حُب علي خشبة المسرح

ياسر ثابت

"يوسف وهبي" ممثل ومخرج مسرحي، من مسرحياته "كيلوباترا"

في مذكراته (3 أجزاء) التي تحمل عنوان “عشت ألف عام”، يكشف يوسف وهبي عن علاقات وغراميات عدة، خاصة في مرحلة المراهقة والصبا. فيروي يوسف وهبي عن تجربة التمثيل البدائية التي قام بها وهو في سن التاسعة بمساعدة الأسطى فؤاد النجار، الذي تطوع لأداء دور المخرج لمسرحية “روميو وجولييت”. يقول وهبي: “وفي اليوم التالي فاجأني المخرج النجار على باب المدرسة، ومعه صبية صغيرة تحمل كتبها، وصاح قائلًا: وجدت البطلة. أصابني ذهول تحول إلى فرح عظيم، وسألتها: “هل تقبلين القيام بدور جولييت”؟ أجابت: “أنا أفضل رواية “شهداء الغرام” فقد أعجبتني من فرقة أحمد الشامي”. سألت النجار : “وعائلتها”؟ أجابت هي بجرأة : “بابا مسافر في مصر وسيغيب ثلاثة أسابيع”. “تعرفي تمثلي؟ “فأجابت بثقة وقد لمعت عيناها الخضراوتان وهزت رأسها الذي يتوجه شعر ذهبي متموج: “بكرة تشوف”!

“بدأ المخرج ذو المنشار يلقنها الدور.أظهرت “برلنتي” قدرة فائقة واندماجـًا في الشخصية وموهبة فنية، وكانت في مشاهد الحُبِّ والهيام تبكي بدموع حقيقية، وتتلوى وتتنهد ويعلو صدرها الصغير ويهبط. كانت برلنتي أكبر من سنها التي لم تزد على عشرة أعوام، وما إن مضت بضعة أيام حتى جننا بها إعجابـًا. وكنت أتلهف إلى مواعيد التدريب الذي كنا نجريه في “العربخانة”.. لألتقي بها وأشبع عيني من حلاوتها وحساسيتها ورقة صوتها وهي تقول: “أحبك يا روميو”!

“كانت برلنتي تكبرني بعامين، ولم تكتف بتمثيل الحُبِّ والغرام، بل أضافت من عندها العناقات الحارة الطويلة والقبلات التي ذقت فيها للمرة الأولى سكرة التقاء الشفاه بالشفاه ومتعة الاحتضان ورعشات غامضة، بالرغم من أنه لم يكن مسموحـًا بتبادل القبلات على المسرح في الفرقة المحترفة، ولم تكتف برلنتي الجميلة بتمثيل العواطف الحارة في خلال البروفات، بل كانت عند انصرافها تضغط على يدي ضغطــًا شديدًا وتتورد وجنتاها البضتان. ذات مرة عند انصرافها دست بين أصابعي ورقة أخفيتها في جيبي، وما إن أويت إلى غرفتي، وانفردت بنفسي، حتى تناولتها بيد مرتعشة وإذا بها كلمة واحدة: “أحبك”.. وإذا بقلبي الصغير يكاد يقفز من صدري! لم أنم طوال الليل، واعترتني شبه حُمى.

«تعددت الرسائل الصغيرة المعطرة التي كانت تشعل فيَ نارًا، وجاء اليوم المنتظر ومثلنا المسرحية أمام زملائنا التلاميذ على سطح بيت النجار والمخرج فؤاد. وما أن انتهى التمثيل بنجاح فائق حتى اندفعت برلنتي في غرفة بالسطح وأطبقت بذراعيها على عنقي وطبعت على شفتي قبلة كاد يتعطل من حرارتها نبض قلبي، وجرت والدموع على خديها مسرعة بعدما دست في يدي سلسلة رفيعة من الذهب فيها قلب صغير بداخله صورة لطفلة جميلة لا شك أنها لها في سن الرضاعة، فأسرعت بإخفائها داخل منبه بجوار فراشي. هل من المعقول أن يعشق صبي وهو في التاسعة من عمره؟!».

في لحظةٍ مصارحة من النفس، يقول: «لفقوا لي القصص. اتهموني بأني قناص أصطاد الطير الضعيف، نهم في المتعة، حشاش، سكير، عربيد، جعلت من المسرح مصيدة سقطت فيها كثيرات من الضحايا، والحقيقة كانت عكس ما لفقوه لي، وما ابتكروه لتحطيم سمعتي. أنا لا أدعي أنني كنت قديسـًا أو راهبـًا في محراب، أو متصوفـًا، أو معصومـًا من الخطأ والشهوات، لكنني ـ كغيري أيام الشباب والفتوة ـ كنت أستجيب أحيانـًا للإغراء والجمال في شيء من النهم. بيد أنني لم أشرب الخمر ولم أتعاط المخدرات، ولم أرتكب موبقات سوى حُبّي السابق للقمار الذي سلبني عشرات الألوف».

