نهاية عصر أقراص “دي في دي”
محمد موسى
تتضافر منذ بضع سنوات عوامل عدة لتسريع نهاية عصر أقراص “دي في دي” والتي أصبحت تلوح في الأفق، فبينما تتعاظم في العالم الغربي بوتيرة سريعة للغاية شعبية شركات تزويد الترفيه عبر الإنترنت (نتفليكس، أمازون، وغيرها)، وتواصل مشكلة القرصنة الإلكترونية للأفلام والمسلسلات وغياب أيّ حلول فعليّة أو ناجحة لوقفها أو تحديدها، يتقلص كل عام سوق أقراص “دي في دي”، وهذا يعني خسارة شركات السينما لمصدر الدخل الأكبر لها، ويزيد من ضبابية العلاقة المستقبلية بين الوسائط الترفيهية، وخصوصية كل واحدة منها، والطرق التي نتلقى بها الترفيه.
وإلى جانب القرصنة وشركات الترفيه الإلكترونية، هناك أسباب أخرى تُضيق على سوق “دي في دي” أهمها: سعر الإقراض المرتفع والذي لم يتراجع بسبب المنافسة، شعبية قنوات السينما التلفزيونية والتي توفر خدماتها مقابل اشتراكات خاصة، خدمات المشاهدة حسب الطلب للأفلام والمسلسلات التي توفرها شركات تزويد القنوات التلفزيونية في المنازل في العالم الغربي، المواقع الإلكترونية لاستئجار الأفلام (“آي تيونز”(itunes) التابع لشركة “آبل”، وشركات أخرى) والتي توفر الإمكانية لمشاهدة أفلام مقابل دفع مبلغ مالي، تنامي شعبية خدمات الحوسبة السحابية “كلاود” (cloud) والتي تُسهل الاحتفاظ بالبيانات الإلكترونية ومنها الأفلام ومرونة التعامل معها ومشاهدتها عبر أكثر من جهاز، خدمات البث التدفقي للأفلام (streaming) من صالات السينما إلى المشتركين في بيوتهم.
تمثل شركات تزويد الترفيه عبر الإنترنت الخطر الأعظم على سوق “دي في دي”، وكما بينت أرقام مبيعات عام 2016 في الولايات المتحدة، إذ تجاوزت لأول مرة المداخيل التي جمعتها هذه الشركات (6.2 مليار دولار) المبلغ الإجمالي لبيع الأقراص (5.4 مليار). وحسب البحث الذي أجرته مؤسسة “organization Digital Entertainment Group” الأمريكية، والذي يُبيَّن ارتفاعا في معدل نمو شركات الترفيه الإلكترونية بنسبة 23% وانخفاض في بيع أقراص “دي في دي” بنسبة 7%. كما بيَّن بحث أجرته جامعة “Yinan Yu” في هونغ كونغ، قام بدراسة سلوك المستهلكين في الولايات المتحدة لأقراص أفلام وبرامج تلفزيونية متوافرة على خدمات شركات الإنترنت الترفيهية، أن وجود مادة ترفيهية ما على واحدة من هذه الشركات يؤدي إلى انخفاض كبير في بيع أقراص المادة ذاتها في الأسواق. كما أن انتهاء حقوق عرض مادة ترفيهية على شركات الإنترنت ورفعها من خدمات هذه الشركات، يقود إلى ارتفاع سريع في بيع “دي في دي” الخاص بها في الأسواق.

ورُغم أن الشركات السينمائية العملاقة لا تسمح بوضع أفلامها الشعبية أو الحديثة على خدمات شركات الإنترنت، كما أنها تكون مترددة بمنح حقوق الأفلام القديمة التي تلقى رواجًا في سوق الأقراص لشركات الإنترنت، الا أن الشركات ذاتها ستكون مضطرة ومع استمرار انهيار سوق “دي في دي” وتواصل القرصنة الإلكترونية في المقابل إلى عدم تضييع الفرصة والاستفادة من المبالغ التي تمنحها شركات الإنترنت مقابل حقوق عرض الأفلام والمسلسلات على خدماتها. أمام المستهلك الغربي اليوم خيارات عديدة لم تكن متوافرة قبل سنوات قليلة، جميعها أكثر عملية وأقل تكلفة من المبالغ التي يدفعها لشراء أقراص “دي في دي”، فسعر قرص واحد يزيد عن ثمن الاشتراك الشهري في واحدة من شركات الإنترنت الترفيهية، والتي توفر مقابل المبلغ الشهري الامكانية لمشاهدة مئات الأفلام والمسلسلات على خدمتها. صحيح أن هذه الشركات تميل إلى شراء حقوق أفلام خاصة من التي تعجب الجمهور الواسع، لكن يمكن وللراغب الاشتراك بأكثر من شركة وزيادة الخيارات المتوافرة لديه، والتي تبقى ثمن اشتراكاتها الشهرية أقل مما يُدفع لشراء بضعة أقراص “دي في دي” في الشهر.
