الأفلام العربية بمهرجان لندن السينمائي.. مضامين محلية تُفقدها التنافس
عدنان حسين أحمد

حقّق مهرجان لندن السينمائي مكانة مرموقة بين المهرجانات السينمائية في العالم، لكنه لم يرتقِ إلى الصف الأول الذي تتصدره مهرجانات عريقة ذات سويّة فنيّة عالية مثل “كان” و”فنيسيا” و”برلين”، وإنما اكتفى بمنزلته الجديدة التي ارتكن إليها في الصف الثاني بعد “تورنتو” و”كارلو في فاري” و”روتردام” على الرغم من عراقته التي جاوزت الستة عقود بسنتين.
يُقدِّم المهرجان كل عام أكثر من 200 فيلم روائي ووثائقي وقصير في 14 صالة سينمائية يتوفر معظمها على أحدث تقنيات العرض الحديثة، ويستضيف أفلامًا من القارات الخمس، لكن حصة البلدان العربية تبقى قليلة جدًا إذا ما قُورنت بالبلدان الأخرى المُنتِجة للفن السابع.
وفي هذا العام تحديدًا تم عرض ثمانية أفلام روائية ووثائقية عربية تمثل سبعة بلدان هي مصر وسوريا ولبنان والسودان وليبيا وتونس والسعودية. ولو تأملنا مضامين هذه الأفلام لوجدناها تتمحور حول قضايا سياسية واجتماعية وفكرية تهمّ الناس محليًا وإقليميًا في أفضل الأحوال، ونادرًا ما يمتد تأثيرها ليلامس الأفق العالمي مثل قضية الإرهاب التي أربكت المعمورة برّمتها، وحرمت البشرية من نعمة الأمن والسلام.
المتحيّرون جنسيا.. ثيمات حساسة
تُعنى معظم المهرجانات الأوروبية والأمريكية بثيمات محددة يندر أن تتجاوزها إلى موضوعات أُخرى حتى وإن كانت إنسانية أو جماهيرية تهمّ شرائح واسعة من الناس الفقراء في العالم. ولو ألقينا نظرة خاطفة على الأفلام الأربعة التي تُوّجت بجوائز الدورة الـ62 لمهرجان لندن السينمائي، فسوف نجد أنها تركِّز على شريحة الـ(LGBT) التي تعني “المثليات والمثليين ومزدوجي الميول الجنسية والمتحوّلين جنسيًا”، والبعض يضيف حرف (Q) اختصارًا لكلمة (Questioning) التي تعني “المتحيّرين” الذين لا يعرفون هُويتهم الجنسية بالتحديد.
فاز فيلم “جُوي” للمخرجة النمساوية سودابه مرتضاي -وهي من أصول إيرانية- بجائزة أفضل فيلم لأن بطلته الرئيسية منغمسة بالدعارة رغمًا عنها، وأنها تسعى بواسطة هذا العمل لتسديد ديونها إلى مُستغِلتها المدعوّة “مدام”، كما تؤازر أسرتها في نيجيريا وتأمل بتوفير اشتراطات العيش الرغيد لابنتها في فيينا.
أما الفيلم الثاني الذي خطف جائزة “ساذرلاند” التي تُمنح للفيلم الروائي الأول فهو فيلم “فتاة” للمخرج البلجيكي لوكاس دونت، ويروي قصة لارا وهي مراهقة متحولة جنسيًا تحلم بأن تصبح راقصة باليه في “هذه القصة الاستثنائية الناضجة” كما ورد في الموجز التعريفي للفيلم.
بينما أُسندت الجائزة الثالثة إلى الفيلم القصير “علامات ثابتة” للمخرج الإنجليزي تشارلي لاين، ويتمحور حول 16 رجلاً كانوا متهمين في الحقبة التاتشرية بتهمة السادومازوشية أو السادية (وهي الحصول على المتعة عبر إلحاق الألم والأذى بالطرف الآخر)، وقد اعتبرتهم الحكومة مجرمين آنذاك لأنهم عبّروا عن رغباتهم الإنسانية “الطبيعية” من وجهة نظر الفائز، رغم أنهم يُوقِعون الألم بالآخرين ويتحمّلون الألم الذي يتعرضون له في الوقت ذاته.

ماذا تفعل حين يشتعل العالم؟.. ثيمة مُغايرة
ربما يكون الفيلم الوحيد الفائز خارج هذه الثيمات الحسّاسة والمهمة كما يراها محكِّمو المسابقات والقائمون على المهرجان هو فيلم “ماذا ستفعل حين يشتعل العالم؟” للمخرج الإيطالي روبيرتو مينرفيني الذي يسلط الضوء على العنصرية وإطلاق النار على المواطنين السود من قبل الشرطة، وإحساس هؤلاء المواطنين بأنهم ينتمون إلى بلد لا يقف إلى جانبهم.
