مهرجان سينما المؤلف.. فلسفة تبحث عن النجومية

المصطفى الصوفي

تطرح سينما المؤلف في المغرب الكثير من الإشكاليات الفنية والإبداعية عن المؤلف الحقيقي في الممارسة الإبداعية السينمائية، هل هو كاتب السيناريو الذي يأمل أن تُحترم كتاباته ورؤيته الفنية والجمالية ليتحول حلمه الكتابي إلى عمل سينمائي يترجمه المخرج إلى مشاهد ممتعة، أم المؤلف الحقيقي هو المخرج نفسه لأن هذا الأخير يحاول في بعض الأحيان -رغم اعتماده على سيناريو مكتوب- أن تتمظهر فيه أفكاره وأحاسيسه، ويحاول في مرات أخرى أن يفرض سلطته على النص الأول، وقد يخرقه في بعض الأحيان بحجة أن صورة الكاميرا تختلف مثلا عن الصورة الشعرية أو الروائية التي أوجدها الكاتب، وأنه في كل الأحوال الفنان رقم واحد في المعادلة السينمائية، وهو الذي يستطيع أن يصنع الفيلم على مقاسه وحسب رؤيته، وذلك استنادا إلى تكوينه وتجربته وثقافته السينمائية؟

المسألة معقدة بعض الشيء، ولوضع فاصل بين سينما المؤلف والسينما التجارية، وحتى إذا عدنا إلى التجارب السينمائية الغربية –حيث تبدو السينما المغربية قريبة من الفرنسية كتجربة غودار وفراسنوا تورفو ورونوار وهتشكوك وغيرهم- فإن إنتاج فيلم تشترك فيه أحلام وأفكار كل من السيناريست والمخرج نادرا ما تعرف توافقا نهائيا بين المبدعين الاثنين، ويرضى كل طرف عن عمل الآخر، لكن الفيلم في الأخير يُصنع رغم ما له وما عليه.

الفنانة المغربية المتميزة فاطمة هيراندي المعروفة باسم "راوية" التي تألقت في كثير من الأفلام أبرزها فيلم "الحاجات"

السينما بين الكاتب والمخرج.. علاقة إشكالية

فإذا كان المخرج يكتب بالصوت والصورة، وفي كثير من الأحيان يكون هو الكاتب والمخرج وحتى الممثل، فإن السيناريست يكتب كتابة حقيقية تقدم الكثير من الأفكار والبلاغات والأيدولوجيات، وبالتالي فإن السينما المغربية في هذا المجال راهنت على ذلك من خلال بعض التجارب من أجل فرض أسلوبها المميز إلى جانب تجارب سينمائية مميزة اشتغلت على السينما كفن وواقع وفكر ونبض مجتمع وانتظارات جمهور.

ومن تلك التجارب نذكر تجربة محمد عبد الرحمن التازي وحكيم بلعباس ومحمد الركاب وإدريس المريني وحميد بناني (الذي يعد من رواد السينما المغربية) ومصطفى الدرقاوي وفريدة بليزيد وحسن بنجلون وسعد شرايبي وكمال كمال، وهي تجارب لها قيمتها الفنية والجمالية وتعكس في توجهاتها الفنية فيضا من الميكانيزمات والرؤى الفنية الفكرية والاجتماعية والإنسانية بهدف صناعة فيلم من أجل الفن دون البحث عن العائدات، علما بأن السينما صناعة وتحتاج إلى موارد مالية مهمة، خلافا لما نراه مثلا في نماذج كثيرة من السينما المصرية والهندية والأمريكية التي تبحث عن إثارة المشاعر ودغدغتها وجدانيا وواقعيا من أجل أهداف معروفة.

إلى هنا يُطرح السؤال، هل تجاوزت السينما المغربية مجال سينما المؤلف التي تبقى سينما النخبة والتجريب وطرح الأفكار ومعالجة قضايا اجتماعية مختلفة برؤيا عميقة وتفكير ذاتي فيه الكثير من الخصائص الشخصية للمخرج ورؤيته للعالم والوجود؟ وهل هي سينما تعكس رؤى وخصائص المخرج التخييلية والفنية وأسلوبه بحمولة فكرية وثقافية مقارنة من سينما الواقع دون التدخل في مضمون السيناريو، وبالتالي صناعة سينما غير مملة تحقق الفرجة التي يبتغيها المتلقي بشكل عام؟

في خضم هذه الأسئلة الحارقة لسينما المؤلف وسينما الواقع والمجتمع والسينما التجارية، تستضيف العاصمة الرباط مهرجانها الدولي لسينما المؤلف الذي يعد من بين أبرز المهرجانات السينمائية في المملكة والتي تكرم سينما المؤلف وتحتفي بها في كثير من فقراتها وأنشطتها، وذلك بحضور عدد كبير من نجوم السينما في الوطن العربي وخارجه.

