المخرج الخفيّ
مروة صبري

الحادي عشر من سبتمبر يوم لا يمحى من ذاكرة كل من عاش تفاصيله بالولايات المتحدة الأمريكيّة، فلا يوجد مواطن من غير المستفيدين منه إلا وذاق مرارته، وقد أعادني الفيلم الوثائقيّ Have We Forgotten? September 11th? إلى مزاج ذاك اليوم، فقد بدأ بعرض مقتطفات من النشرات الإخباريّة، بدأ اليوم هادئًا، السماء صافية، المناخ في نيويورك يدعو للتنزه، كان يوم نشاط وعمل، لم يكن أحد يتوقع أنّ ثمّة أحداثا في الساعات الأولى منه ستغيّر مجرى التاريخ إلى الأسوأ ولعدة عقود على الأقل. لكنّ طائرة كما يقال ضربت إحدى برجيّ مركز التجارة العالميّ، بدت كأنّها حادثة، ثمّ ضربت أخرى البرج الثاني، فبدأ المذيعون في تكهن أنّ الأمر مدّبر، ثمّ وقع مبنى رقم 7 دون أي أسباب واضحة والغريب أنّ كلا منهم وقع بعد سماع انفجارات عدّة وانهاروا في مكانهم، وهي المرة الأولى في التاريخ الحديث التي يقع فيها مبنى من الصلب بسبب حريق، أمّا السرعة التي وقع بها فمدهشة ليس لها سابقة ما أثار شغف متخصصي الهندسة والانهيارات المحكمة وغيرهم من الخبراء وأوحى بالعديد من الدراسات والأفلام الوثائقيّة لكشف اللثام عن تلك المبهمات. كل هذا عرضه الفيلم على ألسنة شهود عيان وخبراء يتخللهم قصص إنسانيّة لأهالي الضحايا.
المجهول
كل صانع فيلم يحاول أن يجني من عمله مالًا أو شهرة أو كليهما، ويتخيّل حجم اسمه على عمله، إلا هذا الفيلم، فصنّاعه مطاردون من قبل السلطات الأمريكيّة، فيمعنون في إخفاء هويتهم، لذا فقد اختاروا لمنظمتهم السريّة اسم Anonymous أو المجهول، وهيّ مجموعة من النشطاء السياسيين الذين يتخذون من قرصنة الإنترنت وسيلة لنشر أسرار المتلاعبين في مقدرات الشعوب من قوى سياسيّة واقتصاديّة وغيرها. منهج المنظمة وأساليبها تثير حول أعضائها جدلًا واسعًا ما بين من يعتبرهم من الأبطال ومن يتعقبهم لخيانتهم، والبقيّة كالعادة تشاهد من بعيد أو قريب بحسب فكرهم، وهذا سر جراءتهم، فعملهم في الخفاء يتيح لهم حريّة لا تتاح في العلن، يجيبون عن أسئلة بدون ردود من الجهات الرسميّة، ويثيرون تساؤلات خامدة، ويتتبعون الشخوص والمؤسسات الفاسدة متى استطاعوا، لكن أكثر ما يؤجج الغضب عليهم هو اتخاذهم لقرصنة الإنترنت سبيلا لكشف الخفايا، وهيّ قضيّة إذا وضعت أمام الرأيّ العام بكل تفاصيلها لاحتار المنصفون في الحكم. فمن ناحية، اختراق خصوصيّة الحسابات عمل غير قانوني مهما كانت الظروف، لكنّ هل هذا يعني أنّه غير أخلاقي بالضرورة؟ هل على القانون معاقبة قرصنة الإنترنت التي تعلم الرأي العام بسرقة تمت في حقه أو بانتخابات تلوعب فيها بأصواته أو بكذب بررت به حرب مات فيها مئات الآلاف من العراق وأفغانستان وأمريكا وصبت وابلها على سوريا وما زالت تتكاثر؟ الإجابة ليست بسيطة ولا واضحة بل يجب أن تحسب بحرص من قبل المختصين في حريّة الرأيّ وحقوق الإنسان وسيادة القانون. لكنّ هذا الجدل وهذه المطاردات لا تؤثر على إنتاجيّة مجموعة المجهول من الفيديوهات والأفلام الوثائقيّة بل يستمرون مهما كان.

