الأخبار الكاذبة.. معركة مضنية

محمد موسى

الكثير من الدلائل تُشير على تورط النظام الأمني في روسيا بشكل مباشر بقضية الانتشار المنظم للأخبار الكاذبة في العامين الأخيرين

شَحَنت الأحداث السياسية العالمية في العامين الأخيرين -وبالخصوص الانتخابات الأمريكية واستفتاء انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي- قضية الأخبار الكاذبة بقوة وإلحاح غير مسبوقين، حيث إنها تشغل اليوم الكثير من الدول حول العالم، وتشوش فعلياً على ما يقوم به الإعلام التقليدي الجديّ، كما تكاد الأخبار الكاذبة والملفقة والمبالغ فيها تتحول إلى عامل جديد مؤثر وإلى حدود مُقلقة كثيراً على سير الانتخابات والعملية الديمقراطية في الكثير من الدول الغربية، خاصة مع تنوع واتساع المنصات التي يُمكن للأخبار الكاذبة أن تبدأ وتنتشر عليها، إذ إنها لم تعد محصورة في دوائر مغلقة أو تتوجه إلى جمهور محدود، فنحن نتعثر بها في كل ساعة تقريبا وعند تجوالنا في شبكة الإنترنت.

والحال أن ظاهرة بثّ الأخبار الكاذبة التي يتم التركيز عليها اليوم لا تختلف في جوهرها كثيراً عن نشر الأخبار غير الدقيقة عبر أجهزة الإعلام في الماضي البعيد، أو التي يتم بثها بين الناس مباشرة، ومن أجل غايات معينة. لكن الفرق الكبير بين ما تقوم به صحيفة صفراء في حقبة ما قبل الإنترنت عندما كانت تنشر خبراً كاذباً يصل إلى بضعة آلاف من القراء وما يحدث في السنوات الأخيرة؛ هو أن الأخبار الكاذبة تنتشر اليوم بسرعة فائقة عبر الإنترنت، ويصل جمهورها مئات الملايين من البشر، كما أن هذه الأخبار التي يقف خلفها جهات منظمة وخبيثة، يُمكن أن تُحرف بوصلة العملية السياسية وتُغيّر المزاج الشعبي العام، وتزيد الكره والضغينة وتدفع البعض للعنف.

الأخبار المزيفة.. تلاعب يحتاج إلى تحقق

يبدو أنه من الصعب إيجاد تعريف مُوجز  لمفهوم الأخبار الكاذبة بنسختها الحديثة، فهي من جهة ما يصلنا من أخبار لم تقع أصلاً، وأحياناً هي المبالغات التي تضاف إلى أحداث بعينها ولغايات متنوعة، وهي التزييف الذي يطال الصور الفوتوغرافية ليصبح ما نراه في الصور المنشورة لا يمثل الحقيقة أو كما التقطها المصور الفوتوغرافي. ومفهوم التلفيق هو شائع أيضاً في تقارير الفيديو، حيث يجري التلاعب بالتسلسل الزمني للأحداث، أو يتم التركيز على تفاصيل معينة دون غيرها تجعل المنتج النهائي لا يُعبر عن الحقيقة كاملة. كما أن التزييف في الملفات الصوتية موجود منذ زمن ما قبل الإنترنت، حيث يتم تحريف الحقائق (عبر المونتاج) وخلق أخرى مُلفقة.

وصلت التكنولوجيا التي تسهل التلاعب بالصورة والصوت اليوم إلى مستويات متقدمة كثيراً من الدقة، كما أنها أصبحت متاحة للجمهور الواسع، إذ لم يعد من الصعب كثيراً التلاعب تكنولوجياً بفيديو لرئيس دولة أو شخصية عامة ما والتحكم بحركة فمه ليقول كلاما لم يقله، هذا يتم بالتوازي مع خلق نبرة صوت تشبه تماماً تلك الشخصية الحقيقية، فيما تحول التلاعب بالصور الفوتوغرافية عن طريق برامج تحرير الصور الإلكترونية إلى نوع من الثقافة الشعبية والمتوافرة للجميع.

