غوغل يدعم الصحافة المهنيّة

محمد موسى

من المبادرات الأخيرة لموقع غوغل، مشروع جديد يحمل عنوان "مبادرة غوغل للأخبار"، ويهدف لبناء جدار دفع إلكتروني، لمساعدة الصحف ومواقع الأخبار الملتزمة بمعايير المهنية، من بيع حقوق قراءة مقالاتها عبر دفع مبالغ لغوغل.

على خلاف موقع الفيسبوك الذي يَغرقَ اليوم في الفضائح والأزمات، وتوجه له اتهامات خطيرة للغاية، منها الاستهانة بخصوصية بيانات مستخدميه والتلاعب بها، يواصل موقع البحث المعروف غوغل مبادراته لتكريس تقاليد مهنية على شبكة الإنترنت، وفتح الأخيرة على مديات واسعة جديدة، حيث يستثمر غوغل مئات الملايين من الدولارات سنوياً في مشاريع تتوخى تعزيز قوة الشبكة العنكبوتية كمصدر مهم وموثوق به للمعلومات. صحيح أن موقع البحث الأشهر في العالم ينتظر أن تعود إليه الأموال التي يصرفها، عبر استثمارات طويلة الأجل، بيد أن الفائدة والأثر العام الذي تتركه مشاريع ومبادرات غوغل العديدة، لها أهمية عظمى في تصويب مسّار الإنترنت، وتجنب انزلاقها في الفوضى والعشوائية والهوس المرضي بجني الأموال.

من المبادرات الأخيرة لموقع غوغل، مشروع جديد يحمل عنوان “مبادرة غوغل للأخبار” والذي كلف الموقع 300 مليون دولار أمريكي، ويهدف لبناء جدار دفع إلكتروني سهل الاستخدام، لمساعدة الصحف ومواقع الأخبار الملتزمة بمعايير المهنية، من بيع حقوق قراءة مقالاتها عبر دفع مبالغ لغوغل، والذي يدفع بدوره نسب من هذه الأموال لهذه الصحف ومواقع الأخبار الإلكترونية. وسيكون بالمستطاع وبواسطة المشروع الجديد، الاشتراك بجدار الدفع الإلكتروني لغوغل، وبعدها قراءة عدد من المقالات المنشورة على جميع الصحف المشتركة في هذه الخدمة. ودون الحاجة إلى اشتراكات منفصلة في الصحف وكما يحدث اليوم.

ليس من المعروف المبالغ التي سوف يشترطها غوغل على الصحف والمواقع التي تشترك فيه، لكن المبادرة تندرج ضمن خطط متنوعة لغوغل لدعم الصحف العريقة بوجه موجة الأخبار الكاذبة التي تنطلق وتجد شعبية جارفة على مواقع التواصل الاجتماعي، لذلك يمكن قراءة خطط غوغل لدعم الصحافة الجادة، بأنها محاولة للتقليل من شعبية مواقع التواصل الاجتماعي، بخاصة أن غوغل نفسه، فشل في تقديم بديل لهذه المواقع، إذ لم ينجح موقعه للتواصل الاجتماعي (غوغل بلاس) في الاقتراب من منافسة مواقع مثل: الفيسبوك، توتير، انستغرام.

مبادرة"غوغل" تندرج ضمن خطط متنوعة لدعم الصحف العريقة بوجه موجة الأخبار الكاذبة التي تنطلق وتجد شعبية جارفة على مواقع التواصل الاجتماعي.

ومن الخطوات الأخرى التي ينتظر أن ينفذها غوغل قريباً، لجهة دعم الصحافة الجادة، هو ما أعلن عنه أخيراً، بأنه سيظهر أولاً روابط من مواقع الصحف الجادة في بحثه، بحيث أن الباحث في غوغل عن خبر جديد عما يجري في منطقة الغوطة القريبة من العاصمة السورية دمشق، سيظهر له في الصفحة الأولى من بحثه، روابط لمقالات من صحف معروفة مثل النيويورك تايمز الأمريكية، أو الغارديان البريطانية، وعدد آخر من الصحف الأوروبية. بينما ستدفع إلى الخلفية روابط أخبار مواقع الإنترنت غير الحيادية أو الموثوقة، أو التي تتوخى الإثارة على حساب الحقيقة.

وتتضمن مبادرة غوغل للأخبار، تفاصيل تقنية عديدة، إذ سترتبط الصحف التي تشترك فيه ببرنامج طوره غوغل، سيجمع معلومات عن سلوك المتصفحين لهذه الصحف، وهو الأمر الذي سيساعد الأخيرة في تغيير سياساتها، سواء على صعيد التحرير، أو على صعيد تصميم وتبويب الموقع لجذب والإبقاء على اهتمام المتصفحين لها. كما توفر المبادرة الصحف تقنية “VPN” (شبكة خاصة افتراضية) طورها غوغل، لكي تستطيع هذه الصحف المحافظة على سرية بياناتها، وتحصينها من الاختراقات. وفي أمريكا، سيذهب جزء من أموال غوغل الخاصة بدعم الصحافة الجادة، لمبادرة لتعريف الشباب هناك بتفاصيل عن الصحافة المهنية، وتبيان مخاطر ظاهرة الأخبار الكاذبة.

