الصين وانتهاك الخصوصية

محمد موسى

تكنولوجيا حديثة تجمع معلومات مُفصلة عن الصينيين العاديين، وتربط المخالفات والتجاوزات التي يقومون بها بقاعدة بيانات إلكترونية ضخمة.

حازت أخبار البنك الاجتماعي الذي تنوي الحكومة الصينية البدء فيه في عام 2020، ويجمع معلومات مُفصلة عن الصينيين العاديين، ويربط المخالفات والتجاوزات التي يقومون بها بقاعدة بيانات إلكترونية ضخمة، تستعمل خلاصاتها بعدها لمعاقبتهم أو مكافأتهم، باهتمام عالمي واسع، وأُعتبر هذا البنك، التجسيد الأمثل لمفهوم الدولة البوليسية العصرية، التي تستخدم آخر ما وصلت إليه التكنولوجيا، لتطبيق سياسيات قديمة قِدَم البشرية نفسها.

كما ربط البعض بين البنك الاجتماعي الصيني، وحلقة من المسلسل التلفزيوني الخيالي المعروف “مرآة سوداء”، التي قدمت قصة من المستقبل القريب، وفيها تحول التقييم الذي يمنحه الناس لبعضهم في معاملاتهم اليومية (يتم عن طريق الأجهزة الإلكترونية الخاصة بهم والمتصلة بالإنترنت) إلى المعيار الأهم الذي يحدد المكانة الاجتماعية لإنسان المستقبل، كما يؤثر هذا التقييم على معظم تفاصيل الحياة اليومية، من تأجير سيارة إلى حجز بطاقة سفر على وسيلة نقل عامة.

والحال أن الحكومة الصينية لن تنتظر عام 2020 للبدء بالعمل وفق البيانات التي جمعتها عبر بنكها الاجتماعي، إذ إنها بدأت فعليا في استخدام هذه البيانات التي جمعتها في بعض المدن الصينية الكبيرة، فالذي يخالف نظام المرور في مدينة شانغهاي الصينية لعدة مرات، سيجد صورة له في الأيام التالية على واحدة من الشاشات التلفزيونية العملاقة المعلقة في الأماكن العامة في المدينة. أما الذي لا يسدد الديون التي بذمته في الوقت المتفق عليه، سيوضع اسمه في لائحة سوداء، ولن يكون في مقدروه شراء بيتاً أو سيارة، أو حتى حجز بطاقة قطار أو طائرة. ناهيك عن آخذ قرض مالي جديد. حيث ترتبط اليوم المعلومات الشخصية عن الصينيين بشبكة إلكترونية شديدة الدقة والتفصيلية، وتكاد تتفوق على جميع البلدان في العالم.

يؤثر تقييم الحكومة على معظم تفاصيل الحياة اليومية، من تأجير سيارة إلى حجز بطاقة سفر على وسيلة نقل عامة.

قدرت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) في تقرير لها عن عدد كاميرات المراقبة المنصبة في الأماكن العامة في الصين اليوم ب 170 مليون كاميرا، والتي سينضم إليها في الثلاثة أعوام القادمة 400 مليون كاميرا جديدة. كما أن كاميرات المراقبة الأمنية لم تعد تقتصر على تلك المعلقة في الشوارع والميادين العامة، إذ إنها أصبحت جزءاً من عِدة رجل الأمن الصيني العادي، وكما كشف تقرير هولندي صحفي أخير، والذي رافق شرطية في إحدى أجهزة الأمن الصينية، كانت تلبس نظارات خاصة مجهزة بكاميرات متفوقة في قدرتها على التعرف على وجوه العابرين في الشارع. بَيَّن التقرير نفسه أن الشرطية الصينية تعرفت على حوالي ثلاثين شخصاً كانوا يحملون هويات شخصية مزيفة في يوم واحد فقط.

وعلى رغم أن القانون الصيني لا يعترف بالصور الفوتوغرافية أو التسجيلات الصوتية التي يتم تسجيلها، إلا أن الحكومة الصينية ماضية في تطوير تكنولوجيات جديدة تخص المراقبة الأمنية العامة وجمع المعلومات إلكترونيا، والعمل وفق هذه المعلومات لمعاقبة مواطنيها. في الوقت الذي يجري ببطء تغيير قوانين حكومية لتتناغم مع السياسات الأمنية الجديدة، كما أن الحكومية الصينية تخصص مساعدات مالية خاصة لشركات صينية متخصصة في هذا مجال تطوير تكنولوجيا المراقبة والتعرف على الوجوه وحفظ البيانات، لكي تُحافظ الصين على تقدمها على دول العالم الأخرى في هذا المجال.

تصل الإجراءات التي تطبقها الحكومة الصينية على الذين خالفوا القوانين العامة إلى درجات غير مسبوقة من التشهير العلني، والذي يقترب من الكابوسية أحياناً، فالذين لا يسددون الديون المستحقة عليهم في مدينة تشنغتشو الصينية، سيجدون أسماءهم في قوائم يتم نشرها في ساحات عامة. وإذا أردت أن تتصل هاتفيا على منزل أو هاتف محمول لشخص يُوجد اسمه في واحدة من قوائم المدينة السوداء، ستسمع تسجيلاً صوتياً وضعته شرطة المدينة، يخبرك أن ممن تتصل عليه خالف القانون، وأنه لم يسدد ما عليه من ديون.

