مسابقة آفاق السينما العربية في مهرجان القاهرة.. مرآة تعكس واقعها
قيس قاسم

تختص “مسابقة آفاق السينما العربية” في مهرجان القاهرة الدولي -كما يشير اسمها- إلى الأفلام العربية تحديداً، وقد جاء بها الناقد الراحل سمير فريد أثناء توليه مسؤولية المهرجان عام 2014، مُتيحا عبرها للسينمائيين العرب فرصا أكبر لتقديم نتاجهم والتنافس فيما بينهم للحصول على جوائزها.
أثار البرنامج منذ انطلاقه نقاشا إزاء جوهر فكرة التخصص، وقد حالف الحظ دورة “سمير فريد” اليتيمة واستطاعت جلب أفلام جيدة بررت وقتها الفكرة، لكنها ظلت تعاني بعد تركه رئاسة المهرجان من مشكلة الكم والنوع، ومن التنافس الحاد بين المهرجانات العربية للاستحواذ على أفضل ما هو منتج عربيا.
في هذا العام حاول منظمو المسابقة تنويع مفرداتها بما تيسر، وذلك بعد أن أخذ مهرجان “الجونة السينمائي” و”أيام قرطاج السينمائية” وحتى “مراكش” قسطا كبيرا من حصة الأفلام العربية الصغيرة أصلاً، فجلبوا ثمانية أفلام موزعة على مساحة جغرافية عربية كبيرة، وتركوا فيلم “ليل/خارجي” للمخرج المصري أحمد عبد الله السيد يتنافس وحده بين أفلام المسابقة الدولية.

فيلم سعودي.. عوامل ضعف كثيرة
تعكس أفلام المسابقة موضوعيا حال السينما العربية اليوم وواقعها، فبينما يعلو شأن بعضها مثل المغاربية واللبنانية، فإننا نرى ظهور بعض المحاولات الخجولة من دول لم تُؤسس فيها صناعة سينمائية بعد، ومثال عليها فيلم “عمرة والعرس الثاني” للمخرج السعودي محمود صباغ، والذي أنجز قبل عامين فيلم “بركة يقابل بركة”، وقد قوبل برضا نقدي تعكّز الكثير منه على الاعتبارات الخاصة بالسعودية، وصعوبة ظهور أفلام جريئة تنتقد بعض المظاهر الاجتماعية والسلوكيات المحافظة فيها، وفي فيلمه الجديد المُضاف إلى أفلام مسابقة العام الحالي يحاول صانعه الحفاظ على نفس النَفَس النقدي، لكنه يتراجع كثيرا عن محاولته السابقة.
مع حيوية موضوعه الخاص بتعدد الزوجات والهيمنة الذكورية، إلا أن مقاربته سينمائيا ظلت ناقصة تعوزها اللغة السينمائية، وللتغطية على ضعف عناصرها الأساسية لجأ إلى الخيال ليداخله مع الواقع، وذلك في محاولة “فنية” للهروب من مواجهة عوامل الضعف الكثيرة، فكانت النتيجة فيلما باهتا نصا وتمثيلا وتصويرا وإخراجا، لهذا بدا فيلمه الأول متقدما كثيرا على فيلمه الأخير، ليطرح على متلقيه سؤالا عن سبب تراجع الكثير من المخرجين العرب عن أفلامهم الأولى، لدرجة صار مألوفا سماع عبارة “لننتظر فيلمه الثاني ونرى”.
غداء العيد.. كسر القواعد السائدة
على النقيض منه أُدرجت في المسابقة أفلام يمكن إطلاق عبارة “التجديدية” عليها، وخاصة في طبيعة لغتها السينمائية المغايرة للمألوف والتي تحاول كسر القواعد السائدة. ففيلم “غداء العيد” للمخرج اللبناني لوسيان بورجيلي يحاول تقديم نموذج عن تلك المحاولات، وذلك حين يحصر أحداث فيلمه في زمن قصير ومكان ضيق، مستعينا بالحوار والكاميرا المتنقلة بين المتحدثين على مأدبة غداء في بيت عائلة لبنانية مسيحية، لإحداث تغيير وتطوير داخلي للموضوع الشديد الحيوية الذي يريد صانعه من خلاله تناول مقطع واسع من الحياة في لبنان، وكشف صراعاته السياسية والطائفية بروح نقدية شجاعة.
فيلم يذكرنا باشتغالات جماعة “دوغما 95″، ومحاولتهم تجاوز عقدة الإنتاج الضخم بصناعة فيلم صغير إنتاجيا لكنه يستكمل كل شروط صناعة الفيلم الحقيقي. اللافت في اختياره هو تاريخ إنتاجه المتقادم نسبيا، مع أن لائحة المسابقة تعطي الحق لمنظميها ضم أفلام أُنتجت في العام السابق لانعقادها. وبما أن “غداء العيد” أنتج سنة 2017 صار مقبولاً ضمه، وفي كل الأحوال يحسب للمسابقة إشراك فيلم مهم بين أفلامها المتنافسة على جائزتي سعد الدين وهبة وصلاح أبو سيف.
