من الذي قتل الراهبة “كاثي”؟

محمد موسى 

بعد النجاح غير المسبوق الذي حظي به برنامج شركة “نت فليكس” التسجيلي الاستقصائي “صناعة قاتل”، تعود الشركة الأمريكية المنتجة إلى فئة البرامج التسجيلية الطويلة في جديدها “الحراس”، والذي يُحقق في جريمة قتل وقعت في الولايات المتحدة منذ نصف قرن تقريبًا، ولم تتوصل الشرطة الأمريكية في حينها إلى الفاعل أو الفاعلين. هناك اختلافات بين البرنامجين، لجهة ظروف الحوادث التي يحققان فيها، فبينما يقبع المتهم في جريمتي قتل برنامج “صناعة قاتل” اليوم في السجن، رغم الثغرات التي وجدها البرنامج في ملابسات التحقيق معه ومحاكمته، يحاول البرنامج الجديد وبنجاح أقل نفض الغبار عن جريمة صارت تفصلنا عنها سنوات عديدة، وربما ضاعت إلى الأبد مفاتيح حلَّها>

يفتح برنامج “الحراس” ملف جريمة قتل الراهبة الشابة كاثي سيسنيك في شهر نوفمبر من عام 1969، ويمرّ قليلاً على جريمة قتل شابة أخرى من نفس المنطقة التي كانت تعيش فيها الراهبة، حدثت قبل أيام من اختطاف الأخيرة. سيتم العثور على جثة كاثي في غابة تبعد أميالاً عن المكان الأخير الذي شوهدت فيه وبعد اختفاء دام لأسابيع. لم تتوصل الشرطة إلى نتائج تذكر في تحقيقاتها الأولية في زمن وقوع الجريمة، وعانت الفشل ذاته عندما عادت وفتحت القضية في عقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، وبعد أن تلقت رسائل من مجهولين عن فاعلين محتملين. 

لم يُغلق ملف جريمة قتل كاثي بالكامل، فهناك من واصل حمل شعلة المطالبة بالعدالة وإيجاد قاتلها، ومنهم طالبتان سابقتان للراهبة، التي كانت تُدرس في مدرسة متوسطة للبنات، وصحفي تحقيقات سخر جزءًا كبيرًا من حياته المهنية للتحقيق وتتبع القضية. والأخير من سيُفتتح به زمن البرنامج التسجيلي الجديد، في مشاهد من علية بيته حيث يجمع هناك ملفه الضخم عن القضية، من قصاصات صحف قديمة وشرائط فيديو ووثائق متنوعة. في حين سيستأثر جهد الطالبتين السابقتين اللتين تديران منذ سنوات عملية البحث عن قاتل مدرستهن، على الاهتمام الأكبر في البرنامج التسجيلي.

بعد الحلقة الأولى التمهيدية يأخذ البرنامج انعطافه على صعيد عدم الاكتفاء بالتحقيق في جريمة القتل، بل أيضًا في بحث وتشريح المجتمع الذي كان يحيط بالراهبة، والذي سيقوده سريعًا في الحلقة الثانية منه إلى انحرافات بعض المؤسسات المسيحية الكاثوليكية الأمريكية. ذلك أن الراهبة المقتولة كانت تعمل في مدرسة تديرها الكنيسة الكاثوليكية، وربما ذهبت ضحية (وهذه إحدى النظريات فقط) لما كان يجري من اعتداءات جنسية على فتيات المدرسة، خاصة وأن واحدة من الضحايا زارت الراهبة الطيبة في بيتها قبل ليلة من اختطافها، لتشكو قساوسة رجالاً يعملون في المدرسة قاموا باغتصابها مرارًا.

لن يُفرط البرنامج بالمهمة الأساسية التي يحقق فيها، لكنه يواجه تحديًا في المقابل يتمثل في محدودية ما يمكن أن يضع يديه عليه، بخاصة مع وفاة معظم المتهمين المحتملين في الجريمة، ومنهم المتهم الرئيسي القسّ “جوزيف ماسكل”، والذي اقترف مع مجموعة رجال من المدينة أشنع الأفعال بحق فتيات وصبيان، واسمه الذي كان يتردد دائمًا كل مرة توافق الشرطة الأمريكية على فتح التحقيق في القضية. فبعد أن تكشف أن القسّ قام بدفن بعض الوثائق في مقبرة في الثمانينيات من القرن الماضي، قامت الشرطة بنبش الحفرة، لكنها لم تجد ما يستحق الإدانة في جريمة قتل الراهبة. وحتى المتهم الوحيد الباقي على قيد الحياة، نفى كل النظريات التي عرضها البرنامج عن احتمال تورطه، وبدا في المشاهد التي صورها له البرنامج تائهًا في شيخوخته.

