“مواجهة ترامب”.. عوالم ترامبوية مخيفة

قيس قاسم

 

منذ فوز الرئيس دونالد ترامب في الانتخابات الأمريكية وظهور شكوك في العلن عن وجود تدخلات روسية فيها، والصراعات بينه وبين قادة مؤسساته الأمنية والتشريعية لم تكفّ، بل زادت حدة لدرجة أثارت معها البلبلة بين متابعيها، وضاعفت حيرة مواطنيه في تصديق أيّ من أطرافها. وبتصعيد خلافاته مع المؤسسات الإعلامية وبخاصة مع المكرسة منها، ساعد ترامب على بروز التأزم الحاصل في العلاقة بين البيت الأبيض وبقية المؤسسات إلى السطح، مما استدعى أسئلة عن سبب تصعيده وعدم مبالاته بالأضرار الخطيرة المحتملة من موقفه العدائي.

الوثائقي الأمريكي “مواجهة ترامب” شرع في البحث عن المخفي من المشهد التصادمي المعلن، واقترح البحث في تفاصيله من زاوية مختلفة عن المعروض في وسائل الإعلام يوميا تقريبا. فخلال ساعتين وعبر ستين مقابلة مع شخصيات سياسية وقانونية ورجال إعلام واكبوا الخلافات الحادة والصراعات البنيوية، يقودنا المخرج الأمريكي “مايكل كلارك” -صاحب الوثائقيات الإشكالية والاستقصائية والمعني كثيراً بالشأن الأمريكي مثل: “أمريكا دولة منقسمة” و”حرب بانون” و”ضياع القرار”- يقودنا إلى مواضع “التغيير البُنيوي” المراد إحداثه في المؤسسات السياسية والأمنية الأمريكية.

وكعادته، اعتمد كريك في كتابة نصوصه على المقابلات الشخصية والتأسيس عليها دراميا، وفي “مواجهة ترامب” زاد قليلاً من جرعة المؤثرات الخارجية ومن تدخلات الموسيقى التصعيدية، وذلك ليخفف بها كثرة التعلقيات وظهور الشخصيات المتكرر، لكنه وكعادته أيضاً ظلّ مخلصا للبحث التاريخي وإمكانية استنباط استنتاجات خطيرة من داخله تضفي رصانة على منجزه، وتعزز من أهميته وحيادته.

الوثائقي الأمريكي "مواجهة ترامب" شرع في البحث عن المخفي من المشهد التصادمي المعلن، واقترح البحث في تفاصيله من زاوية مختلفة عن المعروض في وسائل الإعلام يوميا

ملف ترامب السري.. بيد روسيا

تاريخ تأزم العلاقة بأعلى درجاتها بين الرئيس ترامب ومكتب التحقيقات الفدرالي (أف بي آي) بدأ -حسب الوثائقي- لحظة ذهاب مديره “جيمس كومي” في شهر يناير/كانون الثاني عام 2017 بنفسه إلى مقر عمله في نيويورك (برج ترامب)، وذلك ليطلعه على “الملف السري” الخاص به، والمتضمن وثائق خطيرة تؤكد حصول المخابرات الروسية على تسجيلات وصور تخصّ علاقاته الجنسية، والتي من الممكن استغلالها للضغط عليه.

لم يأخذ الرئيس ذلك الكشف كتنبيه وخطر يمكن أن يهدد أمن الأمة، بل اعتبره تهديدا شخصيا ضده وتلميحا إلى نيّة الروس استغلال ما عندهم ضده لضمان وصول رئيس جديد عندهم الكثير من وسائل الضغط عليه وابتزازه.

أكدت المخابرات المركزية “سي آي أي” وعلى لسان مديرها “جون بينان” وجود مثل هذه الوثائق إلى جانب أدلة أخرى عرضها الوثائقي تؤكد تقديم الروس لترامب دعما سياسيا سريا لسنوات سبقت انتخابه.

توافقا مع سلوكه رفض الرئيس التهم، وقام بدلاً من بحثها والعمل على تقليل تأثيراتها السلبية بشن حملة مضادة كال فيها التهم الخطيرة للأجهزة الأمنية وقادتها. وبعد تسريب ما جرى من لقاء ترامب وكومي إعلامياً انبرى الرئيس علناً لتثبيت موقفه المتعارض معها، ووصل به الأمر إلى تشبيه أساليبها بـ”النازية واستخدام نفوذها سلاحاً ضد الناس الذين يختلفون معها”.

