مهرجان الجونة السينمائي.. تناقضات مُبهجة

ندى الأزهري 

فيلم "يوم الدين" للمخرج المصري أبو بكر شوقي ينال تقدير مجلة "فارايتي" كأفضل فيلم عربي لهذا العام

تجمّعُ الجمهور المصري لحضور فيلم “يوم الدين” للمخرج المصري أبو بكر شوقي في مهرجان الجونة السينمائي كان يشبه في أهميته ما حصل بعض الشيء في حفل الافتتاح، فالفيلم المصري شارك في “كان” وفي المسابقة الرسمية تحديدا، ونال تقدير مجلة “فارايتي” كأفضل فيلم عربي لهذا العام، وأخيرا وليس آخرا رشحته مصر لجائزة أفضل فيلم أجنبي في الأوسكار.

عوامل جاذبة بالتأكيد، ولو أن موضوع الفيلم كان على تناقض صارخ ومزعج مع أجواء الرفاهية والجمال والأناقة التي ميزت الحضور لا سيما نجمات مصر. هذا على الأرض أما في السماء فكان كوكب المريخ الذهبي يطلّ علينا من عليائه والنسيم يتلاعب بنا بين مُقبل ومُدبر، ومن الصعب أحيانا في هذا المسرح المفتوح على السماء ونجومها وقمرها وكواكبها وهو المسرح الذي عرض فيه الفيلم؛ حصول اندماج سينمائي أمام هذه الشاشة العملاقة.

محبو السينما جاهزون على الدوام، لكن جارتي الشابة الجميلة والأنيقة لم تكن على ما يبدو منهن. كانت تلعب بهاتفها طوال الوقت وربما لم تشاهد سوى مشهد أو مشهدين من الفيلم، حسنا لنقل عدة مشاهد، ولم ترفع رأسها عن شاشتها الصغيرة للتمعن في الشاشة الكبيرة إلا حين فوجئت بتوقف العرض لانقطاع كهربائي طارئ. حينها أظلم أيضا هاتفها المُضيء لتُفاجأ بظلام يُنيره ضوء القمر. كانت تبدو ملولة حتى وهي تقلّب شاشتها كأنها تفعل ذلك لأنه لا شيء آخر تفعله. لكن جارتي مهذبة، فعدم رؤيتها لمعظم الفيلم لم يمنعها من الوقوف احتراما في نهاية العرض مع معظم الجمهور للتصفيق الحار له.

 

“يوم الدين”.. ثمة ما يُثير العجب

ثمة ما يُثير العجب في “يوم الدين” بالتأكيد، وعلى الأخص “الشجاعة” في اختيار هذا النوع من الشخصيات التي وإن رأيناها في السينما العربية فإنها تمر مرورا سريعا.

بطل الفيلم مُصاب بالجُذام، وضيوف الشرف مصابون بعاهات مختلفة.. هذه جرأة تُحسب للمخرج؛ الدخول في عالم المهمشين سواء بسبب بؤسهم أو مرضهم أو إعاقتهم. كما أنه قدّم الشخصيات بكثير من التعاطف معها حيث إنه أظهرها شخصيات ودودة محبة لبعضها البعض ومتكافلة لدرجة قد لا تُصدّق أحيانا، فهم بالنتيجة مثلهم مثل أي إنسان فيه الصالح والطالح.

كان الخير يعمُّ بدءا من تلك العلاقة بين الصبي وبين بشاي المصاب بالجذام، علاقة تحقق لكل منهما ما يبحث عنه وهو العائلة.

مخرج فيلم "يوم الدين" المصري أبو بكر شوقي مع بطله بشاي (الجونة السينمائي)

المخرج برر كل شرّ تقريبا، فإن تخلّت عائلة بشاي عنه فهذا من أجله، ومن أجل ألا يشعر باختلافه عن المحيطين به.

النهاية كانت سعيدة بعد تضامن ومحبة الجميع، وهو ما أضعف الفيلم وأفقده صلابة البناء، عدا هذا فإن اختيار الشخصيات كان من الواقع، فارتباكها أحيانا في الأداء -لا سيما بشاي- أضاف مَسحة من عفوية محببة ومطلوبة في هذا النوع.

على كل حال كان الحضور سعيدا رغم البؤس، فالنهاية شبه سعيدة، والفيلم على أية حال يتيح للناس المرتاحة شعورا “نبيلا” بالتعاطف وتحقيق رضى ذاتي بأحاسيس طيبة وشفقة على الضعفاء ينتهي بعدها الأمر. صعد الأبطال إلى المسرح وتلقوا تصفيقا وحماسا مذهلين من الجمهور. يا تُرى ماذا سيفعل هؤلاء بعد الفيلم وبعد كل هذا التصفيق؟ ما الذي سيقدمه لهم إقحامهم لساعات في عالم ليس لهم وليسوا منه؟ هذا ما حصل مع نادين لبكي حين قدمت في “كان” الطفل الصغير السوري على المسرح، وكما حصل في فيلم وثائقي مصري عُرض أيضا في الجونة.

