الفيلم الوثائقي.. بين التوثيق والاهتمام بالبعد الجمالي
ندى الأزهري
“حلمت بزملائي في العمل، كانوا كأنهم أموات أحياء. حلمت أن مديري يحدق إليّ بعيون بيضاء مخيفة يعاودني نفس الحلم لأيام متتابعة. حلمت بمن يفرغ دماغي من أعلى رأسي بملعقة طويلة الساق! تدقّ نغمة “بيب، بيب بييييييب” ( الصوت الذي يحدث حين تمرير المشتريات على الصندوق) رأسي في أحلامي بصوت يماثل هذا الذي يحدث حين مرور الأغراض على الصندوق بمعدل ثلاثين غرضاً في الدقيقة!”…
هل هي أحلام أم كوابيس؟ ما الذي يبقى من “أحلام” في مجتمع تسيطر عليه الرأسمالية؟ أحلام أم رؤى قاتلة! أو لعلها “وحوش غير مرئية تقضم ليلا ونهارا حريتنا”؟
اثنا عشر شخصًا في “أحلام في ظل الرأسمالية” فيلم البلجيكية صوفي برونو، يروون كيف يتدخل عملهم في نومهم وكيف تدعو أجواءه القامِعة نفسها إلى المكان الأكثر خصوصية لدى الإنسان: غرفة نومه، بل نومه ذاته. إنه غزو الرأسمالية للأحلام، الرأسمالية حيث عالم الشغل يصبح أكثر فأكثر مجنونا ولا يبدو أن شيئا يستطيع إيقافه.
كلنا يعرف ويلمس تأثير العمل على الجسد، إنما ما الذي يتركه من أثر في اللاوعي؟ هذا ما سعى الفيلم لكشفه متغلغلا ضمن أحلام مروية وغير وردية بالتأكيد لهذا العالم العبثي. يسرد ليالي اثني عشر حالمًا، بعضهم أمام الكاميرا وبعض آخر خلفها، بل أن الوجوه غابت عن معظم المقابلات. أثناء سردهم لأحلامهم تختار المخرجة مناظر تسير على منوال الحلم، مقلقة مثله مزعجة، صورا في الليل والنهار لأبنية شاهقة، لمدينة تحاول النوم، لمكاتب مضاءة تبدو من بعيد خلف واجهات زجاجية، تَفْرُغ من عامليها شيئا فشيئا، أو تستقبلهم قبل بزوغ النهار… مظاهر سكون خادع يخفي وراءه توترا. هذا التعامل مع الضوء والشعور بالعزلة وبالمسافة وهذه الكآبة التي تفرزها الصور والمشاهد تعقبها فترة راحة كتلك التي يشعر بها من يستيقظ من كابوس وإذ به في مكانه المألوف فيتنفس الصعداء. هكذا بين حلم وآخر تعبر مناظر فيها شيء من السكون، مياه نهر أو بحيرة هادئة تتلألأ عليها الأنوار، سيارات تعبر العتمة بأضوائها… ليعود السرد إلى حلم آخر يبدي هذا الأثر المروع الذي يتركه العمل في النفس البشرية حتى بعد التوقف عنه، كهذا المتقاعد الذي حلم بأنه رجع للعمل مع الفريق الذي كان يعمل فيه قبل تقاعده وبأنه تحول إلى شبح غير مرئي، غير موجود حين حان وقت دفع راتبه!