كما يصل الابتكار في خلق قصص تبدو حقيقية تماماً إلى مستويات مخيفة حقاً، مثلما فعل أحد الأمريكيين حين أنشأ مواقع إلكترونية تشبه تماماً من ناحية التصميم مواقع إلكترونية أمريكية حكومية حساسة، ثم قام بنشر أخبار كاذبة عليها، وأعاد نشر هذه الأخبار على مواقع التواصل الاجتماعي، لتنطلي هذه الخديعة على الكثيرين الذين لم يدققوا في عناوين هذه المواقع، ولم يكلفوا أنفسهم التحري في مواقع أخبار محترمة عن الحقائق.

الأخبار الكاذبة يقف خلفها جهات منظمة وخبيثة، يُمكن أن تُحرف بوصلة العملية السياسية، وتُغيّر المزاج الشعبي العام، وتزيد الكره والضغينة، وتدفع البعض للعنف

روسيا.. اتهامات متواترة بالتزييف

تُشير الكثير من الدلائل على تورط النظام الأمني في روسيا بشكل مباشر بقضية الانتشار المنظم للأخبار الكاذبة في العامين الأخيرين، وهي الاتهامات التي نفتها روسيا بالكامل، في الوقت الذي لا تزال قضية تعاون الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مع الحكومة الروسية أثناء الانتخابات التي قادته إلى السلطة تنتظر الحسم القضائي في الولايات المتحدة.

أوروبا بدورها وجهت اتهامات لروسيا لبث أخبار مُلفقة تستهدف إثارة نزعات عنصرية وقومية، جاء بعضها أثناء أزمة اللاجئين العالمية في الأعوام الأخيرة، كما يُخشى أن روسيا ربُما تدخلت أو تُجهز للتدخل في معظم الانتخابات الأوروبية القادمة، وذلك لإثارة الفوضى كعقاب روسي لأوروبا بسبب موقف الأخيرة المتشدد الذي أخذته إزاء الحركة الانفصالية في أوكرانيا.

أنجزت وسائط متنوعة في الإعلام الأوروبي الجدي تحقيقات عديدة في العامين الماضيين، وذلك لإثبات ضلوع روسيا في قضية إنتاج ونشر الأخبار المزيفة. قادت بعض هذه التحقيقات إلى شركات تكنولوجية روسية ينحصر جلّ عملها في صناعة وتوزيع الأخبار الكاذبة، ليس فقط لدواع سياسية، بل إن هذه الشركات تبيع خدماتها للراغبين، إذ يُمكن تسخير الأخبار الكاذبة لأغراض تجارية بحتة، وذلك للترويج لمنتج ما مثلاً وإبرازه عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي. كل هذا يتم عن طريق ملايين من الصفحات الشخصية غير الحقيقية، والتي تنتشر اليوم على مواقع التواصل الاجتماعي، وهمها نشر وترويج الأخبار الكاذبة.

الفيسبوك أضاف وبعد انتقادات دولية واسعة بسبب تحوله لمنصة نموذجية للأخبار الكاذبة، إمكانية الإبلاغ عن أي خبر ينشر على الموقع يُشك بزيفه

فيسبوك.. ساحة الأخبار الملفقة

أضاف فيسبوك -وبعد انتقادات دولية واسعة بسبب تحوله لمنصة نموذجية للأخبار الكاذبة- إمكانية الإبلاغ عن أي خبر ينشر على الموقع يُشك بزيفه. بيد أن هذه الخاصية التي هي من جانب لا يعرفها أو يهتم بها معظم مشتركي فيسبوك الذين يقدر عددهم ببليوني مشترك، فإنها على الجانب الآخر ليست فعالة دائماً، إذ إن الموقع الذي يُدار آليا وضمن برمجيات معقدة يستجيب أيضاً لعلامات الإعجاب والتفاعل التي يتركها الكثيرون على الأخبار الكاذبة، وبالتالي يبقي على الأخيرة، وعلى حساب البلاغات القليلة التي تصله عن مصداقية هذه الأخبار.

