الرقابة السياسية تصادر الدين والفن
أسامة صفار

لا تعمل آليات السلطة الدينية الرقابية في مجتمعاتنا العربية بمعزل عن السلطة السياسية إلا في حالات نادرة لا تعد معيارا يمكن القياس عليه لذلك تبقي السلطة الرقابية خاضعة للسياسي و ليس للفقيه ذلك أن السياسة صادرت الدين منذ سنوات طوال وأصبح منظور الدين يخضع للحاكم السياسي الذي تكاد علاقته بالدين والتدين تشبه علاقته بالإبداع الفني و حين يتم تصدير ” المشايخ ” في واجهة المشهد للمراقبة يعجزون عن الرد وتبرير المنع لضعف علاقتهم بالفن بينما تعمل القوانين في صمت ومن دون ضجيج حتي تحقق الهدف السياسي .
ولا تهدف الرقابة بشكل عام إلي حماية الأخلاق كما تنص القوانين أو النظام العام للمجتمع ولكنها تهدف إلي ” برمجة “مواطن صالح طبقا لما تراه النظم السياسية – الدينية و في سبيل إحكام السيطرة يمكن للحاكم أن يمارس السياسة باعتباره حاكما لكن البعض يفضل فرض الأمور بقوة التخويف وصولا إلي السيطرة التي يعتقد أنها كاملة
ولكن.. كيف تستطيع الدولة السيطرة علي حياة مواطنيها؟ يجيب ميشيل فوكو في كتابه ” المراقبة والمعاقبة ” الصادر عام 1975 مشيرا إلي أن الدولة تحولت من السيطرة الجسدية علي حياة مواطنيها بالقوة إلي السيطرة النفسية عبر نظام مراقبة مركزي يجعل من كل مواطن يتأكد تماما أن عين الدولة تراقبه في كل حركة وسكنة ويري أن هذا هو جوهر الدولة الحديثة .
ويشير في السياق نفسه إلي أن المراقبة المركزية وإيهام كل مواطن بفكرة المراقبة التي يتعرض لها علي مدار الساعة تدفع المواطنين إلي التصرف كالمعتاد من دون أي محاولة للخروج عن الدروب المحددة سلفا من قبل السلطة بكل تجلياتها ما يعني ببساطة التخلي عن أي رغبة في فعل الجديد وهو ما يعني انتفاء الإبداع .

وفي الدول العربية و نسبة كبيرة من دول الغرب تمتلك الدولة نوعين من الحساسيات هما ” الحساسية الدينية ” و ” الحساسية السياسية ” و يتم توظيف كلتيهما لحماية النظام الاجتماعي و السياسي بشكل يضمن استمرارهما كما هما من دون خلخلة وهو ما يؤدي بالضرورة إلي حفظ معادلة كراسي الحكم و الجالسين عليها
و للدين والسياسة سمات مشتركة أهمها تلك الحساسية المرهفة تجاه المساحات المفتوحة أو الفضاءات المطلقة من دون حدود ولا ضوابط لذلك يمتلك كل منهما تلك القدرة التي تدعي ” السلطة ” وتستخدم في ” ضبط ” و ” تحديد ” الإبداع” بحيث لا يخرج عن الإطار المرسوم له .
و عبر تاريخ الأعمال الإبداعية والثقافية في العالم لم يلتق الدين والسياسة لقاءات حارة وخالصة الود إلا بوجود أداتهما الأهم والتي تعد التجلي العظيم للود الخالد بينهما وهي الرقابة. و الفهم الأبسط للرقابة في مجال الإبداع يشير إلي تلك العملية التي تتم خلالها معرفة القطعة الفنية التي قدمها فنان أو مجموعة فنانين لرصد وتحديد ما إذا كانت قد تجاوزت ما تسمح به كل من السلطة الدينية أو السياسية أم لا أو هي محاولة فرض السطوة على المبدع بشكل عام لقولبة فنه، بحيث يصبح ملائمًا للفكرة المحدودة عن الفن، وهو الأمر الذي يؤطر الفن بمعايير غير جمالية أو فنية من الأساس.
واذا كانت بعض المجتمعات قد تجاوزت فكرة الرقابة السلطوية المباشرة برقابة مجتمعية في أغلبها فإن مجتمعات أخري تبدو وقد تجاوزتها الرقابة و اعتلتها فتحول المشهد من مراقبة الإبداع إلي تحديد الإبداع نفسه من حيث المضمون وأحيانا الشكل للدرجة التي يمكنها ببساطة أن تستدعي مشهدا لمجموعة من المبدعين يقفون في طابور و يتسلم كل منهم ورقة حدد له فيها موضوعا للإبداع وشكل له و من ثم يذهب لتنفيذه !!!
و إذا نجحت السلطة في إبرام قوانين من هذا النوع فإن الأمر يتحول حينها إلي حالة تعليم لا مكان للإبداع فيها أما المبدعون الحقيقيون فلا مكان لهم في مجتمعات كهذه وأغلب الظن سيكونون خارجها أو ” تحت الأرض ” إما حرفيا أو في تلك المساحات المهمشة المستقلة عن سوق الإبداع برمته .
وتتوحش الرقابة في ظل أنظمة بعينها طبقا لتحولات سياسية و أجتماعية فتتخذ مكانها في الخطوات الأولي للعمل الفني أو الإبداعي إما عبر رأس المبدع نفسه فيما يسمي ” الرقيب الذاتي ” أو عبر الأوراق التي تجيز للمبدع نشر مصنفه سواء كان مكتوبا أو مرئيا ونظرا لتعدد جهات الرقابة فإن الكثير من الأعمال تستوفي كل درجات السماح بعرضها ثم تقع ضحية ملاحظة من مواطن تقدم ببلاغ فأقنع القاضي .
ولعل التجربة المصرية في الرقابة سواء علي الكتب أو الأعمال الإبداعية المرئية تصلح نموذجا لقياس تحولات الرقابة طبقا لتحولات النظام السياسي الذي يستخدم في أغلب الأحيان منظومة المقولات الدينية لصالحه حتي لو لم تكن لها علاقة بالمحرمات .
ويذكر التاريخ القريب ما تعرض له فيلم ” الرسالة “1976 للمخرج والمنتج السوري الراحل مصطفي العقاد والذي قدم تحفة فنية اعتبرها البعض واحد من أفضل الأعمال التي قدمت الإسلام للعالم، حيث منع من العرض – حتي الآن – رغم موافقة الأزهر الشريف علي السيناريو و يصبح الأمر مدهشا أكثر إذا علمنا أن خطأ إجرائيا تسبب في هذا المنع والأغرب أن يبرر المسئولون الأمر – فيما بعد – بأن الأزهر تراجع عن الموافقة التي قدمها ،وأخيرا استقرت الحجة الأساسية لمنع العرض وقيل ” ظهور الصحابي الكريم حمزة بن عبد المطلب وتجسيده “.
أما فيلم” البرئ” 1986للمخرج الراحل عاطف الطيب فقد قدر له أن يعرض بعد مشاهدة ثلاثة وزراء له هم وزير الدفاع ووزير الداخلية ووزير الثقافة وتم تغيير نهايته ليعرض, ولم يعرض فيلم “شيء من الخوف ” الشهير إلا بعد مشاهدة جمال عبد الناصر له وإجازته له.
وكانت المخاوف تتعلق بارتداء جندي أمن مركزي ” تابع لشرطة ” زيا عسكريا ” و تتعلق أيضا بوصول هذا الجندي إلي قمة الغضب وإطلاقه النار علي قياداته وهي النهاية التي تم تغييرها.
أما فيلم ” المذنبون ” 1975 للمخرج سعيد مرزوق فقد تجاوز كل الخطوات الرقابية المطلوبة ثم عرض في دور العرض بمصر وعلي إثر ذلك أحيل 17 رقيبا من جهاز الراقبة علي المصنفات الفنية إلي المحاكمة و سحب الفيلم من الأسواق.