 

 

في مذكراته يتحدث الممثل نجيب الريحاني عن صديقه الممثل القديم “علي أفندي يوسف”، لما دار بينهما من حكايات في ميدان الغرام والهيام، بسبب السيدة «ص.ق» التي بلغ تنازعهما عليها حد شك المقالب، وتدبير الفصول الساخنة، واصفـًا إياها بـ«أول غرام علق به قلبي».

يبدأ نجيب القصة من قهوة إسكندر فرح المجاورة لمسرحه بشارع عبدالعزيز، موضع سينما أولمبيا آنذاك، حيث كان من بين زبائن هذه القهوة الممثل القديم علي يوسف، الذي أصبح بعد ذلك من عتاة متعهدي الحفلات، وقتها «كان لعلي (قطقوطة) من بين الممثلات، ما تزال إلى اليوم في عنفوان “الشيخوخة” تحتل أحد أركان قهوة الفن، كما كانت في الماضي تأوي إلى مثل هذا الموضع من قهوة اسكندر فرح، وتلك (القطقوطة) هي السيدة (ص.ق). كان علي يوسف يعتز بصداقة هذه الفتاة، فلما كنت أذهب لأشاركهما في الحديث، كانت نظرة فابتسامة “فمش عارف إيه”.. فشبكان!

وظلت أواصر الصداقة تنمو بيني وبين فتاة علي يوسف هذه، بينما كانت تتراخى بينها وبين صديقها، دون أن يعلم الرجل من أمرنا شيئًا. وأخيرًا “لعب الفأر في عبه”، لكنه كان على جانب كبير من اللؤم، فلم يُبد لنا شيئـًا مما في نفسه، وعمل على مراقبتنا من حيث لا نشعر».

كان الريحاني في ذلك الوقت صبيـًا في السادسة عشرة أو السابعة عشرة من عمره، ورأى في نفسه أن خلقته لم تكن لتقارن بـ«أستغفر الله العظيم خلقة الصديق اللطيف»، كما أنه كان موظفـًا مضمون الإيراد، في حين كان منافسه «يا مولاي كما خلقتني»، وهذه أمور رأى فيها الريحاني أنها ترجح كفته في عيني الفتاة، ودفعته لأن يقترب منها أكثر وأكثر.

«فاتفقت مع الغزال النافر على تمضية نهاية الأسبوع في الإسكندرية بعيدًا عن علي يوسف ورقابته القاسية، ومعروف أن يوم الأحد هو موعد العطلة الأسبوعية في البنوك، فحصل الرضا والاتفاق بيني وبين محبوبي، على أن نغادر القاهرة ظهر السبت إلى الثغر، ثم نعود منه صباح الاثنين».

تأتي الرياح بما لا تشتهيه السفن، هذا ما حدث حرفيـًا مع نجيب الريحاني، فقبل موعد الخروج من البنك، زاره صديقه علي وألح عليه لكي يقرضه شيئـًا من المال بحجة أنه دعا بعض زملائه إلى نزهة خلوية، فأعطاه نجيب ما طلب، وهو يحمد الله ويدعو بطول العمر لأصدقاء علي الذين شغلوه عنه في هذه الظروف السعيدة.

في الموعد المحدد مع الفتاة، قصد الريحاني محطة سكة الحديد، ليجد «القطقوطة» على أحر من الجمر في انتظاره على رصيف القطار، الذي استقلاه وسار بهما وهما يحلمان بالسعادة التي سترفرف عليهما، إلى أن وصل القطار إلى محطة الإسكندرية، فنزلا سيرًا وخلفهما الشيّال بحقائبهما، ليفاجأ بظهور علي يوسف فجأة.

«اقترض اللعين مالي، واشترى منه تذكرة السفر، وجاء معنا في عربة أخرى بالقطار نفسه، وراح يستقبلنا هاشـًا باشـًا مرحبـًا، وهو يمد يده لي بالتحية شاكرًا إياي على قيامي بدفع نفقات السفر، لحضرته ولحضرة بسلامتها (الست المصونة والجوهرة المكنونة) التي استلبها مني وتركاني أعض بنان الندم».

يصارح الريحاني هنا القراء بأن الدنيا أظلمت في وجهه في تلك اللحظة، وأنه حمد الله لعدم امتلاكه سلاحـًا، ولا حتى سكينة البصل، ليغسل به الشرف الرفيع من الأذى، ليعود أدراجه إلى القاهرة مجددًا وهو يضرب أخماسـًا في أسداس.