تُرى، كيف سيكون مصير الأفلام العربية إزاء هذه الثيمات التي يسيل لها لُعاب القائمين على المهرجانات الأوروبية؟! بل إن أغلب الرؤساء المرشحين في الانتخابات الرئاسية لهذه البلدان يتسابقون إلى إعلان التزامهم بحقوق هذه الفئات “المثلية” في المجتمع.
لا شكّ في أن حظوظ الأفلام العربية ضعيفة ليس في الفوز فقط، وإنما في المشاركة في هذا المهرجان الذي قطع أشواطًا طويلة في بناء سمعته العالمية، واستقطاب النجوم الكبار إلى أفخم الصالات السينمائية في مدينة لندن كي يتحدثوا عن أدوارهم الرئيسية الحساسة التي يترقبها الجمهور الواسع من عشّاق السينما ومحبّيها.
تداعيات الربيع العربي.. مصر وسوريا
اشتركت مصر بفيلمين، الأول روائي يحمل عنوان “يوم الدين” للمخرج أبو بكر شوقي، والثاني “الحُلُم البعيد” للمُخرجَين مروان عمارة ويوهانا دومكا.
يروي فيلم “يوم الدين” قصة أحد المرضى الذين تماثلوا للشفاء من مرض الجُذام لكنه لم يغادر هذه المستعمرة إلاّ بعد وفاة زوجته، وحين يصل إلى مسقط رأسه برفقة صديقه النوبي “أوباما” يقرر العودة ثانية إلى هذه المستعمرة التي يعرفها عن كثب.
ويتناول مروان عمارة ويوهانا دومكا في فيلم “الحلم البعيد” بداية انطلاق “الربيع العربي”، وفترة ما بعد الثورة الذي سلب من الجزء الجنوبي لجزيرة سيناء سحرها الخاص كمنتجع صيفي، وسوف يدرك الشباب أنهم السكّان الوحيدون في مدينة الأشباح التي غادرها السيّاح إلى مصائف أكثر أمنًا وسحرًا وجاذبية.
كما ساهمت سوريا بفيلم “يوم فقدتُ ظلي” للمخرجة السورية سؤدد كعدان، ويتمحور فيلمها حول “سنا”، وهي أم شابة تعيش مع ابنها البالغ من العمر تسع سنوات لكنها تخرج ذات يوم بارد باحثة عن أسطوانة غاز في محيط مدينة دمشق، وتلتقي بناشطين في سيارة بعد أن هرب سائقها من نقطة تفتيش، وتعلق معهم لمدة ثلاثة أيام لتواجه ما خلّفته الحرب من آثار مروّعة.
كفرناحوم.. نضج وإقناع وحبكة جيدة
ربما يكون فيلم “كفرناحوم” للمخرجة اللبنانية نادين لبكي هو أكثر الأفلام العربية المُشاركة نضجًا، وذلك لما يتوفر فيه من قدرة على إقناع المتلقي بمشاكل اللاجئين السوريين في لبنان، والباحثين عن عمل في بلد لا يستطيع أن يستوعب العمالة الوافدة من خارج الحدود.
وعلى الرغم من أن ثيمة الفيلم الرئيسية تدور حول سؤال فكري عصيب مفاده أن الابن “زين الحاج” يريد مقاضاة أبويه في المحكمة حينما يقول “بدي أشتكي على أهلي لأنهم خلّفوني”، فإن القصة السينمائية لهذا الفيلم المحبوك جيدًا تذهب أبعد من ذلك لتناقش مشاكل الفقر المُدقع والعنف المنزلي والزواج المبكّر والعمالة الآسيوية والأفريقية في لبنان، وسؤال الهُوية الذي لا يخصّ الوافدين الأجانب فقط وإنما العرب الذين تقطّعت بهم السُبل وعانوا الأمرّين في تحصيل الرزق الحلال.
لم يكن هذا الفيلم متجهمًا رغم مأساوية أحداثه، فقد تخللته الكثير من المواقف الكوميدية الساخرة التي أضحكت الجمهور غير مرة، وأشعرتهم أنهم يشاهدون فيلمًا خفيف الظل يجمع بين الملهاة والمأساة في آن معًا.