يسمح أسلوب الفيلم بهذا الانتقال المستمر من الليل للنهار ومن الحلم إلى الحقيقة بإدراك رهيف لهذا الهبوط في الجحيم، ويسمح المونتاج السلس بهذا الربط المحكم بين كلمات الأشخاص والصور التي ترفقها المخرجة بترجمة اللاإنسانية. أكثر ما يتجلى هذا في مشهد في شركة كبيرة حين تتنقل الكاميرا إلى المطعم المفترض أنه مكان للاسترخاء والرفقة، تدور بين طاولات المطعم، هناك حيث كل شيء موحد مقلق كأنه سوبر ماركت دون روح صفّ كل شيء فيه بعناية وغطى اللون الأبيض الصافي كل شيء من الدهان إلى النوافذ والطاولات. المطعم يطلّ على حديقة صغيرة، ثمة نباتات زرعت لينعش وجودها المترددين على المكان وإن وضعت خلف الواجهات الزجاجية العريضة الأنيقة، وثمة عاملون يتناولون الطعام موزعون إما مجموعات صغيرة أو أفراد… تعبر الكاميرا كل هذا ببطء كأنها تتنزه بروية، لكنها ترسم بدلا من الإحساس بالبهجة إحساسا بالصمت والعزلة والآلية…
استوحت المخرجة الفيلم من كتاب “الحلم تحت الرايخ الثالث”، إذ كانت قراءته الشرارة الأولى للتفكير بهذا العمل كما صرحت في حديث لنشرة المهرجان. الكتاب عن برلين الثلاثينات حيث جمعت كاتبته أحلام المحيطين بها وفي نيتها الشهادة على نظام سياسي والكشف إلى أي درجة كان النظام النازي يشتغل على النفسيات. من هنا جاءت لصوفي برونو فكرة تطبيق هذا على عالمنا المعاصر لمعرفة ما الذي ترويه الأحلام عن العمل في عصرنا؟ وجاء الجواب في أسلوب بسيط. حالمون وحالمات يشهدون ويحكون عن أحلامهم وبالأحرى كوابيسهم التي يجمعها شيء واحد وهي أنها كلها تتم في أجواء العمل حيث المعاناة هي في كل المجالات. عملت المخرجة على اللاوعي والأدق على عالم الأحلام وأرادت أن تعطي للأحلام أبعاد أنتروبولوجية من خلال الاهتمام بمفهوم الحلم السياسي. فحالمو فيلمها – كما تقول- “هم أنفسهم ربطوا بين أحلامهم وبين سياقها الاجتماعي الذي انبثقت عنه”. ولهذا فإن الحلم هو ما يجعل اللامرئي مرئيا كما لو كانت سينما داخلية”. وتقول أنّ فيلمها “يُسجّلُ بكل تواضع في معناه الأول: الحلم رسالة يجب الاستماع إليها!
جماليات باردة وأمكنة موحشة ووحشية صادمة وأشخاص في مساحات أكبر منهم، في فيلم حصد جائزة مهمة في مهرجان “سينما الواقع” الباريسي مؤخرا.
” حبٌّ بريّ”
فيلم آخر وثائقي يستحق الإشارة إليه عرض في مهرجان “سينما الواقع” في باريس في مسابقة العمل الأول. ماذا سيكون لكارثة بيئية إن حصلت من أثر على المزروعات؟ هل ستختفي تماما من على سطح الأرض؟
لحسن الحظ ثمة من يفكر بالأرض والطبيعة والحفاظ على ما يمكنه إنقاذ البشرية يوما ما!
“حبّ بري” فيلم الفلسطينية جمانة مناع يعرفنا بما نجهله أو بما لدينا فكرة غامضة عنه. فيلم ممتع ومفيد ولا يخلو رغم عمله على التوثيق من ناحية جمالية. كان الحافز لإنجاز الفيلم حدثٌ أثاره الإعلام عام 2012 حين قرر المركز الدولي للبحوث الزراع��ة في المناطق الجافة “ايكاردا”، أن يهجر حلب ويستقر في لبنان بسبب الحرب في سوريا.
كان هذا المركز يحتفظ بمخزن، أو بنك كما يطلقون عليه، للحبوب في حلب يصل عدد العينات فيه إلى 140 ألف عينة! خشيته من ضياع هذه الثروة التي لا تقدر بثمن، دعته لاتخاذ القرار بفتح بنك جديد في البقاع اللبناني ومضاعفة عدد هذه الحبوب المحفوظة وحفظ نسخة عنها في بنك في جزيرة نرويجية لإعادة إنتاجها.
