ممثلون عالميون سقطوا سهواً

حاج علي
 
ياسر ثابت
 
للأسف، لا يوجد حتى الآن أرشيف متكامل لتاريخ السينما المصرية بشكل أكاديمي بحثي، أو بمعنى آخر لا يوجد في أبجديات الثقافة المصرية ما يسمى بالأرشفة التاريخية للأعمال الفنية. ويبدو أن المثقف الموظف المدجن لا يهتم بهذه الأشياء. ولولا المحاولات الشخصية الجادة لتأريخ السينما في مصر، مثل محمود قاسم ومدكور ثابت وأحمد الحضري وغيرهم، لما كانت هناك أية مراجع للباحث الجاد أو القارئ النابه. 
 
من الممثلين الذين سقطوا سهوًا من الذاكرة السينمائية، الفنان الكوميدي (المنسي مصريـًا) حاج علي Hadji Ali، الذي مثل مع أعظم ثنائي كوميدي في التاريخ، لوريل وهاردي، في فيلم Politiquerias. اشتهر في مصر “بالحاوي”، وكان أكثر ما يقدمه تميزًا هو عرض “الجاج ريفليكس Gag Reflex” وهو العرض الذي كان يشرب فيه كميات ضخمة من المياه دفعة واحدة ثم يطلق المياه من فمه كالانفجار دون توقف لمدة طويلة، بالإضافة لعروض ابتلاعه المناديل والمسامير والدخان، وأيضـًا ابتلاعه الماء والكيروسين لإشعال النيران من فمه قبل إطفائها. 
 
ولد حاج علي في أسرة من الطبقة العاملة، وجاءت شهرته من ممارسة العروض المسرحية، التي عُرفت باسم “عرض القلس”، التي تنطوي على ابتلاع المواد أو الأشياء الغريبة وقلس بطرق مختلفة. (القلس: أي اللعب بالألعاب المسلية بين يدي القوم ترويحـًا لهم). كان علي قد أوضح في معرض إجابته على أسئلة وجهت إليه خلال مؤتمر عُقِد في مستشفى سانت ماري في نيجيريا، أنه أدرك منذ صغره أن لديه قدرات غير عادية، وخاصة في معدته. وبعد وفاة علي أوضحت ابنته (ألمينا علي) في لقاء لها، أنه قد تم اكتشاف قدرات علي عن طريق الصدفة في حادث بسيط، فيما كان يستحم في نهر النيل، حيث ابتلع سمكة وكمية وفيرة من المياه، لكنه لم يمت كما اعتقد البعض بل تقيأ ما ابتلعه فقط دون أن يصاب بأي سوء. في سن الخامسة عشرة، أدرك علي أن مهارته في ابتلاع الأشياء الغريبة وقوة تحمل معدته، من الممكن أن تكون وسيلة كسب رزق وترفيه للناس.
 
في أثناء ممارسته لعروضه في شوارع القاهرة، قابل رجلًا إيطالي الجنسية، فوجئ به يعرض عليه توقيع عقد لتأدية عروضه في صالة للعروض الترفيهية، ليفتح ذلك الباب أمامه لتقديم عروضه في جميع أنحاء أوروبا وفي بعض الأحيان إلى حكام الدول أيضـًا. ووفقـًا لما قاله علي، فقد استدعي من قبل القيصر الروسي نيقولا الثاني لتأدية عرض في القصر الشتوي في سانت بطرسبرغ في روسيا. وقال علي إنه من المؤكد أن قيصر روسيا أُعجب بعرضه؛ حيث منحه وسامـًا خاصـًا، أصبح من ممتلكات علي الثمينة. وفي أعقاب الحرب العالمية الأولي بدأ علي في إدارة شؤونه الخاصة، وطاف أنحاء العالم لتعلم المزيد من الحيل.
 
 
سافر علي إلى الولايات المتحدة مع ابنته ألمينا، وكانت تعمل كمساعدة له وعُرِفت في عروضه باسم الأميرة. في عام 1920 قدما معـًا عروضـًا في عدد من المهرجانات والاحتفالات والمسارح، وكان يُعلن عن هذه العروض تحت اسم “حاج علي وشركاه”، وإعجابـًا به أطلق عليه الجمهور بعض الأسماء منها: “الرجل المصري المعجزة”، “المصري الغامض”، “رجل مثل حوض السمك”، “الرجل البركاني”، “علي هو رقم 9 في عجائب العالم”.
 
وُصِف بأنه رجل ضخم الجثة قوي البنية، لديه لحية وشارب. كان أُميّـًا ولا يتقن اللغة الإنجليزية، فعملت ابنته ألمينا مترجمة له. بعد ذيوع شهرته، كان أوّل شيء قام به هو تعيين هوبير جوليان، العقيد السابق في سلاح الجو الإثيوبي، مديرًا له.
 