وبما أنّ هذه الأيام هي الذكرى السادسة عشرة لأحداث الحادي عشر من سبتمبر، فقد قررت مجموعة المجهول أن تصدر فيلمًا وثائقيًّا عن أحداث ذلك اليوم، عرضت فيه مقتطفات من نشرات الأخبار المذاعة قبل الأحداث وأثناءها وبعدها، أعقبها لقاءات تمت إذاعتها ومن وقت لآخر نسمع معلقا أو معلقة أو نرى تعليقًا مكتوبًا لتوجيه المشاهد إلى ما يجب الانتباه إليه. هذه الطريقة في حد ذاتها ليست بجديدة، فكثير من الأفلام لأحداث ذلك اليوم صدر على شكل وثائقيّ أو درامي، وتأثير الأحداث على السينما الأمريكيّة متوقع فصار يخرج أفلاما مخصوصة حول هذا التاريخ في كل عام مثل فيلم 9-11، بطولة شارلي شين وهوبي غولدبيرج ومن إخراج مارتن غيغي، الذي غمر دور العرض في أمريكا في الثامن من سبتمبر الحالي أيّ ثلاثة أيام قبل الذكرى السنويّة للأحداث. بل وتقام مهرجانات سنويّة لعرض ومناقشة الأعمال المعروضة. الجديد في موضوع فيلمنا هو المنتقيات. فلأول مرة أسمع شهادة مطوّلة لباتريك ديلون، رجل مطافيء من منظمة أول مستجيب First Responder والتي تتكوّن من أعضاء مُدَرَبين على التجاوب مع أيّ كارثة طارئة.
بدا ديلون في بعض الأوقات في غاية التأثر ويكأنّ برجيّ التجارة العالميّة وقعا لتوهما، بينما بدا في أوقات أخر مبتسمًا متماسكًا، وقد سجل شهادته التي نقلتها “المجهول” كما هي. أخذ ديلون على عاتقه مهمة كشف من قتل أقرب صديق له بعد تلقيه أوامر علويّة بإخماد النيران التي سببها اختراق طائرة للمبنى، وكانت المكالمة المجهولة المصدر تؤكد أنّ اللجنة المسئولة عن المراقبة الجويّة قد استلمت التحكم في الطائرات وقتها وأنّها تستطيع إرسالهم إلى المطار آمنين تحسبًا لمزيد من الأحداث. يقول ديلون أنّ هناك تكنولوجيا استحدثت نظرًا لحوادث خطف الطائرات تمكن القاعدة الجويّة في حالة طواريء من التحكم في الطائرة عن بعد. يقول ديلون أنّ صديقه في المجموعة أخمد النيران بالفعل قبل موته ثمّ انهار عليه، من الذي أعطى الأوامر بدخول القوات إلى المبنى؟
كيف تصنع فيلمًا وثائقيًّا دون أن تصنع فيلمًا وثائقيًّا؟

فقرة حوار ديلون استمرت حوالي 27 دقيقة وطالت إلى حد الرتابة، ولم يساعد أنّ موضوع الحديث حزين وأنّ العدسة موجهة على شخص واحد فقط، وكان من الأفضل اختصار الحوار لكنّ مجموعة المجهول أرادت أن تنقله كما هو ربما لطمأنة المشاهد عن مصداقيته وإبعاد شبهة التلاعب. ويتتبع الفيلم بعض المعارضين الذين لقوا مصرعهم في حوادث أو انتحارات مفاجئة ولم يتم التحقيق الشامل في ملابساتها. الحقيقة أنّ الفيلم كله منقول من لقاءات أخر. هيكل الكاتب والمخرج يحس ولا يلمس إلا في لحظات بسيطة عن طريق معلومات مكتوبة أو صوتيّة بأقل تدخل ممكن من الموسيقى التصويريّة.