ولعل التطورات الأخيرة التي يشهدها سوق الترفيه عبر الإنترنت، لجهة تنوعه، وظهور شركات صغيرة تتوجه بالأفلام الفنيّة وغير الشائعة إلى جمهور باحث عن الفن المختلف، سيخصم حصة من سوق بيع أقراص المواد الفنيّة، فهناك اليوم شركات محلية وأخرى دولية يقوم نموذجها الاقتصادي على الدفع مقابل مشاهدة فيلم واحد على الإنترنت، أو دفع مبلغ شهري مقابل مشاهدة كل ما متوافر على خدمتها من أفلام لا تتوفر في خدمات الشركات الإلكترونية العملاقة.
اختفاء تدريجي
يمرّ سوق “دي في دي” في العالم الغربي بتحولات تُشبه تلك التي عانى منها قبله سوق أشرطة الفيديو في منتصف التسعينيات من القرن الماضي. إذ بدأ ذلك السوق بالاهتزاز مع وصول أقراص “دي في دي”، ثم الانهيار السريع بسبب الآثار المباشرة لتنافسه مع المنتج الجديد، من تراجع في المبيعات، وإقفال المحلات التي تؤجر أشرطة الفيديو، وتوقف شركات التكنولوجيا العملاقة عن إنتاج أجهزة الفيديو. هذه التطورات نفسها تعصف منذ بضع سنوات بسوق “دي في دي”، فمحلات تأجيره اختفت بشكل يكاد يكون كامل من المدن الأوروبية، وتوقف الكثير من شركات الكمبيوتر عن إنتاج أجهزة تضم إمكانية تشغيل أقراص بكل أنواعها ومنها أسطوانات “دي في دي”. كما شهدت الأعوام الأخيرة تراجعًا في منافذ بيع الأقراص، وبعد إفلاس مجموعة من أكبر محلات بيع “دي في دي” الأوروبية، واقتصار بيعه اليوم بشكل يكاد يكون رئيسيًا على شبكة الإنترنت.
والحال أن أقراص “دي في دي” الأكثر رواجًا اليوم لا تكتفي بالمواد الرئيسية عليها من أفلام أو مسلسلات، بل تقدم في نسخ فاخرة الكثير من المواد الخاصة والوثائقيات عن كواليس تصوير هذه الأفلام أو المسلسلات. هذه الأقراص الشعبية كثيرًا لدى جمهور وفي، والتي بدأت تتحول إلى ظاهرة في سوق بيع “دي في دي”، مهددة هي الأخرى من قبل شركات الإنترنت، فمن السهل كثيرًا توفير هذه المواد الخاصة على خدمات شركات الإنترنت. عندها لن يبقى إلا القيمة العاطفية للأقراص والتي يمكن لمسّها وخزنها، ليميزها عن المواد نفسها الموجودة على الإنترنت.
مستقبل السينما
بمقارنة المداخيل التي تجنيها الشركات السينمائية من بيع أقراص “دي في دي” مقارنة بالتي تحصل عليها من بيع حقوق عرض الأفلام ذاتها على خدمات شركات الإنترنت الترفيهية، يبدو أن هذه الشركات ستخسر الكثير من مصادر دخلها مع تراجع شعبية “دي في دي”. وهذا سيدفع الاستوديوهات السينمائية الكبيرة إلى مزيد من الاستثمار في الأفلام ذات الميزانيات الضخمة التي تتميز بمؤثراتها الصورية والصوتية الفاقعة، لزيادة خصوصية المشاهدة السينمائية في الصالات، والتي ستشكل المصدر الأهم للإيرادات في المستقبل وبعد اختفاء سوق الأقراص، بما يعنيه هذا من تواصل تخلي الشركات السينمائية عن المشاريع المتوسطة الميزانية أو ذات القيمة الفنيّة والتجريبية، والتي ستُترك للتلفزيون الذي يعيش اليوم عصرًا ذهبيًا، وأحيانًا لشركات الإنترنت، إذ أقدمت شركات مثل “نتفليكس” أخيرًا على إنتاج أفلام ذات ميزانيات متوسطة لعرضها حصريًا على خدمتها.