ظهرت بعض عروض حاج علي في فيلمين: فيلم قصير Strange as It Seems عام 1930، وفيلم Politiquerias عام 1931، وهو النسخة الإسبانية المطولة لفيلم لوريل وهاردي Chickens Come Home، وظهر أيضـًا في دور صغير “كمالك تركي” في فيلم وورنر براذرز. كما ظهر عام 1932 في فيلم Scarlet Dawn بطولة دوغلاس فيربانكس، وجونيور ونانسي كارول. ويوجد فيلمان وثائقيان يحتويان على صور لعلي من فيلم Politiquerias: هما “Gizmo” 1997 أي الأداة، وVaudeville” 1999 أي الاستعراض المسرحي، وهذا الفيلم الوثائقي من إنتاج KCTS-TV التي قدمت نحو 90 عرضـًا مسرحيـًا على مدى أكثر من ساعتين متواصلين.
 
بُث الفيلم عدة مرات منذ أن أذيع على التليفزيون القومي الأميركي. وأوضح كاتب الاستعراض المسرحي والمنتج التنفيذي “أن هذا الفيلم ضم أشياء كثيرة، بداية من كاروسو إلى الرجل المعجزة القادر على التقيؤ من فمه”، ورأيناه يظهر في عرض مثير مماثل في الحلقة 30 من برنامج Iconoclasts في قناة Sundance Channel.
 
كانت الممثلة الأميركية جودي غارلاند تعتبره “الفودفيلي” المفضل لديها، وقال الساحر الأميركي ديفيد بلين إن “حاج علي” هو الساحر المفضل لديه. 
توفي حاج علي في ولفرهامبتون في إنجلترا، بسبب متاعب في القلب ونتيجة لالتهاب في الشُعَب الهوائية، وتم نقل جثته إلى الولايات المتحدة على ظهر السفينة “كوين ماري”. 
 
وفقـًا لما نشر في جريدة New York Post في 29 نوفمبر 1937، فقد قامت ألمينا بعرض جثمان والدها على جامعة جونز هوبكنز في مريلاند، ليتم التشريح وفحص الجثة على يد جراحين، وبعد ذلك تم نقله إلى مصر حيث جرى دفنه. 
 
غير أن المثير هو أن هناك من سبق حاج علي إلى السينما الأميركية من المصريين: أحمد بك.
 
أحمد بك
 
السطور التالية تبحث في حكاية الممثل الغامض الذي ربما لا يوجد عنه أي معلومات في أي كتاب عن تاريخ السينما في مصر.
اسمه الأصلي أحمد بك وليس أحمد البيه كما هو مدون بموقع “السينما” الإلكتروني، ويبدو أنه اضطر لتغيير اسمه حتى لا يُغضِب القصر ويُتهم بالانتحال في ظل عدم حصوله على البكوية الرسمية. ولد بحي الظاهر بالقاهرة في 11 أكتوبر 1905، وأكمل تعليمه حتى المرحلة الثانوية بمدرسة “رُقي المعارف”. 
 
يعتبر أول ممثل مصري عالمي (بالتصنيف المصري للكلمة) وليس حسن عزت؛ حيث شارك في أكثر من 14 فيلمـًا ألمانيـًا صامتـًا من سنة 1924 حتى سنة 1934 لصالح شركة أوفا الألمانية وشركة ريللر، من أشهرها “يخت الخطايا السبع” (1928) Die Yacht der sieben Sünden، و”ألف ليلة وليلة”، و”رحلات سندباد”، و”امرأة وقاتل”، و”ظهور عارية”.
 
أول خيوط القصة كانت مصادفة؛ مجرد خبر قصير في مجلد مجلة “المصور” سنة 1926 عن نجاح هذا الممثل فنيـًا في ألمانيا، واشتراكه في فيلم اسمه “المال الزائل” إنتاج شركة أوفا. غير أن مشاهدته في دور يوسف، زعيم الثوار الجياع في فيلم “لاشين” (فريتز كرامب، 1938)، أعادت الخبر إلى الذاكرة. وبعد البحث في عدة فهارس، خاصة فهارس السينما الألمانية الصامتة وروايات شفهية، تكاملت أعمدة القصة. 
 
أحمد بك ليس فقط أول ممثل مصري يظهر في السينما العالمية، بل يبدو أنه كانت له علاقة ما بقضية حكمت فهمي، وقد يفسر هذا إلى حدٍ ما عدم نجاحه واختفاءه بعد ذلك.
 