على الجانب المالي، ينتظر غوغل أن تساعد خطواته في دعم الصحافة الجادة، هذه الأخيرة على حصد مزيد من الشعبية، ويبقيها كمنتجة للأخبار، لكي تتصدى وتنافس مواقع الأخبار الوهمية، وبالتالي التقليل من الصعود المتواصل لمواقع التواصل الاجتماعي كمنصة لعرض الأخبار ذات الطابع الفضائحي أو المبالغ فيها.

تعزيز مكانة الصحافة الجادة، سيعود لغوغل بفوائد مالية كبيرة، فالأموال التي يجنيها موقع البحث من الإعلانات التجارية التي ينشرها على مواقع الصحف العملاقة الإلكترونية يصل إلى أرقام كبيرة للغاية، فحسب غوغل نفسه، دفع موقع البحث في عام 2017، مبلغ 12.6 مليار دولار إلى صحف ومواقع إخبارية غربية، مقابل وضع إعلانات لأطراف ثالثة على مواقع هذه المؤسسات الإخبارية على شبكة الإنترنت. في حين وصل العائد الإعلاني الإجمالي لغوغل في عام 2017 إلى 110 مليار دولار. وهي الإعلانات التي يضعها غوغل على مواقع إنترنت شعبية، وأيضاً على مواقعه الخاصة المختلفة، ومنها موقع “اليوتيوب” للفيديو.

ينتظر غوغل أن تساعد خطواته في دعم الصحافة الجادة، على حصد مزيد من الشعبية، ويبقيها كمنتجة للأخبار، لكي تتصدى وتنافس مواقع الأخبار الوهمية.

جدار الدفع

مَرَّ جدار الدفع، الذي تضعه العديد من الصحف الغربية مقابل قراءة مقالاتها، بعدة مراحل في العقدين الأخيرين، إذ استسلمت الصحف في بداية حقبة الإنترنت لأغراء الشبكة، ووضعت كل محتوها مجاناً للراغبين (ماعدا حالات نادرة قليلة)، قبل أن تعود وتعدل سياساتها على مهل في السنوات اللاحقة، ومع تواصل نضوج شبكة الانترنت، وسلوك المستخدمين لها، وبعد أن تبين أن هذه الصحف تقامر بوجودها إذا واصلت توفير محتواها مجاناً، لانعكاس هذا السلبي على ما تبيعه من نسخ ورقية.

بعد البداية المرتبكة لعلاقة الانترنت بالصحافة الجادة، بدأت الأخيرة بتغيير استراتيجياتها، فبدأ بعضها باشتراط اشتراكات شهرية مقابل قراءة أية مادة من مواقعها الإلكترونية، في حين يسمح بعضها الآخر بقراءة عدد محدود من مقالاتها المنشورة كل يوم مجاناً، على أن تفرض مبلغاً مالياً مقابل قراءة مقالات إضافية، مراهنة عن طريق هذه السياسة على جودة ما تقدمه، وبأنه كفيل بجذب القارئ الشغوف لدفع مبالغ مالية مقابل قراءة محتوى ثري وعميق. في حين لايزال بعض الصحف الغربية الكبيرة متمسكة بالنموذج الاقتصادي الذي يقوم على الإعلانات التجارية التي تنشر على مواقعها، لذلك تراها توفر كل محتواها مجاناً على الإنترنت، على أمل أن يجذب عدد المتصفحين الضخم لمواقعها المعلنين لوضع إعلاناتهم هناك.

واللافت أن العامين الأخيرين – وربما بسبب الظروف السياسية المضطربة في العالم- قد شهدا تصاعداً كبيراً للغاية في عدد المشتركين في خدمات صحف غربية على الإنترنت، حيث تشكل العوائد التي تحصل عليها صحيفة النيويورك تايمز الأمريكية من الاشتراكات الشهرية على موقعها الالكتروني حوالي ستين بالمائة من الإجمالي العام لمداخيل الصحيفة العريقة، في حين رفعت سياسة جريدة الواشنطن بوست الأمريكية الذكية عدد المشتركين في خدماتها الإلكترونية إلى الضعف في العشرة شهور الماضية.

ولعل النجاحات الكبيرة للصحف التقليدية على شبكة الإنترنت، وبعد سنوات من الحيرة والتخبط في التعامل مع هذه الشبكة، يعكس أيضاً تغييرات مهمة في سلوك المستخدم لها اليوم، والذي لا يمانع في دفع مبالغ إضافية للحصول على خدمات إخبارية أو ترفيهية مرضيّة. إذ لا يمكن التغاضي عن دور شركات مثل “نتفليكس” (لبيع الترفيه الصوري عبر الإنترنت مقابل اشتراكات شهرية)، أو “سبوتيفاي” (بيع حقوق الاستماع لملايين الأغنيات والقطع الموسيقية مقابل اشتراكات شهرية أيضاً)، التي تحولت إلى مفردة بديهية في الكثير من المجتمعات الغربية، وغيرت من سلوك المستخدم العادي للإنترنت، وفتحت الأخيرة على آفاق اقتصادية.

العامين الأخيرين و بسبب الظروف السياسية المضطربة في العالم، شهدا تصاعداً كبيراً للغاية في عدد المشتركين في خدمات صحف غربية على الإنترنت.


إعلان