 

 

 

لم تنته الحكاية عند هذا الحد، فالسيدة (ص.ق) ظلت تشغل بال الريحاني رغم علاقتها مع صديقه، ورغم مرور فترة ليست بقصيرة على مقلب الإسكندرية، فإنه كان يواصل الجلوس على مقهى الفن، المطلة على إحدى شبابيك غرف منزلهما، ليتابعها من بعيد، حتى أنها في مرة من المرات، اتفقت معه على إشارة معينة، هي أنها إذا وضعت نورًا في النافذة كان معنى ذلك أنها بمفردها، وأن في وسع نجيب أن يزورها.

وفي إحدى الليالي لمح الريحاني نورًا يشع من النافذة، فظن أن الطريق خال وأن “السنافور” مفتوح، فخلع حذاءه وتأبطه، ثم صعد السلم خفية، وطرق الباب طرقـًا خفيفـًا، وإذا به يجد من يفتح له الباب هو غريمه علي يوسف، الذي تناول الحذاء من يده، وتركه يعدو في الشارع حافي القدمين.

 

 

في مذكرات أخرى تخص الكاتب والمنتج المسرحي سمير خفاجي، يحكي كواليس نمو علاقة الحُبِّ بين فؤاد المهندس وشويكار، فيقول إن عبدالمنعم مدبولي هو الذي اقترح إسناد دور البطولة النسائية في مسرحية “السكرتير الفني” إلى شويكار -وكانت فتاة مجتمع تهوى التمثيل- بدلًا من برلنتي عبدالحميد، التي طلبت تغييرات كثيرة على نص المسرحية خلال البروفات،كان هذا أول لقاء بين فؤاد المهندس وشويكار، وبداية تعاون فني طويل بينهما، ليصبحا أنجح ثنائي ظهر على خشبة المسرح المصري ،وكان فؤاد المهندس في تلك الفترة متزوجـًا، في حين سبق لشويكار خوض تجربة الزواج من المحاسب حسن نافع، قبل أن يتوفى،ولم يكن يخبر وجه فؤاد المهندس  بعمره فالوجوه التي تحترف الطيبة لا تظهر نزق الشباب ولا تداعي الشيخوخة. أما شويكار، فهي امتلاء إناء الأنوثة بفائض الدلال.

يضيف خفاجي:”بعد نجاح “أنا وهو وهي” الذي أحدث ضجة غير مسبوقة حصلت علاقة بين فؤاد المهندس وشويكار الثنائي الأشهر، وحدث ما كانت تخشاه زوجة فؤاد.. ففي أثناء عرض المسرحية، كانت نهاية الفصل الأول ينام الاثنان على الأرض متجاورين على بطنهما ويهزان أقدامهما ووجهاهما عكس اتجاه الجمهور. وكان مخرج العرض عبدالمنعم مدبولي يرى أن هذه اللحظة العاطفية يجب أن يصاحبها مقطوعة موسيقية ناعمة كي تساعد على إضفاء الجو العاطفي على المشهد. وكان فؤاد لا يحب المؤثرات الخارجية من الموسيقى التصويرية كما ترسب في نفسه من فترة نجيب الريحاني الذي لم يستعمل الموسيقى التصويرية في مسرحياته إطلاقـًا.. لكن في نهاية عرض المسرحية في الأوبرا، فاجأ مدبولي فؤاد بالموسيقى في هذا المشهد، وكان مفعول الموسيقى كالسحر، ليس بالنسبة للجمهور الذي أحس بدفء المشهد، ولكن بالنسبة لفؤاد وشويكار، اللذين شعرا بالاقتراب من بعضهما. وبدأت قصة الحُبِّ بينهما التي انتهت بالزواج، وبدأ يكثر الخلاف بين فؤاد المهندس وزوجته الأولى الذي انتهى بالطلاق”.

بدأت علاقة"المهندس" و"شويكار" الغرامية من مسرحية"أنا وهو وهي "

وتروي شويكار أنه عرض عليها الزواج أثناء أحد العروض المسرحية، ليخرج المهندس عن النص قائلًا: “تتجوزيني يا بسكويتة “؟!، فوافقت على الفور.

كان طلب فؤاد المهندس الزواج من شويكار مختلفـًا، كما كان الزفاف أيضـًا، فبعد انتهاء الثنائي من المشهد الأخير من فيلم «هارب من الزواج» الذي اشتركا فيه، وكان عبارة عن زفاف وكانت الفنانة ترتدي بالفعل فستان زفاف، استغل الاثنان مشهد زواجهما، وقررا أن يتزوجا في الليلة نفسها، وبالفعل ذهبا وهما بالملابس نفسها التي أديا بها مشهد الفيلم إلى المأذون.

 

 

 


إعلان