التحرش في السينما العربية.. حضور محتشم يتعرى تدريجيا
المصطفى الصوفي

“كلوديا” السكرتيرة الخاصة لمدير الشركة المجهولة الاسم في الطابق العلوي من العمارة الشاهقة، تبدو مذهلة أكثر من اللازم، وزجاج العمارة الذي يتلألأ مع مطلع كل نهار يجعلها من أروع الأماكن على تلك الضفاف في موسم الصيف؛ حيث الألوان والأشكال التي توحي بموسم أكثر بهجة ورومانسية، لكن لا أحد يدرك ما الذي يقع في تلك العمارة الشاهقة.
تدلف كلوديا إلى مكتب المدير دون استئذان، فقد ألفت هذا الأمر في عملها السابق دون أن تسبب لمديرها أي إحراج؛ لأن عملها يحتم عليها أن تكون كذلك. تدلف كلوديا هذا الصباح، لقد أحست أن مديرها المباشر أكثر نشاطا وحيوية فلم تعهد فيه ذلك من قبل، تساءلت في دواخلها ما الذي يحصل؟ هذه بشارة خير قد تأتي معها بتعويض سمين في آخر الشهر. أحست بالهوة وهي تكتم ضحكتها حتى لا يسمعها بقية الموظفين.
مشاهد تحاكي السينما
تبسمت كلوديا ثم دلفت بخطوات أكثر ثقة من قبل وهي تلقي تحية الصباح، رد عليها المدير بأحسن منها وهو ينهض من فوق كرسيه ليسلم بحرارة، وهذه المرة حاول أن يطبع على خذها قبلة خفيفة لكنها أحست بالحرج، وتجاهلت الأمر بطريقة لبقة. وضعت الملف على مكتب المدير ثم خرجت مسرعة وقد اختلطت عليها الأفكار، تجمدت في مكانها وجلست في مكتبها تأخذ نفسا عميقا دون أن تدرك ما الذي حصل. فتلك طريقة غير معهودة من قِبل سيادة المدير، حاولت أن تبعد كل الهواجس والوساوس التي استبدت بها، حاولت جاهدة دون جدوى، رمت ببصرها في الخارج، الجو أكثر قتامة والسماء ملبدة بالسحب.
في اليوم الثاني حصل الشيء نفسه، ثم في اليوم الثالث وربما في كل يوم، ساعتها أدركت كلوديا أن المدير يخطط لشيء ما، حاولت تجاهل الأمر مرارًا حتى لا تضيع فرصة عملها الجيد في هذه المؤسسة، لكنها كانت بين فكي أمر واقع، تُرى ما الذي ستفعله أمام إغراءات وضغوط تتكرر يوميا؟ هي ليست طفلة إلى هذا الحد.. فعلا كانت تحت الصدمة.
تكاد هذه المشاهد -التي تحاكي السينما- لا تتلاشى أمام هول ما يقع، فـ”المرأة مخلوق ضعيف” ستبقى راسخة في الأذهان؛ وبالتالي استطاع الكثير من المخرجين إعادة تمثيلها في أعمالهم لا لشيء إلا من أجل التأكيد على خطورة ما يقع في الفضاءات المغلقة وحتى في المفتوحة؛ لأن التحرش بالمرأة سواء في أماكن العمل أو خارجه يظل أمرًا واقعًا وموجعًا بالنسبة للمرأة التي تكون غالبا بين أمرين: إما الخضوع لرجل متسلط والحفاظ على عملها وتجنب الفضيحة، أو صيانة كرامتها والإفصاح عما أصابها من مكروه من قِبل الرجل وفضحه، وتلك مسألة قاسية وصعبة تحتاج إلى قوة شخصية وجرأة كبيرة في مجتمع محافظ قد لا يغفر للمرأة زلاتها، وقد لا يصدقها مهما كانت جادة في كلامها.
