مهرجان الجزائر للفيلم الملتزم.. عندما تنتصر السينما للإنسان
ضاوية خليفة

طوى مهرجان الجزائر الدولي للسينما مجريات الدورة التاسعة لأيام الفيلم الملتزم الذي استمر من 1 وحتى 9 ديسمبر/كانون الأول، وذلك بعد الكشف عن قائمة الأفلام المتوجة في المنافسة الرسمية التي شملت 17 فيلما بينها تسعة عن فئة الوثائقي وثمانية عن فئة الطويل، إلى جانب خمسة أفلام قصيرة عرضت خارج المسابقة.
انتهى المهرجان بتتويج الإنتاج المشترك “لستُ عبدك” لراؤول بيك بالجائزة الكبرى كأفضل وثائقي في الدورة، ومنحت لجنة التحكيم برئاسة “عصمان وليام مباي” جائزتها الخاصة لفيلم “الرجال الأحرار” لآن فريدريك ويدمان من سويسرا. أما جائزة أفضل فيلم روائي طويل فاتفقت اللجنة وبالإجماع على منحها لفيلم “الضفة الأخرى للأمل” لآكي كوريسماكي (ألمانيا-فنلندا)، في حين اكتفى فيلم “كآبة الكادحين” لجيرارد مورديلات من فرنسا بجائزة لجنة التحكيم الخاصة.
أما جائزة الجمهور في صنفي الوثائقي والطويل فجاءت مناصفة بين وثائقي “حُرّ” لميشال توسكا من فرنسا و”أبناء هزار” لتيري ميشال من بلجيكا، وكذلك فيلمي “واجب” لآن ماري جاسر من فلسطين و”صوت الملائكة” لكمال يعيش من الجزائر. والجدير بالذكر أن الجوائز كانت رمزية وليست مالية.
“أبناء هزار” و“وداعا أفريقيا”.. تكريمات المهرجان
لجنتا تحكيم الأفلام الوثائقية برئاسة السنغالي “عصمان وليام مباي” والروائية الطويلة في مقدمتها الباحث الجزائري “نبيل بودراع” رئيساً؛ طلبتا من إدارة المهرجان أن تحافظ على المكاسب المحققة، وتصلح ما يمكن إصلاحه لترتقي أكثر بهذه التظاهرة السينمائية الدولية الهامة، والتي تقدم صورا مختلفة ومتعددة عن الإنسانية والانتهاكات التي تُمارس بحقها دون رقيب أو حافظ لكرامته، فشعار الدورة جاء تحت عنوان “الكرامة”، والعمل على هذه الخصوصية والابتعاد عن الصبغة التجارية يمنح المهرجان قيمة مضافة وتنوعا في الطرح، ويجعل السينما منبرا هاما يتمتع أصحابه بالحرية الفنية والإبداعية لإدانة الممارسات الخطيرة التي تهدد المجتمع والإنسان معا.
ووفقا للاتفاق المبرم بين إدارة المهرجان والمجلس الدولي للسينما والتلفزيون والاتصال السمعي البصري، تم تسليم جائزة غاندي للفيلم البلجيكي “أبناء هزار”. وبررت الأمينة العامة للمجلس لولا بوتشي اختيار “أبناء هزار” دون غيره بما تضمنه من مبادئ تتطابق والعمل الذي تقوم به اليونسكو في مجال حماية الحريات والدفاع عن حقوق الطفل والتعايش بين الديانات وحوار الحضارات والثقافات.
ظلّ المهرجان وفيا لثقافة الاعتراف والتكريم لمن أعطى القضايا الإنسانية حقها في الصورة، وقال كلمته في القضايا العادلة، وسجل حضوره من بوابة العلبة الساحرة “السينما”. فبعدما التفت المنظمون سابقا لعدد من الشخصيات والسينمائيين على غرار المخرج الجزائري الراحل “مالك آيت عودية” والمصور اليوغسلافي “ستيفان لابودوفيتش”، كُرم في الدورة التاسعة صاحب فيلم “وداعا أفريقيا” المخرج التشادي “محمد الصالح هارون” الذي يُعتبر أول مخرج من دولة تشاد شارك في مهرجان كان السينمائي وفاز بجائزة لجنة التحكيم عن فيلمه “رجل يصرخ”، وهو اسم اعتاد على تمثيل سينما الالتزام والقارة الأفريقية في أكبر المهرجانات الدولية كمهرجان كان والبندقية وبرلين ودبي.

