عام مطاردة الساحرات في هوليوود

محمد موسى

أوقفت شركة نتفليكس الأمريكية لبيع الترفيه عبر الإنترنت تصوير الموسم الأخير من مسلسلها المعروف "بيت من ورق" بسبب اتهامات التحرش التي وجهت إلى بطله كيفن سبيسي

طغت قضية التحرش الجنسي الذي يُتهم به مشاهير من عوالم الصناعة السينمائية والتلفزيونية في الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية على جميع الأحداث والعناوين الفنيّة لعام 2017، وهي القضية التي وصلت إلى الاهتمام الشعبي بعد أن كشف الإعلام الأمريكي في الربع الأخير من العام الماضي عن ممارسات مُشينة – يُقال إن عمرها عشرات السنين – اقترفها رجال، من الذين يملكون سيراً حافلة في مجالهم ونفوذاً لا يستهان به. بدأت القضية بفضح المنتج الأمريكي المعروف هارفي واينستين، والذي سيكون سقوطه مدوياً، وسيهزّ الصناعة السينمائية في الولايات المتحدة والعالم. ليتشجع بعدها ضحايا تحرش جنسي من العقود الثلاثة الأخيرة لكشف ما تعرضوا له للإعلام وللسلطات الأمنية، وليبدأ عندها سباق لفضح المتحرشين وتنظيف الصناعة الفنيّة منهم.

وُصِفَت صدمة الكشف عما اقترفه واينستين على طوال عقدين، وردة الفعل من أهل الصناعة والناس العاديين عليه، باللحظة التاريخية الفاصلة، التي كانت الصناعة الفنيّة في أمسّ الحاجة إليها لتصحيح علاقتها مع النساء العاملات فيها. بيد أن ما حصل بعد ذلك يفوق كل التوقعات، لجهة القسوة غير المسبوقة التي طبعت ردود أفعال الشركات الفنيّة على تهم التحرش الجنسي التي طالت عاملين معها، إذ كان يكفي اتهام اسم شخصية شهيرة ما بالتحرش، بوقف التعامل معها، ودون انتظار إدانات القضاء مثلاً. فتخلت شركات عدة عن نجوم شعبيين كانت تتعامل معهم، وذهب بعضها إلى إعادة تصوير المشاهد التي مثلها متهم بالتحرش في فيلم كان جاهزاً للعرض، واستبداله بممثل آخر، حتى لا يرتبط العمل الفنيّ بأي شكل من الأشكال مع اسم الفنان المتحرش (كما حدث مع الممثل كيفن سبيسي في فيلم “كل المال في العالم” والذي كان قد انتهى من تصويره عندما وجهت اليه اتهامات بالتحرش الجنسي بشباب بعضهم تحت السن القانوني)

واللافت أن ردود أفعال شركات الإنتاج الحازمة والقاسية على تورط عاملين فيها بقضايا تحرش حظيت بدورها بتغطيات إعلامية تقارب تقريبا قصص التحرش ذاتها. حيث بدا أن هذه الشركات كانت تتنافس فيما بينهما في المديات التي يجب أن تذهب إليها لمعاقبة المتحرشين والنأي بنفسها عنهم. ألغت بعض الشركات مشاريع سينمائية وتلفزيونية كاملة كانت قريبة من تنفيذها بسبب اتهامات التحرش لعاملين فيها، في حين أوقفت شركة نتفليكس الأمريكية لبيع الترفيه عبر الإنترنت تصوير الموسم الأخير من مسلسلها المعروف “بيت من ورق” بسبب اتهامات التحرش التي وجهت إلى بطله كيفن سبيسي، وقررت بعدها إعادة كتابة الموسم بأكمله مرة أخرى، بحيث يتم إلغاء دور الشخصية الأساسية في المسلسل والتي يلعبها سبيسي.

تجرأ عدد محدود فقط من الذين وجهت إليهم تهم التحرش الجنسي بالدفاع عن أنفسهم، ووصفوا الجو العام المهيمن على الصناعة الفنيّة بالهستيري، وشبهوه بمطاردة الساحرات في القرون الوسطى في أوروبا، عندما كان يكفي اتهام امرأة ما بالسحر أو الشعوذة لإصدار حكم الموت عليها

تجرأ عدد محدود فقط من الذين وجهت إليهم تهم التحرش الجنسي بالدفاع عن أنفسهم، ووصفوا الجو العام المهيمن على الصناعة الفنيّة بالهستيري، وشبهوه بمطاردة الساحرات في القرون الوسطى في أوروبا، عندما كان يكفي اتهام امرأة ما بالسحر أو الشعوذة لإصدار حكم الموت عليها، والذي كان ينفذ بالغالب عن طريق ناس عاديين وفي طقوس بربرية. اختار أغلب الذين طالتهم تهم التحرش الصمت والانكفاء والابتعاد الكامل عن الإعلام، فيما أقرَّ الكوميدي الأمريكي المعروف “لويس سي كي” اتهامات السلوك الجنسي المشين التي وجهت إليه، وأعلن أسفه وابتعاده عن الحياة العامة الذي سيطول لفترة طويلة (حسب البيان الصحفي له، والذي نشر بعد نشر الاتهامات التي وجهت إليه في صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، وهي الصحيفة ذاتها التي كشفت عن فضيحة واينستين).