و قيل في أسباب الضجة والمحاكمات أن الفيلم يمس الأخلاق لكن حقيقة الأمر أن العمل كان يستعرض حجم الفساد الاجتماعي والسياسي في تلك المرحلة وهو ما تكرر مع فيلمي ” خمسة باب “1983 للمخرج نادر جلال و”درب الهوي ” 1983 للمخرج حسام الدين مصطفي
وبقيت شماعة حماية الأخلاق هي الأكثر استخداما في السينما بشكل خاص لكن التطور الحالي والذي يعد الأخطر والأغرب في تاريخ الرقابة ورغم استخدامه لمفردات الأخلاق وما شابه إلا أن الأسباب التي يصرح بها المسئولون تعلق بوجود اهتمامات مختلفة لدي منتجي التليفزيون – الذي حل مكان السينما في التأثير علي الوجدان العام – يمكن أن تؤدي إلي هدم الدولة !
وتشير المعركة التي لا تزال تدور رحاها بين المبدعين المصريين من جهة و بين المجلس الأعلى ممثلا في لجنة الدراما المنبثقة عنه من جهة أخري إلي أن معركة مراقبة المحتوي قد حسمت لصالح السلطة القائمة و أن العمل الرقابي تجاوز نفسه إلي إملاءات فعلية يرغب الرقيب في إرسائها كأسلوب للعمل .
وهي ليست التجربة الأولي التي يقرر خلالها نظام ما فرض أجندة اهتمامات علي المجتمع عبر الشاشات أو الأعمال الإبداعية فبعد انقلاب يوليو 1952 أدرك الضباط أهمية السينما وشهدت الفترة اللاحقة إنشاء العديد من المؤسسات الإنتاجية التابعة للنظام وضخ الملايين وتحول المبدعون والمثقفون إلي موظفين وشهد الإنتاج المصري رواجا حقيقيا و سادت منظومة قيم لسنوات طويلة كانت نهايتها 2011 إذا ثار المجتمع علي منظومة انقلاب يوليو بكل ما حوته من إيجابيات وسلبيات .
ولعل سر نجاح الرقابة بالإنتاج هو إدراك معادلة الرأسمالية عبر ضخ الملايين واستعادتها مضاعفة ومعها أرباح و ضمان لولاء العاملين في السينما و قد حدث الأمر نفسه في مجال نشر الكتب
وتهدف المرحلة الجديدة من الرقابة – الإنتاجية إلي تجنيد مبدعي مصر لصالح نظام سياسي أحادي يختصر الدين والدولة ومصالحها في ذاته ولكن من دون خبرة حقيقية بإدارة الشعوب ولا استعداد لممارسة العمل السياسي فيما يسبه الاكتفاء بامتلاك القوة المادية المخيفة لمحرك وحيد للمواقف .
وقد نشأت الرقابة بالأساس مع اختراع يوحنا جوتنبرج للطباعة ومارسها القساوسة علي الكتب المطبوعة في أوروبا لكن الفنون البصرية و خاصة السينما انطلقت في الأفق في مرحلة كان الحضور الديني خلالها ضعيفا حيث بدايات القرن العشرين والغرور الإنساني بالعلم وهو ما أدي إلي التحرر النسبي للسينما مقابل الفنون الأخرى لكن المنطقة العربية استوردت هذا الفن بينما يسكنها الهاجس الديني – السياسي فكان مصير العديد من الأعمال الفنية المصادرة أو المنع أو التأجيل حتي يموت رئيس ويأتي آخر برؤية جديدة للأمور .