 

سينما المؤلف.. تكريس للجمالي والثقافي والفكري

وتقام هذه التظاهرة التي تنظمها جمعية مهرجان الرباط من 16 وحتى 24 من شهر نوفمبر/تشرين الثاني الجاري بهدف ترسيخ ثقافة سينمائية دولية راقية تساهم في تربية الذوق الفني والجمالي، وتبعث على خلق حوار تفاعلي بين مختلف المشاركين حول الكثير من القضايا الإنسانية والكونية التي تعيشها الشعوب، وتتلاقح فيها الحضارات والتجارب المختلفة، وذلك من أجل جعل سينما المؤلف بابا من أبواب الحوار وتبادل الخبرات والتجارب في هذا المجال، فضلا عن تكريس البعد الجمالي والثقافي والفكري في السينما، كفن نبيل يناقش قضايا النخبة، ويطرف فيضا من المواضيع للنقاش والمعالجة؛ معالجة خلاقة.

وفي هذا الصدد أكد رئيس المهرجان عبد الحق المنطرش بأن سينما المؤلف أو نظرية المؤلف ظهرت في الخمسينيات، واصطلح على تسميتها بسياسة سينما المؤلف، حيث يرتقي المخرجون من خلالها ليصبحوا في مكانة المؤلفين والفنانين الذين يتمتعون بالرؤية كالمخرجين الكبار فرنسوا تريفو وجاك ريفت، فهؤلاء مخرجون مؤلفون عكس المخرجين الحرفيين.

ويرى المنطرش أنه دون الغوص في النقاش النظري وتطور سينما المؤلف أن هذه الأخيرة هي سينما المخرج المؤلف؛ أي أن المخرج هو من يعالج القضايا المتعددة حسب رؤيته وفلسفته، وذلك للمساهمة في ترقية الذوق والثقافة والوعي لدى المواطن ليساهم في التنمية، موضحا أنه بوجهة النظر هذه يمكن معرفة مكانة سينما المؤلف في المغرب، فلا يمكن لأي كان أن ينكر أن هناك تطورا كبيرا للسينما المغربية وحضورها على مستوى الإنتاج في الأفلام الطويلة في السنة، مما مكنها من احتلال مكانة متميزة ومتقدمة تضاهي السينمائيات العربية والأفريقية، فمصر مثلا هي الأخرى تشهد تطورا ملحوظا، وتحتل مكانة متميزة بالمغرب عبر تجارب مهمة لمخرجين محترفين مشهود لهم بتكوينهم الأكاديمي بالخارج واحتكاكهم بتجارب سينمائية دولية كبيرة.

 

15 فيلما تتنافس على جوائز المهرجان

وعن اختيار هذا النوع من السينما لمهرجان الرباط قال رئيس المهرجان المطرش “للإجابة على هذا السؤال لا بد لنا من الرجوع إلى تاريخ مهرجان الرباط الذي كان يُنظم في العاصمة المغربية، هذا المهرجان الذي ذاع صيته جهويا ووطنيا وعربيا، وكان مهرجانا شاملا لكل فنون المسرح والموسيقى والشعر والسينما، وجاء خلقه كحاجة وضرورة ثقافية لملء فراغ ثقافي كانت تعيشه العاصمة الرباط آنذاك”.

كما أوضح أنه “خلال السنوات الأخيرة تم الاتفاق على أن تنظم جمعية مغرب الثقافات مهرجان موازين، أما جمعية مهرجان الرباط الدولي للثقافة والفنون فتنظم مهرجان الرباط الدولي لسينما المؤلف وتتخصص في السينما”.

