الفقد الخلاب في سبعة أفلام

أسماء الغول

فيلم "Manchester by the Sea "

كيف للفُقدان أن يكون خلابًا؟ وكيف لمشهد وداع أن يأخذك معه لأقصى حد، فيتلبس بك وتتلبس به، ويحرقك الألم؟

يحدث ذلك كله حينما يكون الفقيد طفلاً!في فيلم Manchester by the Sea “مانشستر على البحر”2016، للمخرج وكاتب السيناريو “كينيث لونرجان”، كانت الغصة الأكبر هي اللحظة التي اكتشف فيها المشاهد أن عزلة “لي تشاندلر” سببها فقدانه أطفاله الثلاثة بسبب خطئه في إغلاق المدفأة بالشبكة بعد أن لقمها بالأخشاب. وهي ذاتها اللحظة التي يصل فيها الفيلم إلى ذروته. وما عدا ذلك يقود إلى ما قبل تلك اللحظة وما بعدها، ويستمر الفيلم في عرض المزيد من عزلة الأب وإحساسه الشديد بالذنب والحزن. وقد مثل الدور الممثل “كيسي أفليك” ببراعة استحق عليها أوسكار أفضل ممثل خلال العام الحالي 2017.

الضوء بين المحيطات the light between oceans

تعتبر ثيمة فقد الأطفال في الأفلام بمثابة اللعبة الخطرة التي يتحداها العديد من المخرجين لإثبات قدراتهم وقدرات الممثلين. ففيلم “the light between oceans” للمخرج “ديريك سيانفرانس”، يتركك منهكًا من الحزن، ويستنفد مشاعرك بالإحساس الذي ينقله من الشاشة إلى قلبك مباشرة، إلى درجة تشعر معها أن براعة الممثلين والمخرج فاقت الحد الذي تتحمله كمُتابع، فيترك ثقبا في قلبك بعد المشهد الذي تفقد فيه الأم طفلتها. وقامت بهذا الدور الممثلة “إليسا فيكاندير”. وقصة الفيلم باختصار تتحدث عن الشاب “توماس” وقام بدوره الممثل “مايكل فاسبندر” وهو شاب أسترالي عائد إلى وطنه، يبدو حزينًا بعد مشاركته في الحرب العالمية الأولى. ويختار أن يكون عاملاً في فنار بجزيرة تقع بين محيطين في “أستراليا”. ويعيش وحيدا على الجزيرة إلى أن يقابل فتاة تصبح زوجته لاحقًا وتنضم إليه، وتبدأ مشاهد العواصف البحرية موازية للعواصف العاطفية والنفسية التي تمر بها البطلة بسبب حملها المتكرر وإجهاضها في كل مرة، حتى أُضيف لجزيرتهم عدة قبور.

فيلم "the light between oceans"

 وفي يوم يصل شاطئ الجزيرة أحد الزوارق الذي يحمل رجلاً ألمانيًا يهرب من نبذ المجتمع الأسترالي له، فهو من حلف الأعداء، وتكون بصحبته ابنته الرضيعة. لكنه حين يصل يكون ميتًا، وتعتني زوجة توماس بالطفلة، وتقرر تربيتها وتعيش دور الأمومة الذي تفتقده، ويعيش معها المشاهد، وهكذا لا يُبَلغ توماس عن الزورق أو الألماني المتوفى، وتزيد شواهد القبور شاهدًا آخر. تذهب زوجة توماس لزيارة عائلتها والأصدقاء ومعها ابنتها التي تقول إنها ولدتها وحدها على الجزيرة، ويتعلق الجميع بالطفلة الجميلة، وتخف هواجس الأم النفسية، وتكبر السعادة مع الثلاثة على الجزيرة، لكن إحساس الذنب يتعاظم لدى “توماس” الذي يكتب رسالة صغيرة من مجهول إلى والدتها الحقيقة، لكن يبدأ اكتشاف أمره من قبل الشرطة منذ تلك اللحظة. وهكذا تبدأ مَشاهد سحب الطفلة منهما وسط صراخها، فهي لا تعرف سوى والداها ووالدتها وحيواناتها الأليفة على الجزيرة. ولا يمكن لك إلا أن تبكي خلال هذه المشاهد التي لم تكن مبتذلة أو مكررة على الإطلاق، بل مشاعر صاخبة ومزلزلة تضج معها كل حواسك.
 تقول لي صديقة شاهدت الفيلم في واحدة من قاعات سينما لندن ” بكيت بحرقة، وكذلك كثيرون حولي، ولم أجد معي ورق مناديل فمسحت دموعي بالكراسي!”.  إن فقدانك طفلا بالطريقة التي حدثت في الفيلم تجعلك تشعر أنه أحيانًا لا رجعة في استعادة أبنائنا، واستعادة حياتك كأنك تركتها إلى الأبد تذهب مع جزء منك، وهنا تأتي قُدرات المخرج الذي يتعامل مع فقدان الطفل بشكل مختلف عن فقدان أحد آخر. كان الفيلم بديعًا وحزينًا، لكنه لم ينل ما يستحق من جوائز ونقد. ربما اعتبره عديدون أنه غارق في البكائية والدراما والمصادفات، وهو كذلك لكن مع كثير من الحساسية والصورة السينمائية الجميلة والأداء الصادق للممثلين.

