أزمة “نتفليكس” مع مهرجان كان السينمائي

محمد موسى

على رغم أن ريد هاستينغز، مؤسس ومدير شركة “نتفليكس”، انتقد قرار الدورة الأخيرة من مهرجان كان السينمائي الذي قطع الطريق على الأفلام التي تنتجها شركته في الوصول إلى مسابقات المهرجان، وإذا لم توافق “نتفليكس” على عرض أفلامها التي تشترك في مهرجان كان في الصالات السينمائية الفرنسية، والانتظار بعدها لثلاث سنوات قبل وصولها إلى خدمتها وكما ينص القانون الفرنسي، الا أن المدير الأمريكي ذاته، عاد وكشف بأنه سعيد بكل الانتباه الذي حظيت به تلك الأزمة في الإعلام العالمي، إذ كانت الضجة تلك قنبلة دعائية دوت على منصة أشهر مهرجانات السينما في العالم وأكثرها هيبة، ووصل صداها بعيداً، وزادت من ترسيخ اسم الشركة التي تبيع الترفيه عبر الإنترنت كلاعب أساسي في سوق إنتاج المواد الفنيّة.

والحال أن ادارة مهرجان كان السينمائي هي من بدأ باقتراف الأخطاء، فهي اختارت فيلمي شركة “نتفليكس” وفيلم لنظيرتها “أمازون” في مسابقتها الرسمية، رغم أنها تعرف وكما بينت تجارب الأعوام الماضية، أن شركات الإنترنت الترفيهية لا تهتم كثيراً بعرض أفلامها في الصالات السينمائية، وهو الأمر الذي يخالف القوانين الفرنسية التي تشترط فترة ثلاث سنوات بين العرض السينمائي للأفلام ووصولها إلى خدمات مشاهدة الفيديو حسب الطلب والتي تعرف ب (Video on demand). ما حصل بعدها كان مجموعة من التصريحات المتشنجة من إدارة المهرجان، وبعدها قرار يصب في مصلحة الصالات السينمائية، بتطبيق القرار الفرنسي والذي كان دائماً فعالاً على شركات الإنترنت.

تُبرز أزمة مهرجان كان الأخيرة سؤالاً عما إذا كان كانت شركات الإنترنت في حاجة لأي من الوسائط التقليدية للوصول إلى جمهور جديد؟ وهي التي خالفت كل التوقعات في الفترة القياسية التي وصلت بها إلى جمهور بالملايين (يبلغ زبائن شركة “نتفليكس” حول العالم المائة مليون). لعل الجواب الأكثر واقعية وتفهما للنموذج التقني والاقتصادي الذي تقوم عليه شركات الإنترنت، بأن هذه الأخيرة ليست في حاجة إلى أحد، لكنها لا تدخر أي وسيلة للترويج لنفسها، فأزمة مهرجان كان السينمائي كانت مثالية للشركة، إذ إن المهرجان يعد الأول بحجم بتغطياته الصحافية، وما يحدث هناك يصل إلى جمهور واسع في العالم.

تفجرت الأزمة في الدورة الأخيرة للمهرجان

أفلام شركات الإنترنت

خرجت شركة “نتفليكس” بدون جوائز في الدورة الأخيرة لمهرجان كان السينمائي (اشتركت بفيلمي:”أوكاي” للكوري الجنوبي بونغ جون هو و”حكايات ميرويتز” للأمريكي نوا بومباخ)، فيما حظي فيلم شركة “أمازون” (“لم تكن أبداً حقا هنا” للمخرجة الأسكتلندية لين رامسي) على جائزة أفضل ممثل للأمريكي يواكين فينيكس. وعلى رغم أهمية الجوائز السينمائية، إلا أن شركات الإنترنت ستركز بشكل أكبر على مدى شعبية هذه الأفلام بالتحديد عند مشتركيها، وهو الذي سيحدد الأنماط الفنيّة التي ستغلب على نشاط هذه الشركات في أعمالها الحصرية. إذ إن شركات الإنترنت تختلف عن كل الوسائط الترفيهية الأخرى بقدرتها ومن خلال نظمها الإلكترونية المتطورة، الخروج بخلاصات دقيقة عن نشاط المشتركين فيها، فهي تعرف بالتحديد عدد مشاهدي أي مادة فنيّة وجنس المشاهد، وتعرف أيضاً الزمن الذي توقف فيه مشاهد ما عن المشاهدة. ومن خلال هذه البيانات، يحدد المسؤولون فيها خططهم الإنتاجية المستقبلية.

