التاريخ العربي بعيون السينما
المصطفى الصوفي

شكّل موضوع التاريخ داخل الممارسة السينمائية العربية والدولية، مادة ثرية وملهمة، اشتغل عليها الكثير من المخرجين والمنتجين العالميين، فجاءت تجاربهم السينمائية سواء من خلال أفلام وثائقية أو روائية طويلة تحمل الكثير من الفيض الإبداعي الجميل، الذي فجر ينابيع العديد من المعطيات التاريخية المعروفة والمنسية، لتكون السينما في بعدها الجمالي والفني والإبداعي الخلاق، ذاك النسق الفني الممتع، الذي قدم ويقدم للمتلقي والجمهور، متعة بصرية مشوقة ووافرة عبر حمولة تاريخية راقية عرف كتاب السيناريو والممثلين والشاهدين على الأحداث والوقائع في الزمان والمكان، كيف يطرحونها في قوالب فنية وإبداعية جميلة مصاغة ومصقولة سينمائياً بتقنية عالية.
الممارسة السينمائية والأحداث التاريخية
في هذا السياق وفي إطار فعاليات الدورة الأولى لملتقى السينما والتاريخ بمدينة وادي زم المغربية، تم تنظيم ندوة أكاديمية وفكرية شارك فيها عدد من الباحثين والأكاديميين، ودارت حول محور المهرجان (السينما والتاريخ)، وهي الندوة التي طرحت الكثير من الأسئلة التي ارتبطت في الأساس بالعلاقة الجدلية بين الممارسة السينمائية والأحداث التاريخية، أو التاريخ في جوهره العام، والتوثيق، والسينما عموماً. ولابد من الإشارة في هذا السياق، أن مدينة وادي زم التي تبعد عن العاصمة الرباط بنحو 170 كيلومتر جنوبا، ارتبط اسمها بمدينة الشهداء، حيث كانت المدينة المغربية الأولى، التي انطلقت منها شرارة مقاومة المستعمر الفرنسي منذ بداية الخمسينيات من القرن الماضي، وتشتهر بأن قبائلها والقبائل المجاورة كـ”السماعلة” و”بني خيران”، و”بني سمير”، و”بني حسان”، و”أولاد إبراهيم”، وغيرها من القبائل، كانت من القبائل المناضلة والتي قاومت بشراسة وسالت دمائها غزيرة من أجل إخراج المستعمر الفرنسي الذي كان يستغل مناجم الفوسفات والحديد والفحم بالمنطقة، فضلاً عن الأراضي الزراعية والأحواض المائية وكل خيرات المنطقة الزراعية والاقتصادية وكذلك التجارية. لهذا تم تأسيس هذا المهرجان، فكانت ندوته الرئيسة حول السينما والتاريخ، ودور السينما في التعريف بالكثير من القضايا التاريخية والأحداث، فضلاً عن تكريم والاحتفاء برموز المقاومة ليس في المنطقة فحسب بل في مختلف الوطن العربي وكذلك الدولي خلال الدورات المقبلة.
السينما محاكاة فنية للواقع والتاريخ
وعودة إلى هذه الندوة الأكاديمية فقد فكك الأستاذ العربي قنديل في تدخله وثيقة المطالبة بالاستقلال والموقعين عليها، ودورها الكبير في استقلال المغرب والتحرر من ربقة الاستعمار، فضلاً عن أهميتها من الناحية التاريخية والسياسية على الصعيدين العربي والدولي، والقيمة المضافة التي وفرها الخطاب السينمائي المغربي بالخصوص والعربي عموماً في الكشف عن الكثير من الأحداث والقضايا التاريخية المختلفة، فكانت السينما تلك المحاكاة الفنية للواقع والتاريخ التي حاولت بطريقتها الفنية، تماشياً مع الأحداث والزمكان، في تقديم الحقائق من جهة، وإعادة فتح النقاش والحوار، لتحقيق العدل والإنصاف، ثم من جهة ثانية لأجل توضيح الكثير من الحقائق والمغالطات للأجيال وللرأي العام الوطني والدولي عموماً، وذلك انطلاقاً من روايات شفهية أو من خلال وثائق رسمية.