ورد مسموم.. التذرع بالغموض لطرح المحظور
على المستوى المصري هناك فيلم “ورد مسموم” للمخرج أحمد فوزي صالح، وهو صاحب الوثائقي المهم “جلد حي”، إضافة إلى فيلم آخر وثائقي -متوسط الطول- عنوانه “الكيلو 64” لأمير الشناوي.
“ورد مسموم” هو أول عمل روائي طويل لأحمد فوزي صالح، وعوالمه شديدة القرب من فيلمه الوثائقي الذي دخل مدابغ الجلود ورصد حياة العاملين فيها، ففي نصه الروائي محاولة لتلمس جوانب من حكاية يسودها الغموض، أبطالها تربطهم مشاعر غير معلنة، مبطنة لحساسيتها الاجتماعية، وبدلاً من الاشتغال عليها كان من الصعب على السيناريو الكشف عنها، متذرعا بالغموض وسيلة لنقل الحيرة والأسئلة المحظور طرحها علنا على مُشاهِده. كل هذا لا بأس به، لكن تظل هناك حاجة لجمع المفردات “الحكائية” في سرد سينمائي متماسك، وهذا ما كان ينقص فيلم “ورد مسموم” الذي ضيّع صانعه فرصة صناعة فيلم متميز قريب إلى روح وأسلوب الفيلم المصري الرائع “الخروج للنهار” لهالة لطفي.
الكيلو 64.. بطالة الشباب وسلبية الدولة
ربما يمكن وصف الوثائقي المصري “الكيلو 64” بالمفاجأة، وذلك لاختلاف تناوله موضوع البطالة بين الشباب وإقامة المشاريع الزراعية في الصحراء المصرية، فاختلافه نابع من نقده وابتعاده تماما عن الدعاية والترويج الرسمي. فبدلاً من تقديمه نماذج “ناجحة” في حقل زراعة الأراضي الصحراوية، يأخذ المخرج الشاب أمير الشناوي تجربة أخيه خريج كلية الصيدلية في إقامة مشروع زراعي خاص به.
العلاقة بين صانع الفيلم وأخيه تجعله فيلما شخصيا بامتياز، وصادقا في نقل تجربة يمكن تعميمها بسهولة لوجود قواسم عامة فيها تكسر “شخصانية” الموضوع وتذهب إلى أبعد منها. هل تحقق كل ذلك في فيلم قصير بميزانية صغيرة جدا؟ الجواب بنعم كبيرة مثيرة للدهشة، لعفويته العالية ولتناوله مفردات وعينات متقدمة من المجتمع المصري، فصاحب المشروع صيدلي من عائلة متوسطة يعاني أبناؤها من مشكلة “ما بعد التخرج”، ومحاولتهم تحسين حياتهم عبر التفكير بتجاوز عقدة “الشهادة” والبحث عن حلول شخصية ربما تنتشلهم مما هم فيه.
الوثائقي المصري غير مدعٍ، ولا يُعلن عن أفكار سياسية كبيرة لكنه يتضمنها وبسعة دون الإعلان عنها مباشرة بسبب انشغال صانعه الأكبر بأخيه، وبنقل تجربته كما هي. كان يهمه معرفة ما ستؤول إليه مغامرته، وكيف سيتمكن من تجاوز العقبات التي واجهت والده قبله يوم اشترى قطعة أرض على طريق الـ64، آملاً توفير مصدر ثانٍ يساعد عائلته به، لكنه انتهى إلى إعلان فشله وتركه جزءاً من أرضه بوراً.
محاولة إحياء المشروع القديم من قبل الشاب الصيدلي تشير إلى دورة مشاكل وصعاب لم يتم تجاوزها بعد في مصر، وعن تراكم لم تقُم الدولة بواجبها إزاءه، وظلت تروج دعائيا لمشاريع اقتصادية جيدة تشجع على تقليل حجم البطالة المتزايدة بين الشباب، وظلت مكتفية بذلك الحد. سلبيتها وعدم تقديم المساعدة المطلوبة منها لشباب متحمس وشجاع يضع هؤلاء الشباب أمام مواجهة صعبة تُعسّر نجاحهم وتتركهم يواجهون فشلهم لوحدهم. فالفيلم من هذه الناحية مُفاجئ، وعلى المستوى الفني مقنع، فهو أحاط نفسه بحميمية عائلية وترك كاميرته تنقل يوميات الشاب الطموح، مضيفاً إليها تسجيلات تزيد من الشخصاني فيه وتعمق مصداقيته التي جعلت منه فيلماً هو دون شك من بين أفضل أفلام المسابقة.
على المستوى المغاربي ضمت فيلم “لعزيزة” للمخرج المغربي محسن البصري الذي سبق وأن عُرض في “أيام قرطاج السينمائية”، وأيضا “الجاهلية” للمخرجة هشام العسري المقدم في مهرجان برلين السينمائي، وكلاهما ينشد نقل واقعه بلغة سينمائية غير تقليدية تتحدى السائد وتغامر في خوض مواجهة مع ذائقة يصعب عليها تذوق طعم سينما تقارب الحياة وصعوباتها من منظور مختلف.