أكدت المخابرات المركزية "سي آي أي" وعلى لسان مديرها "جون بينان" وجود أدلة عرضها الوثائقي تؤكد تقديم الروس لترامب دعما سياسيا سريا لسنوات سبقت انتخابه

ترامب.. خير وسيلة للدفاع الهجوم

لبحث سلوكه العنيف وردود فعله الهجومية، رجع الوثائقي إلى تاريخ الرئيس الشخصي وإلى أيام شبابه، وذلك يوم كان يساعد والده في إدارة إمبراطوريته العقارية، حيث سيتبيَّن أن طريقة إدارته للخلافات تعلمها ترامب من المحامي “روي كوهين” المعروف بمواقفه اليمينية ودعمه المباشر للحملة المكارثية ضد الشيوعيين. لقد تتلمذ على يديه وأخذ بنصائحه وإستراتيجيته في حسم الصراعات المعتمدة على مبدأ “الهجوم دون تراجع حتى لو كنت مخطئاً، وإعلان النصر حتى لو كنت خاسراً”.

العينات الفيلمية القديمة والقصص المنشورة الخاصة بترامب وسلوكه العدائي تعزز تبنيه إستراتيجية دفاعية ممنهجة. فمهاجمة الخصوم وإطلاق الأكاذيب يولدان شكوكاً وإرباكاً عند المسمتع، وتستدعي في ذهنه احتمالاً بأن يكون مطلقها على حق. هكذا فعل ترامب تماماً مع المؤسسات الأمنية والحكومية التي يختلف معها ومع وسائل الإعلام المنتقدة لسلوكه، وبشكل واضح بعد توليه الحكم، دون اعتبار إلى ما يمكن أن تسببه من ضرر يلحق بها وبمصداقيتها.

الأمر الآخر الذي لاحظه الوثائقي خلال بحثه في تاريخه الشخصي هو استثماره البارع للمحاكم وطريقة عملها الروتيني والطويل الأمد لمصلحته، فالذهاب إلى المحاكم كان من بين أقوى وسائل الدفاع التي تعلمها في شبابه من “عرابه” كوهين، حتى أصبحت من بين أقوى الوسائل المحببة لديه. ولأنه صاحب مال كبير كان تهديد خصومه بتقديم تعويضات كبيرة إذا خسروا القضايا المختلف عليها؛ هي وسيلته الابتزازية الأكثر نجاعة، وسوف يقوم بالدور نفسه ويستخدم الأدوات نفسها ضد المؤسسات والموظفين الكبار ووسائل الإعلام خلال نشاطه السياسي.

لا يتوانى عن استخدام أي وسيلة تحقق له مصالحه، بما فيها أساليب تهديد وإسقاط قادة مؤسسات خطيرة لا ينبغي للرئيس التشكيك في مصداقيتها علناً، لكنه كان يلجأ لذلك وقتما يجدها تقف في طريقه وتهدد احتفاظه بامتيازاته كرئيس لأكبر دولة في العالم.

سيصاب العالم والمواطن الأمريكي البسيط بالحيرة من مهاجمته “مايكل فلين” مستشار الأمن القومي وأحد الداعمين لحملته الانتخابية، وذلك بمجرد قبوله الإدلاء بشهادته واعترافه بكذبه أثناء التحقيقات الفدرالية فيما يتعلق بعلمه بوجود اتصالات بين مجموعة ترامب والروس، ومقابلة بعضهم السفير الروسي في واشنطن.

يلحظ الوثائقي لجوء ترامب أثناء هجومه على خصموه -منذ كان شابا وحتى بعد توليه الرئاسة- إلى استعارة تعابير جاهزة مثل “إنها أساليب الغيستابو النازية” أو “مطاردة الساحرات” و”أكاذيب صحافة”، وغيرها من التعابير ذات الدلالات القوية المستخدمة في غير موضعها.

