قراصنة يُحاصرون صناعة الترفيه الأمريكية
محمد موسى
في خطوة مُهمة في دلالاتها وخطورتها، نفذ القراصنة الذين كانوا قد اخترقوا النظام الإلكتروني لقناة “أتش بي أو” التلفزيونية الأمريكية المعروفة، تهديدهم وسربوا أخيراً حلقات جديدة من مسلسلات للقناة لم تعرض بعد على مواقع التحميل غير الشرعية على الإنترنت، وبعد أن رفضت القناة الاستجابة إلى شرطهم بالحصول على مبلغ مالي كبير، في تأكيد جديد على أن القراصنة الجُدد جادون في تهديداتهم. في حين أكد رفض قناة “أتش بي أو” فتح حوار مع القراصنة، أن القنوات التلفزيونية لا تريد أن تتفاوض مع حفنة من المجرمين، رغم ما يُشاع عن اتفاقات تعقد أحياناً تحت الطاولات بين القراصنة وشركات الإعلام والإنتاج، يتم فيها إرضاء القراصنة ببعض المال، وما يدعيه البعض أن قصص القرصنة التي تصل إلى الانتباه الإعلامي بين الحين والآخر هي فرقعات إعلانية تتوخى الترويج للمنتجات الجديدة لهذه القناة أو تلك.
قبل قضية مسلسلات القناة الأمريكية المذكورة، وجدت شركة “نتفليكس” الأمريكية نفسها أمام تهديد مماثل قبل أشهر، وبعد أن تم اختراق حساباتها، وسرقة مسلسلات حديثة لها قبل عرضها، وهدد السارقون وقتها بتوفير هذه المسلسلات مجاناً على الإنترنت إذا لم يحصلوا على مبلغ مالي كبير. رفضت “نتفليكس” وقتها التفاوض مع السارقين. ووعدت الشركة الأمريكية التي تجهز الترفيه عبر الإنترنت مقابل اشتراك شهري، تعزيز أمن بياناتها، رغم أن أحداث العامين الأخيرين تؤكد أن لا شيء يقف تقريباً أمام القراصنة الإلكترونيين، القادرون على إختراق حسابات أي شركة مهما بلغت قوة نظامها الأمني، ولعل ما حدث لشركة “سوني” العالمية قبل عام ونصف دليلاً آخر على تطور تقنيات قراصنة السنوات الأخيرة، حيث إنهم لم يكتفوا بسرقة أفلام ومسلسلات بعضها لم يكن قد عرض وقتها، بل وضعوا أيديهم على المراسلات الإلكترونية بين مدراء الشركة، والتي كشفت عن فضائح كبيرة تخص أسلوب تعامل الشركة مع النجوم.
واللافت في ظاهرة القرصنة الجديدة أنها تتقصد مسلسلات وأفلام لم تعرض بعد، من التي لم تمرّ في قنوات العرض المعروفة والتي تجعلها في العادة سهلة على القرصنة، فقراصنة قناة “أتش بي او” سرقوا مسلسلات القناة المُعدَّة للعرض في خريف هذا العام. في حين تمكن قراصنة آخرين في الاستحواذ على حلقات مسلسلات لشركة “نتفليكس” قبل أسابيع من وضعها على خدمة الشركة على الإنترنت. حيث يبدو إن القراصنة نجحوا في الدخول إلى أنظمة القنوات الداخلية، والتي تكون بالعادة محصنة كثيراً. وكما كان الحال مع حادثة شركة “سوني”، سرق قراصنة قناة “أتش بي أو” مراسلات داخلية للقناة، وهددوا أنها تكشف عن خفايا وقضايا تقترب من الفضائح إذا لم يحصوا على مرادهم.
تأتي عمليات القرصنة الأخيرة بعد عام اتسم بالنجاح لجهة الحرب على مواقع القرصنة الإلكترونية، إذ نجحت جهود دولية كبيرة في وقف عمل بعض من أشهر هذه مواقع، كما بدا وبسبب شعبية شركات تجهيز الترفيه التي تفرض مبالغ شهرية تعتبر قليلة نسبياً، أن هناك تغييرات مهمة في سلوك المستخدم، وأن الكثر بدأوا ينتبهون ويقدرون السهولة التي توفرها هذه الشركات، ويفضلون دفع اشتراكات على المجازفة بتحميل مواد قد تعرضهم لمشاكل قانونية، علاوة على خطورة عمليات القرصنة على سلامة أجهزة الكمبيوتر الشخصية. وهو الأمر الذي دعمته أرقام قرصنة الموسيقى بالمقارنة بنسبة الاشتراكات الشهرية في مواقع الموسيقى التدفقية (streaming) في العامين الأخيرين، والتي أشارت إلى تراجع القرصنة وارتفاع في نسبة المشتركين في المواقع الموسيقية الشرعية.
لا جدال أن قراصنة المواد الفنيّة في العام الأخير يختلفون كثيراً عن أقرانهم الذين بدأوا عمليات قرصنة المواد الفنيّة منذ ما يزيد على عقد من السنوات، فبينما يحرك الجشع المالي قراصنة اليوم، رفع قراصنة الماضي شعارات ثورية وأفكار تقترب من مفاهيم التأميم للمواد الفنيّة، وهاجموا الذين يقفون وراء صناعة الترفيه في الولايات المتحدة حصراً، ووجهوا لهم اتهامات بالجشع وغبن حق الفنان (المنتج الأصلي لهذه المواد). كما لم تنشغل المواقع الإلكترونية الرئيسية التي وفرت منصات للمواد المقرصنة بالبحث عن نموذج اقتصادي يحقق لها أرباحاً دورية، وبدا المؤسسون الرئيسيون لأشهر مواقع القرصنة تلك مهمومين بقضايا الإنترنت الحرّ غير المقيد، غافلين عن الأثر الذي تركته مواقعهم على صناعة الترفيه، والذي يصل إلى مئات الملايين من الدولارات من الخسارات كل عام.
لا تنفصل عمليات القرصنة الأخيرة للمواد الفنيّة التلفزيونية والسينمائية عن التقدم المقلق كثيراً للتكنولوجيا الكفيلة باختراق الأنظمة الإلكترونية في العالم في العامين الأخيرين، فالرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” نفسه يواجه تهماً بالتعاون مع أجهزة روسية خاصة لتغيير نتيجة الانتخابات الأمريكية الأخيرة لصالحه، وهناك اتهامات أخرى للروس بالتدخل إلكترونياً بشؤون أكثر من دولة أوروبية، فيما الحرب الالكترونية بين الولايات المتحدة وإيران على أشدها. كما تؤكد وقائع عديدة أن دول عديدة تستثمر ملايين الدولارات في اعداد ما يسمى بالجيوش الالكترونية، لتكون قادرة على تحقيق هذا الهدف او ذاك، وأن التقنيات والأساليب التي يتم تطويرها في مخابرات هذه الدول، تنتقل بعمد او بدون قصد الى أيدي قراصنة عاديين، يستخدموها اليوم في محاولاتهم ابتزاز قنوات تلفزيونية وشركات مُجهزة للترفيه الفنيِّ.