ورُغم أن كل حلقة من البرنامج تحاول أن تتعرض لزواية جديدة من القضية، إلا أنها سرعان ما تصطدم بقلة الأدلة وقِدَم الجريمة، لتعود إلى نقطة البداية ذاتها، وتستعرض النظريات التي تملكها، والتي تبقى في حدود الاتهامات التي لا ترتكز على قاعدة رصينة. بيد أن البرنامج وبتركيزه على ضحايا الاعتداءات الجنسية في المدرسة المسيحية، وسع آفاقه قليلاً وربط نفسه بما يشبه حملة إعلامية تتواصل على أكثر من صعيد تطالب بفتح ملفات بعض المؤسسات الدينية المسيحية والممارسات الشنيعة التي اقترفتها طوال قرون. يمنح البرنامج أوقاتًا طويلة لطالبات سابقات للراهبة المقتولة تعرضن لاعتداءات جنسية في المدرسة في الستينيات من القرن الماضي، ومنهن واحدة تدعي أن القّس “ماسكل” أخذها إلى موقع جثة الراهبة الشابة قبل اكتشافها من قبل الشرطة، حتى يُخيفها ويمنعها من الإفشاء عن اعتداءاته المتكررة عليها.

وعلى خلاف “صناعة قاتل”، لا يتضمن البرنامج الجديد الكثير من الاكتشافات التي تجعل المشاهد يشهق من الدهشة والغضب أحيانًا من أداء الأجهزة الحكومية الأمريكية السيء، إذ يبدو أن الشرطة وقتها بذلت جهدها لإيجاد قاتل “كاثي”، رُغم أن هناك من اقترح أن الراهبة ربما كانت ضحية فساد كان مستشريًا بين أفراد من الشرطة نفسها، من الذين ارتبطوا بعلاقات مريبة برجال من الكنيسة. كما أن رفض المباحث الجنائية الأمريكية المتواصل للكشف عن تحقيقاتها بقضية قتل الفتاة الأمريكية الأخرى والذي تم في نفس أسبوع قتل الراهبة “كاثي”، يثير بعض التساؤلات والشكوك عن أخطاء محتملة.

والحال أن هذه البرامج التي تشَّكل ظاهره بطولها الزمني وسردها المسهب وتركيزها على قضية واحدة، والتي لم يكن لها مكان في برمجة القنوات التلفزيونية التقليدية وظهرت في خدمات المشاهدة حسب الطلب الإلكترونية، ستكون عاجزة على الأرجح عن تغيير مصائر القضايا التي تتناولها، إذ إنها ورغم إنتاجها المكلف ستصطدم بتعقيدات الأنظمة الإعلامية والقضائية التي تعمل ضمنها، والحدود التي تتحرك بها لجهة توجيه اتهامات، دون أن تعرض نفسها لمشاكل قضائية عواقب خسارتها وخيمة ماديًا. كما أن القضيتين موضوعي بحث برنامجي شركة “نت فليكس”، خضعتا في الماضي لاهتمام مكثف من صحافة تحقيقات متخصصة، لم تصل إلى نتائج مهمة، فلماذا يتوقع من برامج تلفزيونية أن تنجح فيما فشل به اختصاصيون عملوا أحيانًا لسنوات على القضايا تلك.

في المحصلة النهائية، كانت الحلقات السبع التي يقترب زمن كل منها من الساعة الكاملة، طويلة كثيرًا على هذه القضية بالتحديد، صحيح أن البرنامج حاول أن يبحث في الآثار النفسية للاعتداءات الجنسية الطابع على الضحايا، وبعد نصف قرن تقريبًا، إلا أنه أفرط في عرض هذا الجانب أيضًا، كما أن البناء بمجمله كان يفتقد التماسك في مواضع، فمن التحري والاستقصاء، كان البرنامج ينتقل لتسجيل لحظات خاصة كثيرًا، لنساء أثّر ما حدث لهن في صباهن على حياتهن كلها. 
أخرج البرنامج الأمريكي راين وايت، الذي وظف الميزانية الضخمة للشركة الأمريكية التي توفر الترفيه عبر الإنترنت في إنتاج برنامج ثري على المستوى الصوري، بخاصة المشاهد التي صورت بالطائرات للمنطقة التي كانت تعيش فيها الراهبة، كما أنه أبرز في الحوارات مع طالبتي الراهبة “كاثي” النبل والوفاء الذي يحملانه لروح مدرستهم الشابة المقتولة، والذي سيضيف الكثير من الشرعية والقوة لهذا التحقيق التسجيلي الطويل، وسيكون أشبه بالضوء الذي سيقوده في عتمة العوالم التي أحاطت بمسرح جريمة قتل الراهبة الشابة. 


إعلان