وعلى خلاف ما تثيره هذه الأخبار من قلق في دول غربية عديدة، لا يبدو أن الصينين أنفسهم مشغولين كثيراً بالموضوع، بل أن ما يصل من أخبار تبيّن أن الكثير منهم يعتبر ما يجري في بلده على صعيد ربط الأمن بالتكنولوجيا الحديثة يُعّد جزءاً من المعجزة الصينية الحديثة، لاسيما أن الصين تتفوق في تكنولوجيا المراقبة الأمنية وتكنولوجيا التعرف على الوجوه في الصين على غيرها من الدول الغربية ومنها الولايات المتحدة نفسها. كما لا يبدو أن وجود سبعة ملايين صيني في القوائم الإلكترونية السوداء لسبب أو لآخر، يزعج السواد الأعظم من الصينيين، وهو الأمر الذي يفسره عارفين بالشأن الصيني، بأنه يرجع إلى التقاليد الصينية، والتي تنتظر من الحكومات التي تقود البلد، التخطيط وتحديد ما يناسب العامة، وتنفيذ خططها بعدها دون تردد أو خوف.

تقوم الحكومة بتطبيق إجراءات صارمة فالذين لا يسددون الديون المستحقة عليهم في مدينة تشنغتشو الصينية، سيجدون أسماءهم في قوائم يتم نشرها في ساحات عامة.

الصراع على المعلومات

يُقدر أن الصين تملك حوالي 10 بالمائة من المعلومات التي يتم تجميعها عبر الإنترنت عن مستخدمي الشبكة العنكبوتية العاديين، وأن هذه النسبة ستصل إلى الضعف في عام 2020. ورغم إن الاحتفاظ بمعلومات تعود لناس عاديين دون موافقتهم هو أمر يخالف القانون في الكثير من الدول الغربية، وربما في الصين نفسها، إلا أن هذا لا يبدو أنه يقلق الحكومية الصينية أو يوقفها، حيث تدرك الأجهزة الرسمية في الحكومية الصينية الأهمية الفائقة للمعلومات في عصر التكنولوجيا الذي نعيشه، إذ تقدر مؤسسة “بلومبيرخ” الإعلامية الأمريكية قيمة المعلومات التي جمعتها الصين حتى اليوم ب 19 مليار يورو، وأن هذه القيمة ستصل إلى الضعف في الأربع سنوات القادمة.

تبدو تفصيلية المعلومات التي تحصل عليها الحكومة الصينية مذهلة كثيراً، إذ يقدر أن الأجهزة الأمنية الصينية تعرف مثلاً، أسماء وهويات كل الذين يتوجهون إلى مدينة ألعاب خارج مدينة شانغهاي الصينية، والتي يتم الحصول عليها عبر كاميرات المراقبة ولوحات السيارات، وبطاقات الائتمان التي يتم الدفع فيها للدخول إلى مدينة الألعاب. تتوافر تكنولوجيات مماثلة اليوم وبصيغ مبسطة للصينيين العاديين، إذ يمكن للصيني الذي يعيش في واحدة من المدن الكبرى في الصين، أن يحصل على معلومات مفصلة تخص الشركة التي يريد التعاون معها، أو المطعم الذي ينوي تناول وجبة أكل فيه، ومنها معلومات عن سجل المطعم أو الشركة مع السلطة في البلد، لتختلف طبيعة هذه المعلومات عن نظام التقييم الذي توفره مواقع إلكترونية أو برامج تطبيقية في الدول الغربية، والتي تنقل وجهات نظر مستخدمي أمكنة عامة عن جودة منتجات وخدمات هذه الأخيرة.

والواقع أن الجدال حول شرعية جمع معلومات تعود لمستخدمي الإنترنت ودون أذنهم، واستعمالها بعد ذلك لأغراض متنوعة، هو جدال متواصل منذ سنوات في دوائر متعددة في الدول الغربية، حيث توجه الاتهامات لمواقع شهيرة مثل: الفيسبوك، غوغول، بجمع المعلومات بشكل غير قانوني لمستخدميها. بيد أن ما يقلق فيما يجري في الصين، هو ارتباط أجهزة الدولة الأمنية هناك بالشركات التجارية العملاقة في البلد، حيث يخشى كثيرين أن الصين لا تكتفي بجمع معلومات عن مواطنيها والتي تحصل عليها أحياناً من مواقع لبيع المنتجات الصينية على الإنترنت، بل أنها تجمع منذ سنوات معلومات عن جميع مستخدمي هذه المواقع الصينية من خارج الصين، وهو أمر مقلق كثيراً، ويُخالف كل القوانين التجارية العالمية.

استطاعت شرطية صينية التعرف على حوالي ثلاثين شخصاً كانوا يحملون هويات شخصية مزيفة في يوم واحد فقط من خلال هذه التكنولوجيا.


إعلان