كانت تلك نقطة البداية للمخرجة، أي رسم العلاقة بين “ايكاردا” وتاريخ الثورة الخضراء التي قننت الزراعة، لكنها لم تكتف بها بل تحولت معها نحو أمور أخرى في الفيلم. “حبّ بري” يلتقط في الدرجة الأولى بكل سلاسة مفاصل هذه المبادرة وإجراءاتها في سهل البقاع بين افتتاح المركز وانشغالاته، لكنه في نفس الوقت يتابع يوميات العاملات الزراعيات الشابات ويربط عبر المونتاج بذكاء ورهافة بين هذه المبادرة الضخمة وبين الناس العاملين فيها. تابعت مناع هؤلاء خلال سنة وارتبطت معهم بأواصر متينة سمحت لهم بالحديث معها بكل أريحية والظهور بشكل طبيعي خلال أداء أعمالهم وأثناء الحديث عن انشغالاتهم، من السائق المكلف بنقل الحبوب إلى المطار، إلى المهندسة التي تروي من مختبرها بتفصيل غير ممل رغم تقنيته كيفية الحصول على بذرة” نقية”، مرورا بمالكي أراضٍ لبنانيين يشتكون عدم حماية الدولة للإنتاج واعتمادها على الاستيراد الأرخص ثمنا وبالتالي قيامهم هم بتحويل الأراضي إلى مخيمات لأنها أربح! وصولا إلى هذا الكاهن النرويجي الذي يزور جزيرة لونغ ييرباين حيث البنك…، كل واحد من هؤلاء مصور بحب في تفاعله مع الطبيعة. ويبدو مصير العاملات السوريات في الحقول اللواتي يعملن في المشروع والمزارع السوري المهجّر في لبنان الذي قرر فتح “بيت للحبوب” للاستعمال المحلي وحفظ الحبوب عبر التبادل بين المزارعين، مرتبطا بهذه البذور التي اقتلعت من مكانها كما اقتلعوا هم، لكنهم على الرغم من ذلك ما زالوا يزرعون الخير من حولهم وينشرون الأمل كما تفعل تلك البذور..
أحاطت مناع مشاهديها بالأجواء وعرفتهم على قضية جديدة تقنية بأسلوب إنساني جذاب، بدون أي دروس توجيهية حول أهمية الحفاظ على البذور والمزروعات، وباهتمام واضح بتأطير الصورة عبر اختيار زوايا تصوير مدروسة.
مطار مركزي
في مطار ألماني، بناه يوما و يا للمفارقة هتلر! يتجمع مهاجرون معظمهم سوريون فهذا المطار هو اليوم مركز إيواء لبعض القادمين الجدد إلى ألمانيا. يقوم السرد في ” مطار مركزي” الذي شارك في المسابقة الرسمية وحققه المخرج البرازيلي من أصل جزائري كريم عينوز، على متابعة يوميات لاجئ سوري شاب هناك. سرد لفرحة اليوم الأول، إنه الوصول والسعادة بتحقيق حلم. ثمّ يرصد المخرج أهم مشاعر وأحداث كل شهر، وتطورات مرحلة اللجوء. كيف تبدأ ذكريات بالتلاشي وحياة جديدة بفرض نفسها، وكيف تعود ذكريات في ارتباط مباشر بيوميات اللاجئ، مثلا فترة أعياد الميلاد تذكر هذا الشاب بالعيد في سوريا، وكيف هو لعب وفرح فيما هنا في هذا المكان الغريب لا شيء! فقط احتفالات الألعاب النارية التي تذكره بالحرب. لا صورًا بصرية بل فقط سردية، الخيال هناك والجسد هنا.
كما لا نساء في الفيلم إلا في مشهدين أو ثلاث، فهل لم يردن؟ يظهر هذا في مشهد حين تخرج إحداهن من المربع البلاستيكي المخصص لكل عائلة في المطار، وما إن ترى الكاميرا حتى ترتد مسرعة إلى الداخل.
الفيلم بارد كهذا المكان وهذه المشاعر، لا يدلي إلا بالقليل عن حياة البطل الرئيس حين عقد المقارنات بين العادات في بلده وتلك في بلد اللجوء. لا يُذكر سبب لقدومه، فلم بقيت كل عائلته في سوريا وهو هنا؟ هذا هام في الفيلم الوثائقي طالما هو نوع من التوثيق لحياة هؤلاء، أسئلة عدة من هذا النوع لا يسألها المخرج الذي يهتم كثيرا بالبعد الجمالي للفيلم، هذا ممتع للبصيرة ولكن… يبقى المشاهد على عطشه ولا يحس تماما بتقدم الفيلم ولا بتطور ما يحصل للشخصية بعد سنة من لجوئها.
أفلام ثلاثة يبرز كل منها بأسلوبه الخاص توجها جديدا للفيلم الوثائقي الذي كان لغاية اليوم يوجه جلّ اهتمامه لناحية توثيق حدث أو شخصية دون الاهتمام حقا بالبعد الجمالي للفيلم.