تمرّد وتشدد وإرهاب.. من السودان وليبيا وتونس
يأخذنا المخرج السوداني حاجوج كوكا إلى المناطق التي يسيطر عليها المتمردون في جنوب السودان، ويضعنا في مواجهة ثالوث جديد تقوم أركانه على الصديق والصديقة والعشيقة، لكن هذه الأخيرة ليست كائنًا بشريًا تتصاعد في صدرها الأنفاس، وإنما بندقية (AK 47) يعشقها المتمرد عدنان الذي وقع سلفًا في حب صديقته لينا.
يعالج الفيلم قضية الهروب من خدمة العلم، ويستكشف في الوقت ذاته طبيعة الأيدولوجيات في المناطق التي يسيطر عليها المتمردون في السودان، وتدور أحداث الفيلم برمته خلال 24 ساعة فقط كثّفها المخرج وكاتب السيناريو بطريقة ذكية لا تخلو من السخرية وخفة الظل.
ومثلما تألقت نادين لبكي في “كفرناحوم” الذي عُرض بنجاح ساحق لثلاثة أيام متتالية، نجح أيضا فيلم “مَلاعب الحرية” للمخرجة البريطانية الليبية نزيهة عريبي التي رصدت من خلاله فريق كرة القدم النسائي والمعوّقات التي واجهت أعضاء الفريق منذ الربيع العربي في ليبيا عام 2011 حتى الوقت الحاضر.
وتنطوي مزاولة هذه الرياضة على مخاطر جمّة خصوصًا وأن أحد رجال الدين كان يرى في كشف اللاعبات لسيقانهن أمرا خطيرا يهدد حضارتنا العربية بالانهيار، كما أن هذه التصريحات كانت تشكّل خطرًا على سلامة الجميع، وإن كان التركيز مُنصبًا على ثلاث لاعبات هنّ الكابتن فدوى، وحارسة المرمى حليمة، ونعمة الطالبة التي تتعرض عائلتها للترحيل بسبب موقفها من الانتفاضة وتبقى في مخيّم للنازحين بانتظار العودة إلى مدينتها. البريطانيون يعتبرون نزيهة عريبي بريطانية لأنها من أب ليبي وأم إنجليزية، بينما يعتبرها الليبيون ليبية، وترى نزيهة أنها بريطانية جدًا وليبية أكثر من اللزوم.
وأعادنا فيلم “وِلْدي” للمخرج التونسي محمد بن عطية إلى قضية الإرهاب التي استهلكتها السينما العربية، وجعلت المتلقين يرَون أشياءَ مكررة مألوفة كأننا شاهدناها عشرات المرات. فثمة أب على وشك التقاعد، وابن وحيد يستعد لأداء اختبارات المدرسة الثانوية لكنه يخالف توقعات والديه بشأن تحقيق أحلامه المستقبلية في العمل والزواج وتكوين الأسرة، إذ يختفي فجأة ثم نكتشف التحاقه بأحد التنظيمات المتشددة.
إن رتابة هذا الفيلم لم تحرم الممثلين من براعة أدائهم، فقد كان الفنان محمد ظريف متألقًا في دوره مثلما كان التصوير آسرًا والمونتاج سلسًا ومتدفقًا يخلو من الهنات والعثرات.
عمرة والزواج الثاني.. مساءلة قانونية
نجح الفيلم السعودي “عمرة والزواج الثاني” للمخرج محمود صباغ في استقطاب جمهور كبير على مدى ثلاثة أيام، لكنه فشل في إقناع المواطن الأوروبي بفكرة الزواج الثاني لأن الزوجة الأولى لم تنجب لزوجها ولدًا، فالقوانين والأعراف الأوروبية لا تفرّق بين الأنثى والذكر وإنما تضعهم على قدم المساواة، ومَن يخالف هذه القوانين يجد نفسه عُرضة للمساءلة القانونية.
إن فيلمًا من هذا النوع المخالف للقانون لا يلقى صدىً لدى المشاهد البريطاني حتى وإن احتوى على بعض اللمسات الكوميدية الساخرة.
خلاصة القول، هل ينبغي لكُتّاب السيناريو والمخرجين العرب أن يعيدوا النظر في طبيعة الأفلام التي يقدّمونها في المهرجانات والمحافل الثقافية الأوروبية، أم يوغلوا في موضوعاتهم المحلية التي قد تتضارب بشدة مع منظومة القيم الأوروبية؟ ولماذا تنجح بلدان إسلامية كبيرة مثل تركيا وإيران في اختراق أعرق المهرجانات السينمائية وخطف الجوائز الكبيرة في الكتابة والتصوير والتمثيل والإخراج السينمائي، بينما تتراجع معظم الدول العربية في أخذ مكانتها الحقيقية إذا ما استثنينا مصر ولبنان وبعض بلدان المغرب العربي التي تتألق في سنة ما ثم يخبو نجمها بقية السنوات؟