لاحظ الوثائقي خلال بحثه في تاريخ ترامب الشخصي استثماره البارع للمحاكم وطريقة عملها الروتيني والطويل الأمد لمصلحته، كما أنه لا يتوانى عن استخدام أي وسيلة تحقق له مصالحه، بما فيها أساليب تهديد وإسقاط قادة مؤسسات خطيرة

ترامب.. سلوك منفلت وعداوات في كل اتجاه

ينقل الوثائقي بعض الملاحظات التي دونها المحقق جيمس كومي أثناء مقابلته ترامب على انفراد، فقد طلب الأخير ذلك ومن دون حضور طرف ثانٍ، وذلك في تجاوز صارخ للأعراف السياسية الأمريكية التي تمنع اجتماع الرئيس مع أيّ من مسؤولي الأجهزة الأمنية بمفرده، فقد أبعد حتى وزير العدل من الغرفة لأنه أراد توجيه تهديد مباشر لكومي، وطلب التعاون معه تحت عنوان “الولاء التام للرئيس”. سربت وسائل الإعلام الرزينة بعضا مما سُجل في اللقاء، ووجد ترامب نفسه يحارب على أكثر من جبهة.

المقابلة وما تسرب منها تشي بجانب في شخصه إذ لا يتورع عن فعل كل شيء دون تردد أو حساب للعواقب، “لقد أعماه المال” على حد تعبير أحد المحللين السياسين، ولم يعد يهتم بالمخاطر الناجمة عن خرق “الرئيس” لقوانين بلاده بدلاً من حمايتها وصيانتها.

وعلى مستوى آخر، أفرز سلوكه “المنفلت” خلافاً حادًا بينه وبين المؤسسات الإعلامية الرصينة، فبينما كان يدعم قنوات ومحطات معروفة بخفتها ودعمها له مثل “فوكس نيوز”، كان في المقابل يعلن كراهيته لصحفيي واشنطن بوست ونيويورك تايمز، وبدورهم لم يدخر أولئك جهداً في مواجهته. والحقيقة كما تظهر في الوثائقي المتشعب الأطراف أن من ساعد محققي الأجهزة الأمنية هم الصحفيون الذين وجدوا في سلوكه ضدهم ما يستحق إعلان مجابهتهم له دون خوف.

أفرز سلوك ترامب "المنفلت" خلافاً حادًا بينه وبين المؤسسات الإعلامية الرصينة، فبينما كان يدعم قنوات معروفة بدعمها له مثل "فوكس نيوز"، كان في المقابل يعلن كراهيته لصحفيي واشنطن بوست ونيويورك تايمز

تاريخ ترامب.. تحقيق المصالح بأي ثمن

العلاقات الشخصية مع شخصيات سياسية ومخابراتية واقتصادية روسية كانت إحدى أكثر مشاكل ترامب تعقيداً، وهو ما استدعى مواجهته من قبل أكثر من طرف فاعل في السياسة الأمريكية، وتوجها بتصديقه رواية “فلاديمير بوتين” إزاء عدم تدخله في الانتخابات، وتكذيبه بالتالي ما عرضته عليه أجهزته الأمنية من وثائق سرية.

وطالما حاول ترامب التستر على علاقاته مع الروس، غير أن تسريبات ومعلومات جديدة حولها كانت تبرز إلى الواجهة بين فينة وأخرى مثل صلات صهره “جاريد كوشنر” القوية بأصحاب بنوك روسية، وشخصيات متنفذة قريبة من الرئيس الروسي، وقد أثارت “مطاردة كومي” حفيظة الرئيس وأشعرته بالخطر المحدق بمنصبه، لهذا أراد مهادنته والتعاون معه، لكنه وبعد التأكد من إصراره على مواصلة التحقيق راح يتآمر ضده، ويبحث عن أعداء له يساعدونه في التخلص منه.

يكرس الوثائقي فصلاً كاملاً عن مؤامرات ترامب ونكثه بالوعود بسهولة مخيفة، مستشهداً بقصة استعانته بنائب وزير العدل في حكومته “رود روزنشتاين” للتخلص من “جيمس كومي”، لكنه وبعد أن حقق ما أراد منه تنكر لدوره، فما كان من الأخير إلا أن بيّت له انتقاماً مضادًا.

يذهب الوثائقي لجمع الكثير من سلوكيات الرئيس غير الأخلاقية عبر مراجعة تاريخه الشخصي والعائلي على الخصوص، وسيتوصل عبر مقابلته عدداً من الشخصيات التي عرفته جيداً أن سلوكه البراغماتي غير الأخلاقي مبني على فكرة “تحقيق المصالح بأي ثمن”.