التحرش في السينما.. تعدد الرؤى والتأويلات
المخرج والناقد السينمائي المغربي سعيد الشرايبي وهو أحد النشطاء الحقوقيين البارزين والأكاديميين المتخصصين في السينما، كثيرا ما دافع عن حقوق المرأة في أعماله السينمائية في فيلم “نساء ونساء” و”جوهرة بنت الحبس”.. وغيرها، فقد تساءل في ندوة عقدت نهاية الشهر الماضي ضمن فعاليات الدورة الـ12 للمهرجان الدولي لفيلم المرأة بسلا ضواحي الرباط، وذلك عن المرأة في السينما والتحرش الجنسي؛ هل التحرش مرتبط بالجنس أم له علاقة بنفسية المتحرش وسلوكه غير القويم؟ وتلك إشكالية لا بد من النظر إليها من جوانب عدة للوقوف على خلفياتها وتداعياتها وأسبابها.
كما تطرق إلى موضوع التحرش في العمل السينمائي بصيغة تشخيص الدور من قِبل الممثلين والممثلات؛ إذ يرى بأن ذلك قد يطرحه كاتب السيناريو ضمن قصة الفيلم بكامله، أو مرتبط بالسياق العام للعمل السينمائي والرؤية الاجتماعية ورغبة المخرج في اقتراحه وطرحه وتشاركه مع الجمهور من أجل التفاعل كضرورة اجتماعية، وجزء من رؤية السيناريست والمخرج بهدف التوعية بأهمية القضية ومحاربتها.
لعل الموضوع من وجهة نظر الشرايبي محاولة لإعادة إنتاج الواقع بشكل فني آخر يبرز من خلاله دور الصورة في التأثير على المتلقي، فقد يكون لهذا المنحى دور جمالي وشاعري مكمل للعملية الإبداعية السينمائية برمتها دون أن يكون هناك تأثير سلبي على الرؤية الفيلمية والجمالية كلها.
عنصر تأويل التحرش في الأفلام وإعادة قراءته وفق رؤية المتلقي والمشاهد وثقافته له أهمية كبيرة في إنتاج المعنى السينمائي، وهذا التأويل -حسب الشرايبي- يختلف من متلقٍ إلى آخر حسب طبيعة ثقافة الجمهور وقيمة استيعابه لدلالة الصورة وعلاماتها، على اعتبار أن الصورة في بعدها الجمالي هي رمز ودلالة وإشارة وأيقونة لا بد من فك شفرتها دون قراءتها بطريقة تقريرية ومباشرة، وكل هذه القراءات المتعددة الجوانب تعطي نوعا من الخصوبة والثراء النقدي للعمل السينمائي برمته، وذلك هو مكمن السحر السينمائي في علاقة النص السينمائي بالممارسة النقدية.
السينما.. هل هي براء من التحرش؟
تساءل الناقد اللبناني إبراهيم العريس عن طرح الموضوع في السينما الآن مع أنه موجود في كل المجتمعات، داعيا إلى التصدي لذلك. ورأى أن نجمات السينما وبعد أن أفل نجمهن في القطاع؛ استيقظن بعد عشرين سنة من الاختفاء لإثارة تلك القضية، وذلك بحثا عن نجومية جديدة وباهتة وحتى تستعيد هيبتها وقوتها، مؤكدا أن السينما براء من التحرش، وأن العديد من الأفلام تبرأت من التحرش والسينما ضد التحرش، وأن الكثير من النساء في الوطن العربي هن نجمات ومبدعات وفنانات حقيقيات طورن القطاع السينمائي سواء كممثلات أو مخرجات أو منتجات أو كاتبات سيناريو.
بدوره أكد الناقد عبد القادر مكيات في تصريح خاص للجزيرة الوثائقية أن حضور ومعالجة ثيمة التحرش في السينما المغربية عموما من خلال أفلام روائية أو وثائقية لا يزال محتشما للغاية، ولا يرقى إلى مستوى تطلعات الجمهور والمتتبعين والمنظمات الحقوقية التي تدافع عن المراة وحقوقها الشخصية والاجتماعية. وقال إن الظاهرة سينمائيا تصطدم بقيم ثقافة العادات والتقاليد في المجتمع ولدى الأسر المحافظة، حيث يعتبر إثارة الموضوع في السينما هو نوع من التمرد على التقاليد، وتكريس لانعدام السلوك وقلة الأدب، علما أن طرح الإشكالية عبر ثقافة الصورة هو السبيل القويم من أجل معالجة الظاهرة والتصدي لها.