أيام الفيلم الملتزم.. احتضان القضايا الإنسانية
مهرجان الجزائر الدولي للسينما “أيام الفيلم الملتزم” لم يغير ثوبه منذ طبعته الأولى عام 2009، والتي تزامنت واحتضان الجزائر لثوب الالتزام بالقضايا الإنسانية في المهرجان الثقافي الأفريقي الثاني، فالعنصرية واللجوء السياسي والتحرر والمساواة وقضايا المرأة والبيئة وعمالة الأطفال وغيرها من المواضيع التي تدور في فلك الإنسانية شكلت روح المهرجان وقالبا لكل الأعمال التي تحرص لجنة التنظيم على انتقائها بعناية، وذلك في إطار مُحاولتها خلق توزيع عادل للعروض وتوازن في موضوعات الأفلام التي تعكس مدى اهتمام الفن السابع بقضايا الإنسان على امتداد طويل من أقصى آسيا إلى أمريكا اللاتينية مرورا بأفريقيا وأوروبا، وهي اختيارات فنية تضع مصطلح الالتزام تحت المجهر، وتقرّب واقعا يبدو بعيدا لكنه أقرب، وتمنح المتلقي صورة مصغرة عما يحدث في هذا العالم الذي تعيش نصف شعوبه حروبا وأزمات داخلية وعدم استقرار.
وبأسلوب آخر فإن السينما الملتزمة التي تقترب في موضوعاتها من قضايا الشعوب تضع الإنسان وجها لوجه مع واقعه وما يحيط به وغيره من أحداث بارزة قد تجعله يعيد التفكير في الواقع الذي يسهم فيه أو تفرضه عليه السياسات الداخلية أو الخارجية، ليبقى الإنسان إما المستفيد المباشر أو أكبر المتضررين. كل هذا التراكم يمكن للسينما أن تحتويه، فتلغي كل الحدود التي تفرضها الجغرافيا على البشرية، وتؤسس لنظرة منفردة تتعدد فيها الرؤى والمضامين والمواضيع أيضا.

فلسطين وسوريا.. عمق الطرح الإنساني
عربيا حضرت القضية الفلسطينية في المهرجان ككل مرة، وقصص أخرى مهربة من الأزمة السورية. الأولى حملت بصمة المخرجة الفلسطينية آن ماري جاسر التي لا تفارق أفلامها مهرجانات الجزائر، كما لا تفارق القضية العادلة الخطاب الشعبي والرسمي للجزائر، خطاب لا يمكن أن ينعزل أو يتنازل عن فلسطين.
والثانية تجربة سينمائية فريدة عاد فيها المخرج “آكي كوريسماكي” المتوج فيلمه “الضفة الأخرى للأمل” بالدب الفضي لمهرجان برلين السينمائي 2017 إلى القضية السورية، وذلك من خلال الكوميديا الاجتماعية لفارين من الحرب بسوريا إلى فنلندا ودول أوروبية أخرى، فالكثير يرى أن الكوميديا باتت الأسلوب الأنسب لمخاطبة الآخر.
وفي تصريح للجزيرة الوثائقية أكدت المحافظة “زهيرة ياحي” أن من بين العناصر التي يعتمدها المهرجان في اختياراته الفنية؛ جودة الأفلام وعمق الطرح الإنساني، وكذلك خلق توازن من ناحية المواضيع المبرمجة، مشيرة أن اللجنة لتضمن الحفاظ على ما حققه المهرجان من مكاسب تعمل لأشهر طويلة على اختيار الأحسن والأجود طرحا ومعالجة، وهو عمل جدي يُراد من ورائه أن تصبح أيام الفيلم الملتزم حدثا دوليا هاما؛ نجوميته الأفلام النوعية ونجاحه تفاعل الجمهور معها.