يعكس موقع “التفاح الفاسد” الإلكتروني (https://therottenappl.es) وإلى حدود كبيرة المناخ السائد اليوم في الدول الغربية بالعلاقة إلى التحرشات الجنسية في عالم الصناعة السينمائية والتلفزيونية، إذ يجمع الموقع الذي انطلق في الأشهر الماضية معلومات عن المتحرشين ويربطها بالأعمال الفنيّة التي ظهروا فيها، فالبحث على الموقع على أعمال بعينها يقود إلى معلومات تخص اتهامات التحرش – إذا وجدت – للعاملين فيها، مع خلفيات عن هذه الاتهامات. يحاول الموقع الإلكتروني التأثير نفسياً على مستخدمي الموقع، لتحديد علاقتهم بالأعمال الفنيّة التي يبحثون عنها، ودعوتهم ضمنياً للحكم عليها بأثر رجعي، رغم مرور سنوات طويلة على زمن إنتاج أغلب هذه الأعمال.

وقد وسّع هاشتاغ # أنا أيضاً (metoo#)، والذي انتشر قبل أشهر على نحو واسع عالمياً عبر مواقع التواصل الاجتماعي، النقاش الدائر عن التحرشات الجنسية التي تتعرض لها النساء (وأحياناً الرجال)، وفتحه على مديات لا تنحصر بالصناعة الترفيهية، حيث بدأت نساء عاديات ومن خلفيات اجتماعية وبيئات عمل متنوعة برواية تجاربهن مع التحرش الجنسي بكل أنواعه المهينة، رغم حساسية القضية للكثير منهن. تحول الهاشتاغ والظاهرة التي يركز عليها إلى أهم أحداث العام الإلكترونية والاجتماعية، ومثال على قدرة مواقع التواصل الاجتماعي على التغيير وهزّ الموروثات الصعبة، وخلق وسيطاً افتراضياً فعالاً يربط بين نساء من ثقافات مختلفة.

وسّع هاشتاغ # أنا أيضاً (metoo#)، والذي انتشر قبل أشهر عبر مواقع التواصل الاجتماعي، النقاش الدائر عن التحرشات الجنسية التي تتعرض لها النساء (وأحياناً الرجال)، وفتحه على مديات لا تنحصر بالصناعة الترفيهية.

دفع تطور قضية التحرش في هوليوود المبادرات – والتي كانت قد بدأت بحياء العام الماضي- لمنح النساء في عاصمة السينما العالمية المزيد من المسؤوليات، لأن هذا وحده من شأنه أن يغير أجواء العمل التي يهيمن عليها الرجال، ويقلل فرص التحرش. في هذا الاتجاه قررت ممثلات أمريكيات شهيرات مثل ريز ويذرسبون وجيسيكا تشاستين إطلاق شركات إنتاج خاصة بهن، مع وعود بأن هذه الشركات سوف تركز على المشاريع الفنيّة التي تمنح النساء مساحة مهمة من قصصها، هذا علاوة على تشغيل عدد كبير من النساء في وظائف متنوعة ضمن الهيكلية الإدارية الخاصة بالإنتاج السينمائي والتلفزيوني.

وعلى الرغم من مرور أشهر على تفجر قضية التحرش، الا أن المناخ العام لا يبدو جاهزاً بعد لتحليل الظاهرة، ونقد خفة شركات الإنتاج الفنيّ في التعامل معها، حيث يتم تخويف وقمع الأصوات التي تطلب التمعن قليلاً في الظاهرة وعدم المبالغة في ردّ الفعل، وكما حدث أخيراً مع تصريح النجم مات ديمون، والذي دعا فيه إلى التذكير بالرجال في الصناعة السينمائية الذين يحترمون النساء ولم يتحرشوا بهن أبداً، وعدم التركيز دائماً على “الرجال الفاسدين”. لقى هذا التصريح نقداً واسعاً من بعض زملاء ديمون، وأيضاً من جمهور واسع على الإنترنت، حتى أن البعض تطوع للتوقيع على عريضة إلكترونية تدعو الشركات السينمائية إلى وقف التعاون مع النجم الأمريكي المعروف في المستقبل.

من المهم التأكيد على أهمية ما وقع منذ تفجر قضية التحرش الجنسي، والذي يُعَّد حدثاً تاريخياً بالفعل، من ردّ الاعتبار المعنوي الجزئي الذي حصل عليه الضحايا، والدرس المهم الذي يجب على الجميع تعلمه، بأن ضحايا التحرش الجنسي لن يصمتوا بعد اليوم. إلا أن أداء شركات الإنتاج الفنيّ شابه الكثير من الفوضى والغموض، فهي أصدرت أحكاماً ونفذت هذه الأحكام قبل أن يبدأ القضاء نفسه بالتحري والتحقيق في هذه القضايا، وسارت بشكل أعمى أحياناً وراء صحف عريقة ومواقع إثارة على الإنترنت، من التي فضحت متحرشين. أما ما نُقل عن تحقيقات داخلية قامت بها هذه الشركات في سلوك العاملين لديها وبعد أن كشفهم الإعلام، فمازال يحتاج إلى تأكيد جهات حيادية. حتى يتحقق ذلك، ستتواصل على ما يبدو هذه الهيستريا التي ربما سيذهب ضحيتها بعض الأبرياء.

دفع تطور قضية التحرش في هوليوود المبادرات – والتي كانت قد بدأت بحياء العام الماضي- لمنح النساء في عاصمة السينما العالمية المزيد من المسؤوليات.


إعلان