كما لامس الأكاديمي قنديل في مداخلته الكثير من القضايا الأخرى التي ارتبطت بالشهداء والمقاومين إبان ثورة 20 غشت التاريخية، وكذا بالصراع بين المركز والهامش، الذي تم التوثيق له من خلال أفلام تاريخية مثل فيلم” فداء” لمخرجه إدريس شويكة، وفيلم زين الدين عن وادي زم الشهيدة، فضلاً عن أعمال فنية أخرى مثل الفن التشكيلي، وفن العطية وهو فن موسيقي شعبي يمجد الأعمال البطولية التي قام بها رجال ونساء المقاومة لتحرير المنطقة والبلاد من قسوة المستعمر، وهي أعمال فنية ترسخ لروح الوجدان الجمعي الذي يتحدث خطابه بلسان العامة. حيث دعا بالمناسبة إلى ضرورة استرجاع الأرشيف التاريخي المغربي من السلطات الفرنسية، والحكايات الشفهية وأغلبها انقرضت بسبب موت الحكواتيين والرواة والأجداد الذي عاصروا الأحداث التاريخية عن قرب، وإعادة إنتاج المنظومة الاجتماعية السائدة والتحدي الذي واجه رجال الحركة الوطنية، وكذلك الموقعين على وثيقة الاستقلال من ضمنهم امرأة وحيدة هي مليكة الفاسي، وهي الوثيقة والأحداث التاريخية التي عرفت من خلالها إنجاز الكثير من الأفلام الوثائقية والروائية الطويلة.

توثيق التاريخ الفني والثقافي
من جانبه أكد الدكتور الحبيب ناصري في مداخلته الارتباط الوثيق بين التاريخي والسينمائي وكذا بين التاريخي والتوثيقي والأدبي والثقافي والفني عموماً، مستنداً بذلك بكثير من الامتثال لعدد من المفكرين والباحثين، حيث أوضح بالمناسبة أن المؤرخ المغربي المعاصر المختار السوسي قال بأنه” لا يؤرخ للمنطقة إلا ابنها”، أي العارف بخباياها ومن يشتم غبار التاريخ فيها لأنه وحده العارف بها من كل النواحي. وكشف القناع بالمناسبة عن بحثه الجامعي والأكاديمي في مراكش الذي تمحور حول عبيدات الرما، كلون فني وإبداعي عريق، اشتغل عليه الكثير من المخرجين السينمائيين خاصة على مستوى الوثائقي وتوثيق التاريخ الفني والثقافي الشفهي للكثير من المناطق النائية في الأرياف والبوادي، وذلك من خلال قصيدة”الشجعان” التي تتغنى بطريقة سينمائية وثائقية جميلة بقيم الشجاعة والنبل والنضال والمقاومة في القبيلة المغربية ومن خلالها بباقي القبائل العربية التي عاشت نفس الأوضاع الاجتماعية والسياسية، وهي تناضل من أجل الحرية في صراعها مع المستعمر، الذي نكل وعذب وقتل، وحاول طمس الهوية المغربية والعربية بكل الطرق ومهما كلفه الأمر، وبالتالي تظل الممارسة السينمائية حسب الدكتور ناصري قد اشتغلت على التاريخ بوعي أو بغير وعي، لأن التاريخ يظل ذلك الوعاء الثقافي والحضاري الخصب والثري، الذي يشكل ليس فقط للسينمائيين بل للفنانين والمبدعين والباحثين مرجعاً أساسياً للإبداع.