 

دنيا.. الصغيرة الكبيرة

فيلم “الجمعية” صورته اللبنانية ريما صالح في حي روض الفرج الشعبي في القاهرة، وتابعت على مدار سنوات مصير بطلاتها وكفاحهن الشاق لا سيما “أم غريب” وابنتها دنيا. الكاميرا تلاحق اليافعة دنيا وهي تروي قصة ختانها وكأنه أمر عادي، تحاول من خلال طريقتها في الحديث جذب الكاميرا إليها بكل الوسائل حتى لو كانت مبتعدة تماما عن التلقائية والعفوية والقيام بالتمثيل على نحو رديء. كانت تحكي بأسلوب النساء المصريات الشعبيات اللواتي نشاهدهن في الأفلام وهن يتشاجرن ويردحن لبعضهن البعض. لقد سُرقت منها الطفولة. هذه الصغيرة وقد كبرت (15 سنة) حضرت حفل الختام في الجونة مع أمها ومع المخرجة، هذا الحفل الذي يُذهل حتى من هو معتاد على الحفلات، فكمية الأناقة واللباس والبهرجة وهذا الكمّ من النجوم الذين يعبرون السجادة الحمراء تفوق كل توقع. ماذا سيحصل لطفلة من روض الفرج وهي توضع في أجواء كتلك؟ ما الدافع لإحضارها ووضعها في أجواء ستثير شهيتها وتلعب بمخيلتها؟ كيف ستعود إلى مكانها بعد هذا؟

تحدثتُ مع الصغيرة التي أرادت أن تبدو كبيرة، وكل ما شعرتُ به هو الإشفاق عليها من قسوة المكان. ما هي الخلفية التي ستعينها على وضع الأمر في نصابه؟ لحظة سعادة مؤقتة وتعاطف مؤقت وأضواء مؤقتة ثم الرجوع إلى البيت، هل من الممكن لها الرجوع للحياة الطبيعية بعد هذا؟!

سمير صبري في إحدى ندوات مهرجان الجونة السينمائي

الإنجليزية بديلا للعربية.. إنكار الذات

إقحام آخر في الجونة أيضا (بالطبع ليس وحده فهناك دبي ولبنان وغيرهما) لم نكن نتوقع رؤيته هكذا في مصر. لقد اقتحمت الإنجليزية لغتنا العربية. متطوعون يتوجهون بالكلام فورا بالإنجليزية ويتابع بعضهم بها حتى وهو يسمع ردك بالعربية غير مكترث برغبتك بالكلام بلغتك الأم ولغة البلد الرسمية. رغبة بإنكار الذات وشعور بنقص وهرب من انتماء. النقاش بعد الأفلام كان يتم أحيانا بالإنجليزية فقط بعد سؤال إن كان أحد لا يفهمها كي لا يتم الاضطرار للترجمة، ندرك ضيق الوقت ولكن هذا بلد عربي واللغة التي يجب الحديث بها هي العربية أيضا، فمَن من الجمهور سيبادر للقول لا أفهم الإنجليزية؟

إنما ثمة الكثير من الأشياء المبهجة في مهرجان الجونة؛ أولها البرنامج الغني بكل هذه الأفلام الرائعة والحديثة (وتلك لها كتابة خاصة عنها) والمحاضرات القيمة والتنظيم الذي لا تعيبه هفوات بسيطة، ثم الدليل الإرشادي (كتالوغ) للمهرجان حيث يتضمن تقديما للأفلام الذي يكون عادة نبذا مختصرة عن الفيلم في مهرجانات أخرى، تجده هنا نقدا للفيلم بأسلوب لا تجد بعدها ما تكتبه عنه إن كنت ناقدا، إذ شارك في كتابته نقاد من العالم العربي مشهود لهم.

الفنانة ليلى شعير في إحدى ندوات مهرجان الجونة السينمائي

أما في قاعات العرض فكثيرا ما نصادف ممثلي أفلام ومسلسلات عرب وقد حضروا بلباس صيفي بسيط بعيدا عن الرسميات ليستمتعوا بالسينما المتميزة. يختلطون بالجمهور حتى بالكاد تميزهم أحيانا لولا سؤال دائم “أين رأيت هذا الوجه”؟ التقيت بالممثلة ليلى شعير وكانت تنتظر حضور سمير صبري وتجاذبنا الحديث، أنا أحدثها عن صورتها في ذاكرتي من فيلم لها مع أحمد رمزي وكم كانت جميلة ورشيقة وذات حضور مميز برشاقتها وجمالها ومشيتها. ما زالت جميلة، كانت اللقاءات تتم كذلك في المركز الصحفي وفيه كنا كثيرا ما نلتقي مدير المهرجان انتشال التميمي بوجهه الباسم دائما وترحيبه الحار ونظرته الحازمة حين يتطلب الأمر.

كما كنا نلتقي نقادا كثيرين ممن نعرفهم وممن لا نعرفهم وممن سمعنا عنهم في فيسبوك وممن قرأنا لهم وممن لم ولن نقرأ لهم، ونحاور مثقفين ومدّعي ثقافة ونسمع الروايات والشتائم الظريفة وحكايات مدهشة عن البعض، لكن ليس كل ما يعرف يقال.


إعلان