 

الجمال الجانبي Collateral Beauty

وكما نجحت أفلام في تجاوز هذه المنطقة الخطرة، فشلت أفلام كثيرة في تخطيها. فعلى سبيل المثال فيلم Collateral Beauty 2016، للممثل “ويل سميث “ومجموعة من الممثلين والممثلات الكبار؛ واحدة منهن كانت البريطانية “كيت وينسلت”، فشل فشلاً كبيرًا في نقل حالة الحزن والفقد. ويتحدث الفيلم عن رجل ناجح يدير شركة في مجال التنمية، يفقد ابنته في حادث ويعتزل الناس، ويركز المخرج “ديفيد فرانكل” على مظاهر الفقدان الخارجي كرفض الأب مقابلة زملائه في العمل، وتفضيله الجلوس بالعتمة، والتقشف بالأكل، وبشكل مواز يحاول المخرج أن يكون خط الفيلم خفيفًا وفيه فكاهة داخل الشركة بين زملاء الأب الثكلان. كما يعتمد على الإبهار البصري بتقديم الديكورات الفخمة والجميلات والذكاء الفذ للأمريكي قبل أن تصيبه المأساة، لكن التوليفة جميعها جاءت مبتذلة خاصة الحل الذي اختاره لإشكالية الفقد ومأساة الأب، وهو إرساله رسائل لمعرفة معنى الحب والموت والحياة. وصل الفيلم إلى المُشاهد هزيلاً، وفشل في شباك التذاكر رغم أن الإعلان عنه جذب الملايين.

 

الاستبدال Changeling

أحد تحديات هذه الثيمة سينمائيًا أن تؤثر على جميع المشاهدين، وليس الآباء والأمهات فقط، وهكذا كان فيلم Changeling “الاستبدال” 2008 الذي لعبت فيه “أنجيلينا جولي” الدور الرئيسي، وقد حاكه المخرج “كلينت إيستوود” بحرفية في أجواء من الغموض والإثارة تتركك في حالة حيرة عقلية أكثر منها عاطفية؛ أين ذهب ابنها؟ وهل معقول أنها لن تراه إلى الأبد؟
إن هذه المنطقة بها عبث حر بمشاعر المُتلقي وقد يكون عنيفًا في بعض المَشاهد، لتتركه يتخبط بين كثير من الأسئلة والخوف والحاجة إلى الاطمئنان، لدرجة أنه قد يذهب ليتأكد من كون أطفاله بخير.

 

الكوخ The Shack

هذا الهاجس المرعب يتركه أحد المَشاهد القاسية من فيلم The Shack “الكوخ”2017 للمخرج “ستيوارت هزلدين”، ويتحدث الفيلم عن الأب “ماكنزي” الذي أدى دوره الممثل “سام أورتنجيتون” الذي يعاني من ماض مؤلم مع والده السكير، ولكنه حين يتزوج وينجب يصبح أبًا جيدًا، وسعيدًا. ويقرر بصحبة أبنائه الثلاثة الذهاب إلى التخييم في الغابة، وهناك أثناء تواجد ابنته وابنه الكبيرين في زورق بالبحيرة يسقطان، ما يجعل ماكنزي يقفز لينقذ ابنه الذي علق تحت المركب، تاركًا ابنته “ميسي” خلفه ترسم، وينقذ ابنه بالفعل، ولكنه حين يعود لا يجد ابنته الأصغر عمرًا، ولن يجدها في أي مكان على الإطلاق! ويأتي المشهد القاسي حين تعثر الشرطة على فستانها الأحمر ملطخًا بالدماء في أحد الأكواخ المهجورة بالغابة، ويصرخ الأب بحرقة يتردد صداها في أنحاء الغابة، ليعيش مع الحزن إلى أن يتلقى رسالة في صندوق بريده، موقعة باسم “بابا” وهو الاسم الذي كانت تطلقه الطفلة “ميسي” على الرب، وتخبره الرسالة أن يعود للكوخ، وبالفعل يذهب إلى هناك ليبدأ الجزء الخيالي من الفيلم والذي أضعف الفيلم كثيرًا. وهو عبارة عن نقاش مع الرب وتلعب دوره الممثلة “أوكتافيا سبنسر”، وهناك يرى الجنة ويقابل والده، ويتصالح مع ماضيه ويتقبل خسارته.