وسطرت إدارة المهرجان خلال هذه الدورة برنامجا خصبا احتفاء بسينما المؤلف ومبدعيها من مخرجين وممثلين ونقاد، وفي هذا السياق أكد رئيس المهرجان وهو رئيس الفدرالية الوطنية للمهرجانات الدولية السينمائية بأن هذه الدورة التي تحتضنها عاصمة الأنوار والثقافات ستعرض أكثر من 70 فيلما تمثل القارات الخمس، منها 15 فيلما تتنافس على جوائز المسابقة الرسمية، أرفعها الجائزة الكبرى التي تحمل اسم جائزة الحسن الثاني. وهذه الأفلام هي “ولدي” لمحمد بن عطية من تونس، و”أمير” لنيما إقليما من إيران، و”نامي” لزازا كالفاشي من جورجيا، و”الرحلة” لمحمد الدراجي من العراق، و”كتابة على الثلج” لرشيد مشهراوي من فلسطين، و”عزف منفرد” لعبد اللطيف عبد الحميد من سوريا، و”يوتوبيا ” لبيراردو كاربوني من إيطاليا، و”صباح الخير” لبهيج حجيج من لبنان، إضافة إلى “القيمة” لكريستوف مورناتي من بلجيكا، و”النائمة دوفال” لمانويل شانشيز من فرنسا، و”مؤلف” لمانويل مرتين كوينكا من إسبانيا، فضلا عن “واوك فولكانو” لرومان بوندرشوك من أوكرانيا، و”نديرة” لكمال كمال، و”العزيزة” لمحسن البصري من المغرب.

وستحكم المسابقة الرسمية لجنة متخصصة يترأسها المخرج الأمريكي هايلي غريما ذو الأصول الأثيوبية، وهو أكاديمي وسينمائي وأستاذ للسينما في جامعة هوارد في العاصمة واشنطن، وتضم في عضويتها الأكاديمية مانويلا باتشي من إيطاليا، والباحثة والسينمائية كاترين روال من فرنسا، والأكاديمية والإعلامية السينمائية وليديا غارسيا برالتا من إسبانيا، والفنان التشكيلي المغربي حسان بورقية، والأكاديمية روز ماري شنين من لبنان، والمخرج الكونغولي دافيد بير فيلا، مبرزا أن الدورة ستشهد أيضا عرض خمسة أفلام وثائقية، فضلا عن عدة أفلام مبرمجة في فقرات “استرجاع” وسينما العالم والسينما المغربية وأفلام خاصة بمخرجين من مغاربة العالم والجالية المغربية المقيمة في الخارج.

 

تكريم السينما الأفريقية.. ولبنان ضيف شرف

وضمن برنامج هذه التظاهرة السينمائية أبرز المنطرش قيمة فقرة “استرجاع”، وذلك من خلال عرضها أفلاما متميزة لمخرجَيْن عظيميْن طَبَعا تاريخ السينما العالمية، وهما جان روش من فرنسا وعصمان صامبين من السنغال.

والمغزى من هذه النوستاليجا (الحنين إلى الماضي) السينمائية؛ أن مهرجان الرباط الدولي لسينما المؤلف يأمل في صيانة الذاكرة السينمائية الدولية الرائعة باعتبارها تحافظ على ذاكرة الشعوب وتصون تاريخها وحضارتها، باعتبار أن المهرجان يعد محطة دولية وملتقى للشباب للتعرف على الرواد الدوليين في المجال السينمائي، والاستئناس بتجاربهم القيمة لصقل مواهبهم وتطوير تجاربهم وتحقيق التميز في مستقبلهم السينمائي والمهني.

وما يميز هذه الدورة التي تقام فعالياتها بكل من قاعات جيرار فيليب التابعة للمعهد الثقافي الفرنسي بالرباط، والمتحف الوطني محمد السادس، والخزانة السينمائية التابعة للمركز السينمائي المغربي، وسينما الفن السابع، والمسرح الوطني محمد الخامس، وفضاء محج الرياض.. ما يميزها أنها -حسب رئيس المهرجان- اختارت السينما اللبنانية ضيف شرف، إذ سيتم عرض مجموعة من أهم الأفلام اللبنانية التي أنتجها مخرجون من أجيال ومدارس فنية عديدة بهدف التعريف بها لدى الجمهور المغربي، وهذا ما سيتعرف عليه الجمهور عبر هذه الأفلام المختارة والمتميزة، والتي تسلط الضوء على حقبة مهمة من تاريخ السينما اللبنانية وأحلام مخرجيها.