مازالت شركة مثل نتفليكس تجرب بنوعية الأفلام التي تقدمها، لذلك لن يكون مستغرباً على الإطلاق بأن تستبدل الأفلام الفنيّة والتي ينطوي تحتها فيلماها اللذان اشتركا في الدورة السبعين لمهرجان كان بأفلام شعبية تتقصد الجمهور الواسع. فالشركة لن تصرف الملايين لصالح الفن المختلف، وهي تنصت دائماً لما يقوله زبائنها. هذا رغم أن العدد الهائل للمشتركين فيها يجعلها تفكر اليوم بإرضاء أذواق متنوعة، فيما الفصل سيكون دائماً لأرقام المشاهدة. كما أن الشركة التي تنتج أيضاً مسلسلات وأفلاما وثائقية وعروضا كوميدية (ستاند أب)، ليست ملتزمة بفئة ترفيهية واحدة. وخياراتها – وهذا مجددا يخضع لأرقام المشاهدة –  قد تميل إلى المسلسلات، التي تعيش اليوم عصرها الذهبي على صعيد الكتابة والإخراج والنجوم المعروفين الذين يتهافتون للاشتراك فيها.

كما أنه من غير المستبعد أن تغير شركات الإنترنت من سياساتها الخاصة بالعرض في الصالات السينمائية، فالتجارب السابقة لهذه الشركات مع العرض التجاري في الصالات تعثرت بسبب ضعف الدعاية لها، ونوعية الأفلام التي عُرضت، وبسبب إعلان الشركات وقتها أن الأفلام نفسها ستكون متوافرة سريعاً على خدمة الشركات والذي جعل الجمهور الواسع يفضل الانتظار حتى تصل الأفلام إلى الخدمات ليشاهدها في بيته. لكن اليوم ومع كبر الكتالوج الخاص بهذه الشركات من الأعمال الحصريّة، لا تحتاج أن تعلن أن أفلامها المخصصة للصالات ستعرض بالتزامن أو قريباً على الخدمة، وتخضع في المقابل للقوانين الأوروبية الخاصة بالعرض خارج الصالات. عندها تتحول هذه الشركات إلى استديوهات سينمائية تقليدية، مع خصوصية أن أفلامها ستكون وبعد العرض السينمائي حصرية بخدماتها على الإنترنت.

حظي فيلم شركة "أمازون ("لم تكن أبداً حقا هنا" للمخرجة الأسكتلندية لين رامسي) على جائزة أفضل ممثل للأمريكي يواكين فينيكس.

حماية السينما

تندرج أزمة مهرجان كان الأخيرة ضمن الأزمات العديدة التي مرَّت على السينما في المائة عام ونيف من عمرها، والتي تتصاعد بسبب قدوم وافدين جدد على المشهد الترفيهي (تلفزيون، أشرطة فيديو، أقراص “دي في دي”، إنترنت، شركات توفير الترفيه مقابل اشتراكات شهرية). نجحت السينما في الاستمرار، ووجدت وبفضل دعم الحكومات الأوروبية طريقها دائماً وسط هذه الأزمات والتي بدت أحياناً وكأنها تضييق وإلى حدود الاختناق على الفن السابع. فشُرعت قوانين حمت طقس المشاهدة السينمائية عبر فرض مسافة زمنية بين إطلاق الأفلام في الصالات ووصولها على شكل أسطوانات أو عبر شركات الإنترنت، لتشجع الجمهور على التوجه إلى صالات السينما.

ساعدت القوانين الحكومية الأوروبية وبقاء المشاهدة السينمائية في الصالات كتجربة لا تستطيع منافستها أي من الوسائط الأخرى، في الحفاظ على الصالات السينمائية، لتشهد الأعوام الماضية تصاعداً في الإيرادات (بسبب ارتفاع سعر التذكرة وليس بسبب عدد المشاهدين). كما أن الذهاب إلى السينما مازال وسيلة الترفيه الأقل تكلفة في الغرب مقارنة بالمسرح أو الحفلات الموسيقية، لذلك تعيش السينما اليوم انتعاشاً كبيراً، انعكس على زيادة عدد الصالات السينمائية التي لا تتوقف في الظهور في المدن الأوروبية مثلاً.

لكن هذا لا يعني أن السينما بعيدة دائماً عن خطر التحولات الهائلة التي نعيشها، وبالخصوص في العلاقة لجهة الترفيه القادم من الإنترنت، فالضغوط على مؤسسات السينما التقليدية ومنها المهرجانات كبير جدًا، إذ إنها قد تخسر الكثير بتعاليها على شركات الإنترنت، التي تحقق نجاحات باهرة، فمن المتوقع أن تفوق إيرادات هذه الشركات من بيعها اشتراكات في بريطانيا، ما تجنيه الصالات السينمائية من أموال في البلد ومع حلول عام 2020. كما أن هناك مخاطرة أن تملّ شركات السينما الأمريكية العملاقة من شروط الدول الأوروبية، وتفكر بأوجه تعاون خاصة مع شركات الإنترنت لعرض أفلامها دون المرور بالصالات السينمائية.

(يبلغ زبائن شركة "نتفليكس" حول العالم المائة مليون مشترك)


إعلان