الذاكرة الشعبيّة
أصابع أي متهم كانت دائمًا وأبدًا تشير إلى إدارة بوش التي صنعت كل ما في وسعها لتأجيل إجراء أيّ تحقيق واف شاف لأحداث سبتمبر وبحسب هذا الفيلم فقد أجلوا بدء التحقيق 411 يومًا ووضعوا له أقل ميزانيّة ممكنة، الرواية الرسميّة الحكوميّة المعلنة تنافي الأدلة العلميّة وشهادات العديد من الشهود، لا يوجد شفافيّة بالمرة. من يعارض تلك الرواية يتهم في وطنيته مثل ما يحدث للمعارضين في دول سائر الطغاة لكن بطريقة أكثر أناقة تليق بالوجاهة الأمريكيّة. التركيز كله من وسائل الإعلام المختلفة ومن العديد من الأعمال الدراميّة والوثائقيّة كان على حفر الرواية الرسميّة في ذاكرة الرأيّ العام من أنّ تسعة عشر مسلما ينتمون إلى القاعدة قاموا بعمل إرهابي ضد أمريكا. ولا يبريء الفيلم بن لادن من التورط في هذا العدوان البشع الذي لم يرحم شيخًا ولا صغيرًا، فقد صدّق على الرواية الأمريكيّة بشكر كل من اتهمتهم الحكومة الأمريكية بالضلوع في الواقعة، غاية ما يطالب به هو الإجابة على الأسئلة. لكن تبديل الذاكرة الشعبيّة ولو بحقائق لأمر حساس، إذ يعتمد في نحتها على مشاعر مكثفة من الحزن وكراهية الأعداء مع رعب تكرار المأساة الذي يبرر التضحية بالنفس والمال ثمّ جمّل الواجهة بفخر بالقوميّة الأمريكيّة و”إيمان” القادة برسالة الأمريكيين في نشر العدل في العالم، تجد نفسك أمام تلال من الأكاذيب لا يسهل الغور فيها. فذاكرة المشاعر التي يرسخها الإعلام أقوى من ذاكرة العقل التي ينادي بها العلماء، واقتلاعها عمل جراحيّ دقيق قد يستهلك أجيالًا من المخدوعين.
رحلة 93

ينتقل الفيلم إلى الرحلة الغائبة، رقم 93 التي قالت الرواية الرسميّة إنّ ركابها هاجموا الإرهابيين فلم يتمكنوا من تحطيم البنتاجون وسقطت الطائرة في مكان بعيد، لم يعثر على أجزاء من الطائرة ولا حقائب للمسافرين ولا جثث أو أشلاء. هذه الرحلة كتبت عنها قصص وصار ركابها شخصيات في أفلام مثل فيلم يونايتد 93 والذي بدأ باثنين من الإرهابيين يستعدان قبل خطف الطائرة بقراءة القرآن والوضوء والصلاة وبذلك تتهم أمّة بأكملها ويشوّه كتابها المقدس دون تحر لتفاصيل، وهذه هي أيسر الطرق للانتشار، فبعض كتّاب الأفلام يصدق فيهم قول مصائب قوم عند قوم فوائد. ففي كل كارثة إنسانيّة، ما عليهم إلا أخذ تصريحات المسئولين قولًا واحدًا وفردها بنشابة مناسبة لتصير فيلمًا وطنيًّا يلعب على أوتار حزن الفقد مع عزم الفخر، وهيّ خلطة لا تخيب إن تبناها الساسة أو رجال الدين أو الفنانون.
يركز الفيلم على رجل الأعمال لاري سيلفرستاين المستأجر لبرجي مركز التجارة العالميّ والذي كان مطالبًا برفع مادة الأسبستوس من المباني بتكلفة مليار دولار، سيلفرستاين أمّن على حيازته ضد الإرهاب والحريق وغيرهما قبل الحادي عشر من سبتمبر بعدة أسابيع، فقبض ثلاثة مليارات دولار ووفر مليار دولار إصلاحات. وتصادف أنّ هذا هو اليوم الوحيد الذي لم يذهب فيه إلى عمله في برج التجارة حيث كان عنده موعد طبيب أمراض جلديّة، ولما قام صحفيّ شاب بسؤاله عن ذلك وكيف تغيّب هو وابنه وابنته يومها عن العمل، قام الأمن بطرد الصحفيّ وظل السؤال بدون إجابة.
انتهى الفيلم الوثائقيّ برسالة تؤكد على أنّه يجب ألا ننسى ذاك اليوم الذي غيّر الحياة كما نعرفها. في رأيي أنّ الرسالة أضعف من محتوى الفيلم. فما الفائدة من الذكرى إن كان لا يصحبها عمل؟ هل حفّز الفيلم المشاهد على اتخاذ خطوات؟ ليس بشكل مباشر لكنّه نجح في إلقاء الريبة في نفس أيّ مصدق للرواية الرسميّة للحكومة الأمريكيّة. المشكلة هو أنّ هذا الجمهور لا يشاهد هذه النوعيّة من الأفلام. هذه الأفلام لمن يفكر باستقلاليّة ويتتبع الأدلة لتكوين رأي مع أو ضد. أمّا الذي اختار الاستسلام فله أفلام من نوعيّة يونايتد 93 وهذا منتهاه.