 إلا أن مُتلقي الفيلم لا يتقبل هذه الخسارة بعد أن يتعلق بالطفلة “ميسي”، فهو لم يشاهدها ميتة في أي لقطة حتى مع فستانها المضرج بالدماء حيث من المفترض إنها كانت ضحية مجرم هارب من العدالة، ولم تفلح تلك النقاشات المملة وملامح الوجه البلاستيكية للممثلين الذين يؤدون دور الوسيط بين البطل والآخرة في أن تقنع المُشاهد كي يكف عن انتظار الابنة “ميسي” لتعود إلى الحياة في أي لحظة، وهو ما لا يحدث!
إن مثل هذه المَشاهد تخاطب غريزة التعاطف مع براءة الطفولة، وعدم تقبل موت الأطفال في وحشية الغرق أو الحرق أو القتل، إلا أنها أفلام في غالبيتها تحمل الطابع الفلسفي والعاطفي، تقودك كي تؤمن أن الحياة تمشي بقسوتها وغدرها حتى على الأطفال وقد يكونون أطفالك.

 

كل شيء سيكون على ما يرام Every Thing Will Be Fine

وهذه الوحشية تجدها مبطنة في المشهد الذي يبدأ به فيلم   Every Thing Will Be Fine     “كل شيء سيكون على ما يرام” 2015، للمخرج “فيم فيندرس”، ففي مساء شتوي، وعلى طريق ريفي، حيث يتساقط الثلج، ولا تتضح الرؤية، يصطدم الكاتب الروائي “توماس أدى” في طريقه بطفل، فيشعر بالرعب، وينزل سريعًا من السيارة ويتفحص حالة الطفل ويطمئن عليه، ولا ينبس الطفل بحرف واحد، ويمشي معه إلى منزل والدته التي تفتح لهما الباب، وتستمع إلى “توماس” الذي يخبرها ما حدث بارتياح، ولكنها تنظر إلى ابنها وتسأله “أين شقيقك؟”، فيركضون إلى السيارة ليجدوه تحت عجلاتها، دون أن تظهر جثة الطفل في المشهد، بل ترك المخرج الخيال للمُشاهد.
لقد خدعك المَشهد منذ البداية، لذلك لن تستطيع أن تنساه، أو تغفر للمخرج تعمده أن يترك غصة في حلقك، حتى لو قدم إشارات كصمت الشقيق الذي كان يبدو مصدومًا، وهذه كانت بداية الفيلم وذروته ليستمر باهتًا بعد ذلك، إذ يبدأ “توماس” بالشعور بالانهيار، وتتأثر علاقته بصديقته التي تؤدي دورها الممثلة “ريتشيل ماك آدمز”، وتمر أعوام طويلة قبل أن يتواصل مرة أخرى مع الشقيق الذي نجا، ويكون تواصلاً عبثيًا غير مؤثر في الفيلم.

 

الخلود Éternité

أخيرًا إلى أيقونة هذه الأفلام، فيلم يتناول ثيمة فقد الأطفال بشكل فلسفي وبسيناريو عميق، هو الفيلم الفرنسي Éternité “الخلود” 2016 للمخرج الفيتنامي “تران آن هانغ”، ولا يمكن وصفه بقصة معينة، لأنه فيلم مفتوح على الموت والولادة، يتبع خط هذه الولادات والوفيات المبهرة لتكون هي رابط الفيلم، وحبكته دون أن يقدم لنا صراعا ما. بل يركز على عائلة كبيرة تلعب مصادفات الحرب والمرض والحوادث فيها الدور الأكبر لتقضي على أطفال العائلة وفتياتها وفتيانها من جميع الأعمار على مر الزمن. والفيلم ذو بعد فلسفي عميق مخالف لمنطق الحبك السينمائي والروائي الذي يحتاج أسبابا ومقدمات لوقوع الموت والحب والولادة، بل يعتمد على جمال الصورة السينمائية ومشاهد الأطفال المؤثرة في سعادتها وموتها، ويُفلسف الفقد خلال ساعة وخمس وخمسين دقيقة تخلو تقريبًا من الحوار، فهو يعتمد على الرَاوِية العَلِيمة التي تسرد مسار الأحداث وموت كل هؤلاء وولادة غيرهم، دون أن تورط المُتلقي بتفاصيل أحد منهم، بل تحدثنا عن الحياة والموت من داخل المعاني ذاتها، ومن خارج حياة الشخصيات. وتكون أول وفاة في الفيلم تُفجَع بها الأم التي تؤدي دورها الممثلة الفرنسية “أودري تاتو”، من نصيب طفلها الرضيع “إيتيان” فترثيه الرَاوية بالقول:
“لقد تذكرت الانتظار المُهدر، شهور من الحلم، والآن هذا الفراغ بين ذراعيها، وزن ناقص، ثقب الدفء، الغياب”.

 


إعلان