من المرجح أن أحمد بك عاش في ألمانيا من سنة ١٩٢٤حتى ١٩٣٨؛ ثم اضطر للعودة لمصر نتيجة ركود سوق الفيلم الصامت وتحويل دفة السينما العالمية إلى هوليوود بشكل واضح و بزوغ حزب الرايخ وهتلر و النزعة الآرية. حال رجوعه لمصر قام ببطولة فيلم “لاشين” إخراج فريتز كرامب وهو المخرج الألماني صاحب فيلمَي “وداد” و”لاشين”، ووجد في استوديو مصر من عام 1935.
 
أجاد أحمد بك اللغتين الألمانية والفرنسية، وشاركه في البطولة حسن عزت وهو أول مصري يمثل في هوليوود. استعان فريتز كرامب بممثلين علي طرفَي نقيض، أحدهما غربت عنه شمس ما يُسمى بالمشاركة في السينما العالمية، والآخر كانت شمسه علي وشك البزوغ. الفيلم نفسه تم تغيير نهايته ثم تقرر عدم عرضه بأمر مباشر من القصر الملكي، بسبب مضمونه الذي رؤي أن به شبهة تحريض على الثورة على السلطة المالكة أو الحاكمة. 
 
في ذات الوقت كانت مصر مسرحـًا لعمليات الجاسوسية بين ألمانيا وإنجلترا وأميركا. تناولت الألسنة التي ما زالت تذكر هذا الممثل وأحداث أربعينيات القرن العشرين احتمال وجود علاقة معرفة بين أحمد بك وحسين جعفر أبلر – يقال إن اسم أحمد بك مذكور في تحقيقات البوليس السياسي مع أبلر باسم حركي، هو “يوسف” – وبالمناسبة، كان يوسف هو اسم هذا الممثل في فيلم “لاشين”. 
 
 
تهامست الشفاه أيضـًا عن اشتراك أنور السادات في قضية حكمت فهمي كهمزة وصل، ويقال إن أحمد بك كان المترجم لبعض اللقاءات. في الوقت نفسه، تم اتهام حسن عزت بالتجسس لصالح إنجلترا، لكن كان يشاع عنه أنه عميل مزدوج. 
اضطر أحمد بك لقبول أدوار صغيرة في أفلام عدة بحثـًا عن لقمة العيش، مثل أدواره في فيلم “بيت الأشباح” (فطين عبدالوهاب، 1951) وقام فيه بدور الخادم الأخرس، وفيلم “الحب بهدلة” (صلاح أبو سيف، 1952) و”سر الأميرة” (نيازي مصطفى، 1949) و”فتح مصر” (فؤاد الجزايرلي، 1948)، و”هارب من السجن” (محمد عبدالجواد، 1948)، و”أبو زيد الهلالي” (عز الدين ذو الفقار، 1947).
 
يتردد أنه اضطر بعدها للرجوع إلى ألمانيا وانقطعت أخباره بعد ذلك، وأنه تزوج إحدى ممثلات السينما الصامتة وتُدعى دورينا مار. يشاع أيضـًا أن السادات بذل كل ما في وسعه لمنع عودة أحمد بك إلى مصر بعد ثورة يوليو؛ لأنه كان يعلم تفاصيل دوره في التجسس لصالح الألمان. توفي أحمد بك في 19 ديسمبر 1976.
 
نقطة أخيرة؛ مشرف الإنتاج على فيلم “لاشين”، هو وداد عُرفي، وهو رجلٌ له دور غامض مع بدايات السينما المصرية واتُهِمَ بالتجسس لصالح تركيا.
هكذا أصبح فيلم “لاشين” علامة بارزة في تاريخ السينما المصرية كأول فيلم يدشن لفكرة الثورة الشعبية، ومادة خصبة أيضـًا للأقاويل والحكايات الشفاهية شبه الأسطورية التي أحاطت ببطلَي الفيلم والمخرج والمشرف على الإنتاج. 
 
ربما لم يُذكر اسم أحمد بك في قاعدة بيانات “يخت الخطايا السبع”؛ نظرًا لأن الفيلم المذكور كان من المفقودات، حسب كلام هاري ولدمان في كتابه عن الأفلام المفقودة  وكانوا بالكاد يعرفون أسماء الأبطال الرئيسية في الفيلم. الفيلم نفسه تم العثور عليه وترميمه وطرحه للبيع علي موقع “أمازون” الإلكتروني، لكنه غير متاح حاليـًا. من المؤكد أيضـًا أنه لم يقم بأدوار رئيسية في تلك الأفلام، لكن اسمه موجود في أرشيف “أوول ميديا أركيف” الإلكتروني.
 

إعلان