مخرجات عربيات بمهرجان القاهرة.. السينما بتاء التأنيث
ندى الأزهري

لا تبدو المرأة العربية وحدها الضحية في الأفلام العربية المختارة في قسم “تحية إلى مخرجات عربيات” أحد أقسام مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، وهي وإن عانت قهر المجتمع لها فإنها في معظم الأفلام لا تنفرد بهذه “الميزة”.
كان المهرجان، الذي أقيم في الفترة من 20 إلى 29 نوفمبر/تشرين الثاني، أعلن عن إقامة قسم خاص في دورته الأربعين تحت عنوان “مخرجات عربيات”، ليحتفى من خلاله بعرض نماذج من أفلام لنخبة من المخرجات فى السينما العربية برزت أعمالهن وتألقت في السنوات الأخيرة، و”استطاعت أن تحقق للسينما العربية مكانة متميزة فى المحافل السينمائية الدولية”.
قُدمت في القسم تسعة أفلام أنتجت ما بين 2012 و2018 لمخرجات من مصر وتونس والجزائر وفلسطين وسوريا والسعودية والإمارات. أفلام كان للمرأة البطولة المطلقة في ستة منها، ومن خلالها يبدو كفاحها اليومي وهمومها ومعاناتها المرتبطة بكونها امرأة في مجتمع يطالبها بالكثير ولكنه يضيّق عليها الخناق وينظر إليها في معظم الأحوال بعين الحذر والشك والريبة.
الخروج للنهار.. امرأتان شجاعتان ورجل مشلول
شجاعة المرأة وسعيها الدؤوب في مواجهة الواقع الصعب وخيبات الحياة تجلّت أكثر ما تجلت في فيلم المصرية هالة لطفي “الخروج للنهار” (2012). المرأة هنا هي البطلة، والرجل حين يوجد فهو إما مشلول كالأب أو سلبي كالقريب أو متحايل كالحبيب. سعاد شابة، ويمكن القول “عانس” في مفهوم مجتمعها، في منتصف الثلاثينات من عمرها، تتناوب مع أمها الممرضة ليل نهار على رعاية والدها المشلول.
الفيلم مسيرة حياة عائلة من طبقة متواضعة في مصر اليوم، الحياة اليومية التي تستنفد الطاقة والذات وتستهلكهما. إنها حكاية كل يوم لامرأتين شجاعتين ترعيان رجلهما المريض وتواجه كل واحدة منهما -على طريقتها إنما بكل شجاعة وكرامة- هذا الواقع الشاق في مكان مغلق عليهما. فيلم شديد التأثير عن الحبّ والعطاء، عن التضحيات والخيبات، عن الحياة وقساوتها التي تُنسي الأم حنانها والشابة شبابها، عن الأفعال الرتيبة المتكررة ببطء والزمن الذي تستغرقه الأشياء اليومية مثل إطعام الأب وتنظيفه، عن الانطفاء واليأس اللذين تتجلى ملامحهما في مشهد رائع حيث لقطة بعيدة تَظهر فيها غرفتان متجاورتان وسريران عليهما كائنان كل منهما في عالم، بينما صوت أم كلثوم يصدح بـ”أنا وأنت ظلمنا الحبّ”. لكن ليس الحبَّ وحده من ظلم الجميع، بل الحياة نفسها.
هالة لطفي برعت في عملها الأول هذا، وكانت قبله أنجزت ثلاثة أفلام وثائقيّة بين عامي 2001 و2004، وعملت بقناة الجزيرة الوثائقيّة فأنجزت سبعة أفلام وثائقيّة ضمن سلسلة “عرب أمريكا اللاتينية”، وذلك في الفترة بين عامي 2005 و2006.
نوارة.. المرأة والثورة
لم تكن خيبات “نوارة” أقل حالا، فقد برزت تضحيات المرأة التي لا تنتهي من خلال شخصية “نوارة” التي جسدتها منة شلبي بإتقان لافت. في “نوارة” (2016) للمصرية هالة خليل، شُجاعة شابة في مواجهة الظروف والناس ومحاولاتها المستمرة لزرع الأمل لدى خطيبها المحبط، فهي تتنقل يوميا بين حيّها الفقير ومنزل مخدومتها في الأحياء الراقية، ولم تكن تعرف أن الثورة ستأتيها بما لم تكن تتوقعه.
“نوارة” لا تمثّل المرأة المصرية فحسب بل أيضا الإنسان وهذه الطبقة البائسة التي حلمت بأن الثورة ستغير الأحوال. الفيلم تعبير بإبداع وحرفية عن هموم الإنسان كفرد مطحون، والحديث عن الثورة وعن أحلام الفقراء الذين أيدوها وساهموا فيها. لكن هذه الشعارات التي ترددت في الفيلم “عيش، حرية، عدالة اجتماعية” لم يتحقق منها شيء كما ظهر من مصير نوارة.
استوحت المخرجة قصتها من وضع حقيقي حين هاجر الأغنياء بعد الثورة المصرية وخلت المنازل من أصحابها ولم يبق فيها إلا الكلاب، يأتي الخدم خصيصا لإطعامها. هالة خليل ترصد تأثير الثورة على الفقراء، وقد صورت في الأماكن الحقيقية ونزلت للشارع بدلا من صناعة ديكور فيلمها، فهي “تحب الشارع، ووجود الكاميرا فيه يريحها أكثر”. اشتغلت المخرجة على التفاصيل وحوّلت شخصية مكتوبة على الورق إلى شخصية نابضة بالحياة ونسجتها بكل دقة وتأن.
وَجْدة.. عندما تُقمع أحلام الصغيرات
إصرار وشجاعة من نوع آخر نجدهما لدى بطلة فيلم “وجدة” للسعودية هيفاء المنصور (2012)، إنه عن أحلام الصغيرة “وعد” التي تجاوزت العاشرة بقليل، عن إصرارها على عيش طفولتها وامتلاكها لدراجة، لكن التقاليد في مدينة سعودية تقف حائلا بالطبع. بيد أن “وعد” تنجح في النهاية بمثابرتها وشجاعتها وبمساعدة أمها في الوصول إلى هدفها.
يُبين الفيلم قمع أحلام الصغيرات في المجتمع ومعه ظروف المرأة وثقل التقاليد والقمع البيتي والمدرسي والمجتمعي لكل من تسول لها نفسها الانطلاق أو الخروج عن المتعارف عليه حتى لو كان من أبسط الأشياء كالرغبة في ركوب الدراجة. التقطت المخرجة بذكاء وحساسية كل الاضطهاد الذي تخضع له المرأة في محيطها، ولكنها لم تُغفل أيضا الإشارة إلى أن الرجل العربي هو الآخر لا يَسلم من ضغوط مجتمعه.