التحرش في السينما.. مطروق لكنه هامشي
إذا انتقلنا إلى السينما العربية وخاصة المصرية، وجدناها تناولت قضية التحرش في محطات كثيرة، وذلك من أجل إبراز خطورتها وضرورة الحد منها، وتوعية الناس بعدم الإساءة إلى المرأة بتلك السلوكات المشينة، لتصبح السينما بذلك فنا بصريا مساهما في تغيير الصورة النمطية عن المرأة والنظرة الدونية تجاهها، ولما تتعرض له من اغتصاب وتعنيف وجرائم شرف وزواج غير قانوني، وكل الأشكال التي تحط من كرامتها وتعطيها الحق في الحياة بحريّة.
ولدى بعض المخرجين والسينمائيين عموما فإن موضوع التحرش لا أهمية له، ويبقى على هامش اهتماماتهم، لأن مناقشته سينمائيا أمر حساس وشائك وصعب للغاية، وذلك بالنظر إلى خصوصية المجتمع العربي وقيم التربية والثقافة والهوية فيه.
فكثير من المخرجين ناقشوا هذه القضية من وجهات نظر مختلفة، وضمن ببلوغرافيا السينما العربية نجد أن المخرج المصري صلاح أبو سيف كان من السباقين لطرح هذه الإشكالية من خلال فيلمه “بين السماء والأرض” بطولة هند رستم ومحمود المليجي، كما لا ننسى أفلاما أخرى تناولت القضية بصيغ وقوالب فنية مختلفة منها “إحنا بتوع الأوتوبيس” و”صعيدي في الجامعة الأمريكية” بطولة محمد هنيدي والذي أضفى عليه المخرج سعيد حامد طابعا كوميديا ممتعا، وكذلك فيلم “678” الذي كتبه وأخرجه محمد دياب ومن بطولة نيلي كريم وبشرى وباسم سمرة وماجد الكدواني، ثم هناك الفيلمان الفلسطينيان “مغارة ماريا” لمخرجته بثينة كنعان الخوري، والفيلم الوثائقي “سارة 2014” للمخرج خليل المزين، دون أن ننسى الأفلام الوثائقية القصيرة للمخرجة نيفين شلبي وهم “اتكلمي” و”شكوى إلى البحر” و”مروة”، وهي أفلام وثائقية تحكي عن معاناة المرأة مع التحرش.
السينما المغربية.. تجارب وفيرة
تناولت العديد من الأعمال في المغرب قضية المرأة وما يرتبط بها من طموح وأحلام ومضايقات، حيث إن كل مخرج تناول القضية من وجهة خاصة، ومن تلك الأفلام “بيل أو فاص” لحميد زيان الذي أنتجه عبد القادر بوزيد السنة الجارية، وهو يعالج القضية من خلال التحرش والخيانة الزوجية، وفيلم “السمفونية المغربية” لكمال كمال، و”سميرة في الضيعة” للطيف لحلو، و”الدار البيضاء باي نايت” لمصطفى درقاوي، و”الزين لي فيك” لنبيل عيوش والذي أثار ضجة كبيرة بسبب جرأته القوية، و”الصمت العنيف” لمؤمن السميحي، وفيلم “أركانة” للمخرج حسن غنجة، و”أمينة” لمحمد التازي، و”عرائس من قصب” للجيلالي فرحاتي، و”تيليلا” لمحمد مرنيش، و”حب بلا فيزا” لنجيب الصفريوي، وغيرها التي تناولت المرأة من زوايا متعددة بأحلامها وأوجاعها وتناقضاتها وطموحها ورغبتها في التمرد والحياة والعيش بسلام، إنها أفلام ركزت على المرأة كثيمة بحثا عن التميز وكشف ما يقع في عمق المجتمع.