نيويورك وواشنطن.. والقادم من ناطحات منهاتن

يتوقف الخبراء المختصون بالشأن الأمريكي والعارفون بخفايا إدارة الصراعات الداخلية إلى نقطة افتراقية لم يعرها ترامب اهتماماً على شدة أهميتها، ويقصدون بها حساسية الفرق بين مدينتي نيويورك وواشنطن، فطغيان المصالح الفردية على غيرها من المصالح يمكن تطبيقها -لمن يريد تطبيقها- خارج إطار دولة عظمى مثل الولايات المتحدة الأمريكية، وهذا ما لم يراعه ترامب.

يخصص الوثائقي جزءاً من زمنه المشحون بالتفاصيل الدقيقة والمعلومات المهمة لتقريب معنى “الفرق بين واشنطن ونيويورك” إلى متلقيه، ففي نيويورك يمكن للمليونير عمل ما يريده، لكن ذلك لا ينطبق على سياسيي واشنطن، فهذه المدينة المركز لها أعرافها وتقاليدها السياسية، فالصحافة تعرفها والمشتغلون في المؤسسات التشريعية يعملون وفقها، أما الزائر القادم من ناطحات منهاتن فلا يُقيم لها وزناً.

لهذا فقد أخطأ ترامب كثيراً رغم استخدامه طريقة الهجوم المضاد، ويتضح ذلك بشكل جلي عندما أمر بإبعاد وسائل الإعلام الأمريكية من حضور مقابلته وزير الخارجية الروسي، واختصارها على حضور مصور خاص من وكالة “تاس” الروسية. وقد مَثَّل ذلك اللقاء خرقاً صارخاً للتقاليد السياسية والإعلامية لن يسامحه عليها حتى المؤيدين له، ليجد نفسه بعد ذلك مضطراً للانحناء أمام العرف “الواشنطني” مرغماً، ولكن كعادته لم يعترف بذلك الخوف صراحة.

اعتمد المخرج في كتابة نصوصه على المقابلات الشخصية والتأسيس عليها دراميا، وفي "مواجهة ترامب" زاد قليلاً من جرعة المؤثرات الخارجية ومن تدخلات الموسيقى التصعيدية

مشهد ترامبوي مخجل.. لماذا ما زال يحكم؟

ثمة الكثير من التنقلات في سلوك الرئيس ترامب، فهو قد يعلن أمراً اليوم ويناقضه في اليوم التالي، لكن الأمور في عالم السياسة الأمريكية لا تسير وفق إرادة رئيس يريد تجاوز قوانينها باستهتار معلن ووعي تام بمسار خطواته المحسوبة وفق عقلية رأسمالية لا تعبأ بغير مصالحها الخاصة، وبنظرية تشتيت التركيز التي اشتغل عليها طويلاً وحققت له فيما مضى نجاحات، وسيظهر ذلك جلياً في انتقام المستشار القانوني “روزنشتاين” منه عبر قبوله تشكيل لجنة تحقيق خاصة بـ”الخروقات” الروسية والتجاوزات القانونية كلّف بترؤسها “روبرت مولر” المدير السابق للـ”أف بي آي” والمُبعد من قبله.

ستطال التحقيقات أقرب المقربين منه وبخاصة محاميه “مايكل كوهين” المسمى مُخَلّص الرئيس والمتهم بعرضه مبالغ كبيرة على مومسات أقمن علاقات غير شرعية مع الرئيس مقابل سكوتهن، وابنه “جي أر” الذي سبق له أن اتصل بمحامية روسية تدعى “ناتايا فيزينسكايا” ساعدت في تسريب معلومات شخصية عن منافسته “هيلاري كلينتون”.

في ختام الوثائقي يتجمع مشهد ترامبوي مخجل مليء بالفضائح والسلوكيات اللاأخلاقية، ومع ذلك لا يزال يحكم، لماذا وإلى متى؟ سؤالان ترك المخرج مايكل كريك صاحب المنجز المذهل الإجابة عليهما لأحد الصحفيين وأوجزه بالتالي “سحب الثقة منه في الكونغرس، أو ترك البت بأمره إلى الشعب الأمريكي بعد أن يتوصل بنفسه إلى قناعة راسخة بأن رئيسهم الذي أنتخبوه لمدة أربع سنوات لا يستحق التمديد”.    


إعلان