وضمن بانوراما “سينما المغرب” ستكون السينما المغربية في هذه الدورة التي ستكرم المخرج الأمريكي من أصول أثيوبية هايلي غريما في الاختتام، والفنان المصري الشهير محمود حميدة، والفنانة المغربية المتميزة فاطمة هيراندي المعروفة باسم “راوية” التي تألقت في كثير من الأفلام أبرزها فيلم “الحاجات” لمخرجه محمد أشاور وسيعرض في حفل الافتتاح، كما يُعرض معه الفيلم الياباني “مسألة عائلية” لمخرجه الكوري إيدا هيروكازو الحائز على السعفة الذهبية لمهرجان كان خلال هذه السنة.

كما ستكون السينما المغربية حاضرة بقوة عبر عدد من التجارب السينمائية الجديدة لمخرجين متميزين، منهم نبيل عيوش وحميد باسكيط الذي تألق في فيلمه الأخير “صمت الفراشات”، وهشام العسري وفركوس في فيلمه الكوميدي “كورصة” وعبد الإله الجوهري وعزيز السالمي وداوود أولاد السيد، ورشيد الوالي في فيلمه الأخير الرائع “نوح لا يعرف العوم”، إضافة إلى محمد أشاور ومحمد رياض، وحميد زيان في فيلمه “بيل أو فاص” الذي فاز بجائزة أفضل فيلم طويل في مهرجان سينمائي كبير بكاليفورنيا أكتوبر/تشرين الأول الماضي.

 

نجمة السماء التي تضاء بها السينما

ومن أجل فتح نقاش عميق وهادف بشأن سينما المؤلف وواقعها وآفاقها، وفي إطار الأنشطة الموازية للمهرجان الذي سيحتفي بالذكرى المئة للمخرج والأتتروبولوج الدولي جان روش الذي تألق في صناعة الكثير من الأفلام الوثائقية، قال المنطرش عن الدورة “إن فعاليات الدورة ستعرف مجموعة من الندوات التي ستحتضنها قاعة العرض للمتحف الوطني محمد السادس، ومن أبرزها ندوة “السينما وحقوق المؤلف” و”السينما والهوية” وندوة حول “السينما اللبنانية”، وأخرى لجون روش بمشاركة خبراء وباحثين مثل دافيد بيار فيلا وروشدي المانيرا وأحمد لفتوح، إضافة إلى تنظيم ورشة تتعلق بـ”سيكولوجية الممثل” التي سيشرف عليها خبراء مغاربة وأجانب مثل روزي ماري شاهين ولطيفة أحرار وعبد اللطيف محفوظ.

وتكريما للأسطورة السنغالية عصمان صامبين ستعقد الدورة ندوة خاصة عن هذه التحفة السينمائية الأفريقية، حيث يعتبر المخرج الراحل أول مخرج سينمائي من بلد أفريقي يحظى بالاعتراف الدولي، ولا يزال الشخصية الرئيسية في صعود سينما أفريقية مستقلة بعد الاستعمار.

إلى هنا يطرح السؤال من جديد حول آفاق مهرجان الرباط الدولي لسينما المؤلف ومراميه الفنية والجمالية والفكرية لترسيخ ثقافة الاهتمام بجنس خاص من السينما الصعبة التي يخوض تجربتها مبدعون قلائل، خاصة أن الجمهور يبحث دائما عن الفرجة دون تعقيدات ودون الإحساس بالملل.

ولعل الحضور الوازن لعدد كبير من الأكاديميين من نقاد وباحثين ودكاترة وأساتذة جامعيين يبرز القيمة الفنية والثقافية لهذه التظاهرة السينمائية، والتي تسعى لأن تكون احتفالا وكرنفالا سينمائيا يقدم للجمهور فرجة منوعة ومختلفة من ثقافات وحضارات ورؤى إبداعية متباينة لكنها تجتمع في نقطة واحدة ألا وهي عشق السينما، والاحتفاء بالسينما في بعدها الكوني والإنساني والجمالي مع تكريم خاص لسينما المؤلف التي تبقى نوعا من الفلسفة الإبداعية الموجه إلى النخبة، تتعانق فيها أحلام المخرجين وكتاب السيناريو بحثا عن الجمال وعن نجمة السماء التي تُضاء بها سماء السينما.


إعلان