ويبقى فيلم “خلف الأبواب الموصدة” للمخرج محمد عهد بنسودة أحد أبرز الأفلام التي طرح فيها قضية التحرش بشكل مباشر، ففيه تحلم موظفة -متزوجة- بإحدى المؤسسات الخاصة بتحسين وضعها الاجتماعي وذلك باجتهادها ونيتها الصادقة في العمل، لكنها تُصطدم بأحلام أخرى لمديرها المباشر غيّر نظرتها للرجال والحياة بشكل عام، بعد أن حاول الاعتداء عليها وإخضاعها إلى نزواته، دون أن يفلح في مسعاه في نهاية الفيلم.
بطلة الفيلم زينب عبيد برعت في تشخيص هذا الدور، وقدمت نموذجا حقيقيا لممثلة واعدة عرفت كيف تتقمص الدور بالرغم من صعوبته وقوته، حيث حافظت في الفيلم على استقرار أسرتها، للتأكيد على أن المرأة ذات الشخصية القوية قادرة على التغلب على الرجل مهما كان نفوذه المادي والمعنوي، هذا ما يمكن قوله في الواجهة المضيئة للفيلم، أما الواجهة المعاكسة من الفيلم فقد واجهت نساء فقيرات نفس الهمّ، وكنَّ ضحية مضايقات.
القصة في مجملها قصة عادية وبسيطة ويمكن أن تحصل في أي مكان من العالم، وبالتالي فإن المتتبع لمشاهد الفيلم سوف يقف عند مشاهد تخلو من المسحة السينمائية الإبداعية الجميلة والعنصر التشويقي المؤثر، ففي الفيلم لا توجد أبواب مغلقة، وكأن عنوان الفيلم يوحي بوجود أشياء غير عادية داخل فضاءات مغلقة إغلاقا محكما، بل أغلب المشاهد كانت وسط زجاج شفاف، فكان العنوان خادعا وغاب عنصر التشويق والفرجة السينمائية.
التحرش.. البحث عن مكاسب مالية
تناولت السينما الغربية القضية ربما بشكل أكثر جرأة وذلك بالنظر إلى طبيعة المجتمع الغربي ونظرته إلى بعض المواضيع التي تعتبر في المجتمع العربي مواضيع من العيب مناقشتها، ومن تلك الأفلام “التربية السيئة” للمخرج الإسباني بيدور مدوفار، والدراما السينمائية “الجندي المفقود”، و”أنطون فيش” للمخرج دنزل واشنطن وغيرها. ويبدو أن الأفلام الغربية التي تناولت الموضوع كانت أكثر حرية من الأفلام العربية عموما؛ نظرا لطبيعة المجتمعين، وما يميزهما من عادات وقيم وثقافات، وبالتالي كان الاختلاف واضحا بين التجربتين في تناولهما لموضوع التحرش بشكل عام.
على العموم يبقى التحرش في السينما العربية محتشما، وفي ذيل اهتمامات المخرجين وكتاب السيناريو، لكن بعض المخرجين المتشبعين بالثقافة الغربية والأوروبية يرون في مناقشة القضية في السينما أمرًا عاديًّا بحثا عن مكاسب وعائدات مالية، أو حتى الجهات الداعمة لمشاريعهم السينمائية التي تفرض عليهم في بعض الأحيان التطرق لمثل هذه المواضيع، فيما يفضّل آخرون -وذلك احتراما للقيم المجتمعية- مواضيع اجتماعية أخرى وما أكثرها، أو مواضيع ذات بعد ثقافي أو حقوقي أو كوميدي، وقد نجح مخرجون في هذا الاتجاه، ومن أبرز تلك الأعمال الفيلم الجديد “الحاجات” لمخرجه محمد أشاور، وهو بطولة أربع نساء يناضلن بطريقتهن الخاصة لضمان حقهن في الحياة ومعهن باقي المستضعفين والمظلومين.