جانب السيدة الحسناء أي “المعلمة توحة” (هند رستم) رمز الأنوثة الصارخة، التي تتحكم في الحارة كلها، فهي رغم كونها امرأة من الطبقة الشعبية إلا أنها تتميز عن الجميع بما تمتلكه، فهي تملك المقهى والفرن ومحل البقالة، وتستخدم أي رجل ترى أنه يمكن أن يساعدها في تنفيذ مآربها الخاصة، تغريه ثم تتزوجه، وبعد أن يستنفذ غرضه تطلقه، فهي تصر على الاحتفاظ بالعصمة في يدها. لقد تزوجت حتى الآن أحد عشر رجلا، كلهم كانوا يشتركون معها في الشر والجريمة، أما الاستثاء الوحيد فهو بطلنا.. رشاد.. النقي، الطاهر، الذي يقيم مع شقيقته (زهرة العلا) التي لم تتزوج بعد، وهو لا يتطلع إلى المال ولا يخضع أمام القوة، ولا تغريه كل ما تلوح له به المعلمة توحة من مال وجاه، وتلجأ هي إلى التهديد بعد فشل الإغراء، ثم إلى محاولة تصفيته جسديا أيضا، لكنها في قرارة نفسها، تكون قد بدأت تحبه، إنها تحب قوة شخصيته التي تجعله لا يرضخ لها ولا يخشى بأسها مثل الآخرين، بل إنه بفضل إيمانه بالله، يتمتع أيضا بالقوة الجسدية التي تجعله يتمكن عند الضرورة، من قهر أعدائه.

“رشاد” يضرب مثالا حيا لأعدائه في التسامح وطيبة القلب، فهو يرعى أبناء المعلم “فجلة” (محمود اسماعيل) الزوج الحالي للمعلمة، وقد تزوجته فقط لكي يساعدها في التخلص من رشاد رغم حبها للأخير، فالشر غالب عليها، ولكن رشاد بقدرته الكبيرة على التسامح، يجعل توحة تتغير، تضعف بفعل الحب، ثم تسقط مريضة تحت وطأة إرهاقها النفسي خلال انتقالها من عالم الشر، إلى عالم الخير، لكنها تتمكن أخيرا من اجتياز الأزمة بفضل “رشاد” الذي يكتشف أنه أصبح يحبها بعد أن تغيرت وأصبحت من الخيرين!

أما المعلم “فجلة” فينال عقابا إلهيا عندما تدوسه سيارة فينتهي الأمر به وقد قطعت ساقه، وأصبح عاجزا يسير مستندا على عكاز خشبي. ومن تلك اللحظة يبدأ “الإنسان” الذي في داخله يستيقظ، خاصة تحت التأثير الأخلاقي لرشاد “البطل” الشعبي الذي ينتمي لنفس الطبقة الشعبية، لكنه يتميز عن الآخرين بأخلاقياته وتمسكه بالقيم الدينية.

هند رستم جسدت شخصية توحة

صورة التائبة

تقترب الكاميرا من وجه المعلمة وهي تجلس في فراش المرض، على خلفية صوتية لاحتفال ذي طابع ديني، تبتسم، تقترب الكاميرا من وجهها أكثر فيضيء بنور الإيمان والرضا. ولكن ما هذا الاحتفال الديني الذي يشارك فيه كثيرون ممن يدقون الدفوف ويحملون البيارق والأعلام، يتمايلون يمينا ويسارا على دقات الدفوف وهم ينشدون في ذكر الله؟ الإجابة تأتي على لسان مساعد المعلمة وهو رجل طيب كان يعرف أن طيبة قلبها ستنتصر في النهاية على نوازع الشر في داخلها: “دي ليلة عاملاها المعلمة توحة لسيدي الأربعين.. ودبحت له 3 عجول وصلحت الجامع بتاعه”!

“توحة” تنهض من الفراش، تهبط السلم، تذهب إلى الفرن الذي تملكه، تقرر تسليم نفسها للشرطة مع المعلم فجلة الذي تاب أيضا بفضل وقوف رشاد موقفا إنسانيا معه في محنته، فقد كفل أبناءه الأربعة بينما كان في السجن، لقد علمه نعمة الإيمان وفضيلة التسامح، والآن يصر “فجلة” على أن يدفع هو ثمن جرائمه، يعلن أولا تطليق توحة أمام الجميع، لكي يتيح لها أن تبقى وتلحق بحبيبها “رشاد” على صوت دقات الطبول والدفوف وذكر الله!

تقابلات

هدى سلطان ومحمود المليجي في رصيف نمرة خمسة

المرأة- أي “نزهة”- في “رصيف نمره 5” ضعيفة، مهيضة الجناح، مضطرة للعمل لدى المعلم “عرفان الفرارجي” والعيش في كنفه، لكنها أمام هول ما يحدث وبعد اكتشافها جرائمه، تقرر الفرار وتلجأ إلى منزل “خميس” ترعى طفليه، وتعلن توبتها عن العمل في “الخمارة”. فقد أصبح بطلنا “خميس” مثلا أعلى لها ولغيرها، تماما كما كانت طهارة “رشاد” وتمسكه بالفضيلة وعدم استجابته للطمع والشهوة، سببا في توبة “المعلمة توحة” وتخليها عن حياة الشر، رغم أنها- على النقيض من شخصية “نزهة” في الفيلم الأول، شخصية قوية مسيطرة، تملك الجمال والقوة والمال.

بطل أخلاقي

في الفيلمين عنف ومشاجرات وجرائم قتل، ونماذج شريرة تتصارع مع نماذج طيبة، وهو صراع لا يدور حول المال أو الملكية، بل بين الخير والشر، ويكون الوازع الديني في كلا الفيلمين، هو المؤثر الذي يلعب الدور الرئيسي في انتصار الخير على الشر، وتحويل الأشرار إلى طيبين. وبالتالي يمكن اعتبار الفيلمين بهذا المعنى من “الأفلام الأخلاقية”. فالعامل الحاسم في كليهما هو ذلك الموقف الأخلاقي للبطل. فهو نقيض المعلم بيومي مدعي الدين في “رصيف نمرة 5″، ونقيض شراهة الرغبة في الاستحواذ ولو بالقتل في “المعلمة توحة”.

وكان الجمهور- خاصة جمهور الدرجة الثالثة -الترسو- مهيأ في ذلك الوقت، لأن يتماثل مع “البطل” فهو مثله، يتحدث بلغته ويرتدي ملابسه، ويعتنق القيم التي تربى ونشأ عليها سكان الأحياء الشعبية. ولكن صورة البطل تتغير مع تغير المجتمع.

 

 


إعلان