ولعل احترام كبار المخرجين للمهرجان يتضح في قبولهم حضور فعالياته كمشاركين أو مكرمين أو ضيوف شرف، مثل المخرج الأمريكي “أوليفر ستون”، والجزائري “رشيد بوشارب”، والفلسطيني “ميشيل خليفي”، والفرنسي “كوستا غافراس”، والمصور اليوغسلافي “ستيفان لابودوقيتش”، إضافة إلى أسماء عالمية أخرى.
اللجوء والحرية.. مواضيع طاغية
موضوع اللاجئين طُرح بكثرة في الدورة التاسعة، وذلك بعدما أصبح واقعا وحقيقة فرضت نفسها على المستوى السياسي والاجتماعي وحتى الفني، ففيلم “حر” لميشال توسكا مثلا استعرض ما يعيشه اللاجئ والفارّ من موطنه الأصلي إلى الضفة الأوروبية، الضفة الأخرى التي يُخيل للمرء أنها الفردوس المفقود، وقد يتم تحصيله في بيئة أخرى تتسع لمن ضاق بهم الأمر والأمل، لكن الاقتراب من الواقع يفرض منطقا وظروفا أخرى، ففي المنفى أو البلد المُستقبِل وإن كان أوروبيا تبدأ رحلة المفاجآت التي لا تختلف كثيرا عن رحلة الموت الوشيك.
ولم يبتعد الفيلم البلجيكي “أبناء هزار” عن موضوع الهجرة، وهناك أسئلة عديدة يمكن طرحها بعد مشاهدة الفيلم وإعادة صياغة الأجوبة المناسبة لها واللائقة بها، أهمها كيف يمكن للمهاجر أن يسهم في المجتمع الذي احتواه واستقبله؟ وهو ما ركز عليه تيري ميشال إذ قدم موضوعا ونموذجا عن رغبة أبناء المهجر الاندماج في المجتمعات الحاضنة، واضعين نصب أعينهم المحطات التي تنتظرهم في الحياة لا ما سبقهم من أحداث ومحطات دونت في المسار والتاريخ.
وعلى الرغم مما تم تحقيقه من إنجازات واتفاقيات تكفل للأفراد والجماعات حريتهم، فإن الموضوع لا يزال يلهم السينما العالمية، مما يدل على أن الحرية مفهوم وممارسة مبتورة أو فاقدة لأهم مقوماتها. عنوان وقصة فيلم “راؤول بيك” الذي أتم عمل الكاتب “جيمس بالدوين” (1924-1987) الموسوم بـ”لست عبدك” يوحي بذلك، إذ يوثق للصراع العرقي الذي ذهب ضحيته السود بالولايات المتحدة الأمريكية. راؤول بيك نجح في تحويل ثقل كبير تركه الكاتب بالدوين إلى عمل سينمائي قُدم بشاعرية جميلة لامست أحاسيس المشاهد، وأكدت أن بعض الوقائع وإن مرّ عليها الزمن لم تصل مرحلة التغيير بعد.
درسٌ آخر في الحرية قدمته السويسرية آن فريديريك ويدمان في “الرجال الأحرار”، فأن تأتي هذه المواضيع من دول أوروبا وأمريكا المتقدمة أشواطا لا بأس بها في مجال الحقوق والحريات، فهذا يؤكد محدودية بعض الأشياء التي لم يغيرها الزمن ولم تتجاوزها بعض الذهنيات أو السياسات.