تحول السينمائي إلى وثيقة
وشدد الدكتور ناصري على أن كتاب السيناريو دائماً يجدون في التاريخ المادة المهمة والكافية لاستكمال ذلك الخيط الناظم بين الإبداعي الثقافي والأدبي وبين السينمائي كصورة وكشكل من أشكال الفرجة البصرية من زوايا متعددة، مؤكداً أنه لا يوجد تاريخ سواء كان شفهياً أو رسمياً مكتوباً مطلقا لدى كتاب السيناريو والسينمائيين، بل لكل وجهة نظره ورؤيته في التعامل مع التاريخ وقراءته دون تغيير في جوهره، وهو ما يمنح الصورة التاريخية في السينما أنواعاً كثيرة من لذة القراءة العاشقة الغنية بكثير من التمثلات، والتي تساعد الباحثين والمتلقي عموماً، في إثراء النقاش والوصول إلى مرامي الممارسة السينمائية والنقدية والثقافية عامة.
وقال أيضاً أن كل فيلم سينمائي وثائقي أو روائي تخييلي يتحول مع مرور الزمن إلى ربورتاج، وإلى وثيقة، وإلى عمل وثائقي يعود إليه الباحثون والنقاد كمرجع يستمدون منه الكثير من القضايا التي ترتبط بالأمكنة والأشياء والموجودات، والأزياء وطريقة الكلام والأكل، ونمط العيش في البادية والحواضر”، مستنداً على ذلك بفيلم”الابن العاق” خلال الأربعينيات من القرن الماضي لمحمد عصفور الذي يعد من رواد الحركة السينمائية المغربية، فضلاً عن فيلم” وشمة” لمخرجه حميد بناني.
كما أشار ناصري إلى أن أقوى ما يربط التاريخي بالسينمائي هو الحضور الوازن لعنصر الثقافة الشعبية من خلال ألوان عدة كـ”العطية”، والأغنية الشعبية و”عبيدات الرما”، لأنها ألوان فنية اعتمدت على الشفهي عموماً، في تقديم الكثير من الصور الحية ومن الأحداث التاريخية التي مرت في الزمان والمكان، وتبقى عبارة عن مادة فنية جماعية قبلية تنتمي إلى هذا الضمير الجمعي، ويغنيها الجميع دون معرفة من قالها أو مالكها الأول، وبالتالي حاولت السينما في كثير من المحطات رد الاعتبار لهذا التراث اللامادي، لأن الأغنية الشعبية التي اشتغلت عليها السينمائية في كثير من المناسبات، تم مسخها في العصر الحالي بهدف الربح، وتحولت إلى مصدر للرزق وتم إفراغها من محتواها الجمالي والاحتفالي مع تهميش كبير لشيوخ ورواد تلك الأغنية الشعبية.

تثمين الرأس المال اللامادي العربي
ودعا الناصري بالمناسبة من أجل التصدي لانقراض الأغنية الشعبية خاصة على مستوى العطية وعبيدات الرما، حتى تبقى مصدراً تاريخياً للسينما، إلى توثيق تلك الألوان الفنية، وتدريسها، ومنحها ما يكفيها من العناية خاصية على مستوى السينما الوثائقية، فضلاً عن ضرورة تثمين الرأس المال اللامادي الفني في المغرب وفي الوطن العربي، الذي يزخر بكثير من الأشكال الفنية والتراثية المتعددة والمتنوعة، والتي تصنع هذا الجمال الفني، في الهوية والتاريخ، فضلاً عن تحويل تلك المتون الفنية إلى أفلام سينمائية أو عروض مسرحية وغيرها، مع تحويل الشفهي إلى أشكال مادية ملموسة في المتاحف مثلا، وإدماج الذاكرة الشعبية كمادة للتدريس في المؤسسات التربوية والجامعية، وبالتالي فإن السينما تكون قوية ومهمة حين تنفتح على التاريخ، ومن ذلك الكثير من التجارب السينمائية التي اشتغلت على التاريخ مثل تجربة المخرج حكيم بلعباس الذي وظف مدينة أبي الجعد التاريخية في أعماله، وعلي الصافي الذي اشتغل على فن العطية، وعلى التاريخ الفني بمنطقة عبده وأسفي، من خلال فيلم دموع الشيخات”، والمخرجة إيزا جنيني في أفلامها مثل “البحث عن أولاد مؤمن”، وأخرى تحكي فيها عن اليهود المغاربة في مراكش وغيرها من التجارب السينمائية الأخرى التي اشتغلت على التراث والتاريخ كـ”خربوشة” لحميد الزواغي، وجارات أبي موسى” لعبد الرحمن التازي، وعبد الرحمن المجدوب وجنان الكرمة لفريدة بورقية، والرسالة لمصطفى العقاد وغيره من الأفلام التاريخية العظيمة.