وعلى الرغم من أن فيسبوك استجاب لمطالب حكومية أوروبية -تحديداً من ألمانيا- بالتعاون بشكل أكبر للحدّ من انتشار الأخبار الملفقة، وأضاف أخيراً تحذيراً يظهر على بعض الأخبار التي تُنشر على صفحاته بأن هذا الخبر ربما يكون غير صحيح، فإن هذا الإجراء يبقى محدود التأثير لدرجة كبيرة، إذ يوفر فيسبوك الإمكانية أيضاً للراغبين لحذف هذا الإنذار، والاستمرار بعدها بقراءة الخبر.

كما تتواصل الانتقادات لموقع فيسبوك بسبب سياساته المتساهلة مع الصفحات المزيفة التي يُنشئها أفراد أو شركات متخصصة، ويتم عبرها نشر الأخبار الكاذبة. يُعزى تساهل فيسبوك وفق الأمريكي ساندي باراكيلاس (كان يشغل منصب مدير الخصوصية في الموقع وترك الخدمة احتجاجاً على الممارسات التي تجري هناك) إلى أن الأخبار الكاذبة المثيرة هي التي تشجع التفاعل والحركة على فيسبوك (ترافيك)، وهو العنصر المهم جدا في بيع الإعلانات التجارية على الموقع الأزرق.

أوروبا وجهت اتهامات لروسيا لبث أخبار مُلفقة تستهدف إثارة نزعات عنصرية وقومية

التصدي للأخبار الكاذبة.. معركة مضنية

تعي وسائل الإعلام التقليدية الجدية وحكومات دول غربية أن معركتها مع الأخبار الكاذبة طويلة وصعبة جدا، وأنها ربما لن تربح تماماً هذه المعركة، إذ توفر الأخبار الكاذبة إثارة يبدو أن الكثيرين ولأسباب نفسية واجتماعية في حاجة لها. وتُخصص مؤسسات إعلامية عملاقة -بعضها حكومي- جزءاً من نشاطها اليومي في التصدي للأخبار الكاذبة التي لا تنحصر في فئة الأخبار التي تظهر على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث إن الذين يقفون وراء الترويج لهذه الأخبار أصبحوا يزعجون مؤسسات إعلامية عريقة بقصص وأخبار ملفقة بالكامل، لكنها تنطوي على سيناريوهات محكمة يرسلونها إلى هذه المؤسسات ليشغلوا بها من يفحص صدقها لساعات أو أيام حتى يتبين زيفها.

بدأت في العامين الماضيين مبادرات تقف وراءها حكومات أوروبية للتصدي اليومي للأخبار الكاذبة، وذلك عبر مراكز تدقيق المعلومات (fact checking)، والتي تأخذ على عاتقها تحليل وتدقيق الأخبار الكاذبة اليومية، ونشر الحقيقة سواء على مواقعها الإلكترونية وصفحاتها على مواقع التواصل الاجتماعي، أو عبر منصات مؤسسات إعلامية مرموقة تتعاون معها من تلك التي أصبحت تخصص مساحات دورية لتدقيق ما ينشر على شبكة الإنترنت.

يكفي الاطلاع على نشاط مؤسسات ألمانية في هذا الاتجاه لإدراك عمق المشكلة وآثارها الكبيرة على فئة واسعة من الجمهور في البلد الأوروبي من الذي لا يكلف نفسه تحري ما يقرؤه على مواقع التواصل الاجتماعي.

ومن الأخبار الملفقة التي تلقى رواجاً كبيراً على مواقع التواصل الاجتماعي في ألمانيا ويتم مشاركتها لآلاف المرات، تصريحات منحازة كثيراً للاجئين تنسب للمستشارة الألمانية أنغيلا ميركل. كما أثارت إحصائية وخارطة عن أعداد ومواقع اللاجئين الذين تورطوا بجرائم اعتداء جنسي على ألمانيات غضباً واهتماماً كبيراً في ألمانيا، رغم أن الإحصائية -وحسب مراكز ألمانية مستقلة– مُبالغ فيها كثيراً. كما أن ضحايا اعتداءات جنسية لبعض طالبي اللجوء في المانيا لم يكونوا دائماً من الألمان، حيث اعتدى هؤلاء على لاجئين مثلهم في مراكز لجوء، وصنفت جرائهم هذه ضمن الاعتداءات الجنسية على ألمانيات.


إعلان