“واجب” الفلسطيني.. افتتاح المهرجان
أما الشاعرة والمخرجة الفلسطينية آن ماري جاسر فهي تغيب في كل مرة عن مهرجانات الجزائر، لكن أفلامها تحضر وتعكس الانشغال الفلسطيني والارتباط الوثيق بالأرض، فالجزائر التي تُنصّب فلسطين سيدة القضايا الإنسانية، اختار مهرجانها السينمائي الدولي للسينما أن يفتتح دورته التاسعة بفيلم “واجب” الذي يتناول الأبعاد النفسية والاجتماعية لعلاقة أب بابنه (شادي وأبو شادي) في بيئة تجمع بين الشيء وضده. صحيح أن المخرجة أسندت البطولة للممثلين محمد وصالح بكري، ولكنها جعلت من مدينة “الناصرة” الشخصية الثالثة التي يقوم عليها العمل أيضا، فقصة توزيع دعوات العرس لم تكتمل إلا بإدراج خطاب إنساني وسياسي واجتماعي يعكس الارتباط بالأرض والهوية ويترجم تطور الأوضاع في فلسطين، لكنه يطرح فكرة الاختلاف بين نظرة الابن المغترب وقناعة الأب مربي الأجيال المتمسك بدعوة صديقه الإسرائيلي لحفل زفافه ابنته، وبين السؤال والسؤال ورطت المخرجة آن ماري جاسر المشاهد ليبحث بنفسه عن “الجواب” بكل ما للكلمة من مدلول ومعنى. وقد اعتمدت المخرجة على حوار جميل، ووضعت أغلب أحداث القصة في إطار محدد ومغلق وهو السيارة التي تُقيد من فيها أكثر مما تحررهم.

الذاكرة والتاريخ.. ما بين مُقترِب ومبتعد
خلال لقاء صحفي أعلن صاحب فيلم “الخارجون عن القانون” المخرج الجزائري رشيد بوشارب الذي اعتادت أفلامه المشاركة في مهرجان الجزائر الدولي للسينما؛ عن استعداده لتصوير عمل جديد يقترب فيه من الذاكرة والتاريخ، إذ سيبرز هذه المرة إسهامات الأوروبيات في الثورة الجزائرية. وتجدر الإشارة هنا إلى أحدث أعمال بوشارب وهو “شرطة بيلفيل” التي عرضت في إطار المهرجان.
أما المخرج الجزائري عكاشة تويتة صاحب فيلم “عملية مايو” التاريخي و”موري توري” المقتبس عن رواية ياسمينة خضرا، فقد اختار هذه المرة الابتعاد عن موضوعات التاريخ لصعوبة الحصول والعثور على مواد أرشيفية، واتجه للغوص في قضايا الفساد الإداري في “الطريق المستقيم”.
ويواصل المخرج “علي فاتح العيادي” وفاءه للذاكرة، في محاولة لإبراز جوانب ظلت خفية أو قصص عانت التهميش والتقصير، حيث عزز السينما الوثائقية بموضوع عن “أنريكو ماتاي” الذي دعم القضية الجزائرية خلال حرب التحرير، وأمدّ الحكومة الجزائرية المؤقتة بوثائق مهمة ساعدت الطرف الجزائري على التفوق على المستعمر في مفاوضات إيفيان التاريخية، مستغلا مكانته ليكسب القضية الجزائرية تعاطفا دوليا تحديدا من الطبقة السياسية ببلاده إيطاليا.
ناقش عدد من السينمائيين ومديرو المهرجانات الدولية سبل تعزيز التعاون وتبادل الخبرات في هذا المجال، مستعرضين ما تم تحقيقه إلى الآن من الأهداف المسطرة سابقا، كما كان اللقاء فرصة لعرض خطة عمل لتوسيع التعاون في ظلّ محدودية الإمكانيات وضعف تكوين المختصين، وذلك في مجال تسيير المهرجانات السينمائية التي يجب أن تمنح لأهل التخصص لا للإداريين، كما دعا المشاركون إلى ضرورة الاستفادة من تجربة الدول أو المهرجانات العريقة التي لها تاريخ وسمعة جيدة على المستوى الدولي.
ومن بين المقترحات التي تقدم بها مدير مهرجان غوا السينمائي بالهند “جورج دوبون” تأسيس مؤسسة دولية للسينما، وشبكة علاقات قوية بين المهرجانات تكون لديها صلاحيات ومهام أوسع تتعدى تبادل الأفلام والتكوين، فالمهرجانات يجب أن تكون دعامة لنشر الثقافة السينمائية وتقريب الصناعة السينمائية من الجمهور الواسع.