على كف عفريت وقماشتي المفضلة و3000 ليلة
أما قمع رغبات المرأة والنظرة الذكورية لجسدها فيظهر في فيلمين: “على كفّ عفريت” (2017) للتونسية كوثر بن هنية وكان من بين أكثر الأفلام المعروضة إظهارا لشراسة الرجل وعنف الموقف الذكوري المعنوي والجسدي تجاه المرأة، لكن التمعن في تفاصيل الفيلم يبدي أن المرأة أيضا يمكن لها أن تكون أكثر ظلما لبنات جنسها وأن ثمة رجالا حاضرين للدفاع عن المرأة والوقوف معها.
يتناول الفيلم حكاية “مريم” الطالبة الجامعية في تونس العاصمة، التي تتعرف على شاب في حفل راقص ويترافقان عند الخروج للسير على الشاطئ وهناك يستوقفهما ثلاثة من رجال الشرطة فيبتزون الشاب ماديا ويغتصبون الفتاة.
يجسد الفيلم مأساة “مريم” التي تصرّ على الشكوى وانتزاع حقها في مجتمع يسعى لإبقاء حالات كهذه في الخفاء، كما يبرر لنفسه حريةً ما في التعامل مع المرأة التي تكشف عن مفاتنها.
أما “قماشتي المفضلة” (2018) للسورية غايا جيجي الذي كان عرض في مسابقة “كان” الرسمية، فيتطرق إلى أحلام شابة في ممارسة رغباتها الجسدية المقموعة في مجتمع لا يتقبل الحرية بكل أنواعها، إذ تستخدم المخرجة الثورة السورية من أجل الحرية كخلفية لأحلام بطلتها.
وجاء فيلم “3000 ليلة” (2015) للفلسطينية مي المصري ليحكي معاناة المرأة تحت ظلّ الاحتلال مع قصة “ليال” التي تُعتقل في أحد السجون الإسرائيلية بسبب تهمة لم ترتكبها، وتزداد الأعباء عليها أكثر مع ولادتها لابنها في السجن.

السعداء وواجب.. الحرب الأهلية والاحتلال
وتناول فيلمان معروضان في قسم مخرجات عربيات الهمّ العام. ففيلم “السعداء” (2017) للجزائرية صوفيا جمعة رصد جروحا حقيقية معنوية وجسدية لم تلتئم بعد لحرب أهلية مضت، وأحوال العاصمة سنوات ما بعد انتهاء تلك الحقبة السوداء في تاريخ الجزائر مع شخصيات مفعمة بالمرارة والغمّ، رجال ونساء حلموا بوطن مثالي وشباب وشابات يتسكعون في بلد مسكون بذكريات مضنية.
أما فيلم الفلسطينية آن ماري جاسر “واجب” (2017) الذي صُور في فلسطين، فهو رصد حساس لمدى التفاوت في النظرة والسلوك الاجتماعي والشخصي والموقف من المحتل بين جيلين في فلسطين، لا سيما بين هؤلاء الذين بقوا وأولئك الذين غادروا. كل ذلك يتبدى من خلال يوم يقضيه أب وابنه الشاب معا لأداء مهمة توزيع بطاقات دعوة لحفل زواج الأخت.
إلى جانب هذه الأفلام الروائية عرض فيلم وثائقي وحيد للإماراتية نجوم الغانم “آلات حادة” (2017)، وهو يتناول مسيرة حياة الفنان التشكيلي الراحل حسن الشريف وطفولته ودور أمه في تكوينه.