وأوضح أن الكثيرين ما يزالون يجهلون التاريخ المغربي والعربي، وأن السينما قادرة على كشف القناع عن هذه العتمة، وذلك من خلال التركيز على تاريخ الكثير من القضايا والمواضيع التي ترتبط مثلا بفن الملحون، وتاريخ البلدان العربية في حلها وارتحالها خاصة على مستوى تاريخ الجزيرة العربية مثلا وبلاد ما بين النهرين، وباقي البلدان العربية والإسلامية المطلة على الضفة المتوسطية الجنوبية، في علاقتها بالضفة الشمالية، فضلا عن التراث اللامادي الذي ما يزال يشكل مصدرا حقيقيا وخصبا للكتابة، كل هذا من أجل رد الاعتبار للهوية العربية في ظل الصراعات والحروب وأزمة القيم والتخلف وكل مظاهر العنف والسلوكات المشينة التي عصفت بالتاريخ العربي بشكل عام.
الفيلم الوثائقي حول الثقافة والتاريخ
أما المخرجة لبنى اليونسي، فقد أثرت الندوة الفكرية بحديثها عن فيلمها الجديد”معجزة قسم”، الذي يتحدث عن تجربة أسرى مغاربة في سجون تندوف لمدة تزيد عن عشرين سنة، هذا الفيلم الذي جاء بعد تجربة عمل سينمائي وثائقي آخر بعنوان”على سكة الزمن” خلال عام 2004 مع علي نجيب، لتتطور الفكرة والتعامل على تيمة الأسر وقضية السجن والعذاب وحب الوطن ونبل الوفاء كمواضيع إنسانية ووجدانية بالدرجة الاولى، وهو الفيلم الذي توج خلال شهر ديسمبر الماضي بالجائزة الكبرى للدورة الثالثة لمهرجان الفيلم الوثائقي حول الثقافة والتاريخ والمجال الصحراوي الحساني بمدينة العيون.
وأكدت اليونسي التي تم عرض فيلمها، وتكريمها بالمناسبة بحضور المشاركين في الفيلم، وعرفت أنشطة خصبة وعرض أفلام وثائقية كفداء” لمخرج إدريس شويكة، وفيلم”أدور” لأحمد بايدو، مع تنظيم معرض للرسم أشرفت عليه جمعية ألوان للفنون التشكيلية، ولوحات فنية من التراث الشعبي، على أن العلاقة التي تربط السينما الوثائقية مثلا بالتاريخ، هي علاقة وطيدة، خاصة أن كلامها يخدم الآخر، وأن السينما وجدت في التاريخ الخلاص لكثير من أبحاثها، وهو ما ساعد على تسليط الضوء على كثير من الحقائق، ورد الاعتبار لقضايا كثيرة، وإخصاب المكتبة الأدبية والتاريخية والسينمائية وذلك من خلال توفير مراجع ومصادر مهمة للباحثين والطلبة، بهدف إعطاء مزيد من الدعم والاهتمام لمثل هذه التجارب، حيث اعتبر مهرجان وادي زم للتاريخ والسينما محطة دولية في المستقبل لتكريم التاريخي والسينمائي معا.
