سيدة التسلية.. بدايات السينما في مصر

ياسر ثابت

ظهرت السينما في مصر مع بزوغها في العالم ولم تكن البدايات ببعيدة، فقد جاء العرض السينمائي الأول في مدينة الإسكندرية بتاريخ 5 نوفمبر 1896 بفارق أقل من عامين على العرض الأول في باريس في ديسمبر 1895.

تلك الصور الساحرة، خلبت عقول الجمهور في وقت مبكر، حتى أصبحت سيدة المتعة والتسلية في المحروسة.

نشأة فن السينما في مصر مع بزوغها في العالم ولم تكن البدايات ببعيدة، فقد جاء العرض السينمائي الأول في مدينة الإسكندرية بتاريخ 5 نوفمبر 1896 بفارق أقل من عامين على العرض الأول في باريس في ديسمبر 1895، حيث تم عرض شرائط الأخوة «لوميير» في بورصة طوسون (محطة الرمل حاليًا) وتم عرض نفس الشرائط بالقاهرة في نفس الشهر من نفس العام.

والمُلاحظ أن نشأة السينما في العالم كانت وثائقية ولم يختلف الوضع في مصر عنه في العالم. والسينما الوثائقية عبارة عن مشاهد تم تصويرها بالتقنية المتحركة للصور ولكن من دون سياق روائي، بل عبارة عن تصوير لبعض المشاهد المرتبة ذات الصلة بموضوع معين؛ كتصوير أحد المظاهر الاجتماعية أو مشهد طبيعي أو التصوير الإخباري.

لذلك نجد مثلًا بعثة لوميير الأولى في 10 مارس 1897 قامت بتصوير عدة أفلام من مظاهر الحياة اليومية في الإسكندرية والقاهرة، فكانت 35 فيلمـًا منها ركوب الباخرة، وصول القطار، تشريف الخديو وحاشيته لحفل الموكب وغيرها من مظاهر وصور الحياة اليومية. ولم تختلف عنها بعثة لوميير الثانية في عام 1906 التي رصدت صورًا للأماكن الطبيعية القاهرة والأقصر وأسوان.

ويمكن القول بأن البداية الحقيقية للولوج في المجال السينمائي كانت عام 1907، أي بعد عام من بعثة لوميير الثانية وكانت من خلال «عزيز بندرلي» و«امبرتو ملافاس»، حيث نجحا في خوض أول تجربة مصرية في التصوير والإخراج والتحميض والطباعة بأموال مصرية، كما تم العرض داخل مصر، وتمثلت هذه التجربة في الفيلم الإخباري «زيارة جناب الباب العالي للمعهد العلمي في مسجد سيدي أبو العباس»، وتم الإنتاج بمباركة من الخديو عباس حلمي الثاني حاكم مصر آئنذاك، واستمر الأمر لاستحسانه للفكرة.

شهدت القاهرة اعتبارًا من العام 1906 عروض الصور المتحركة لأول مرة، وذلك في المقاهي الفاخرة في وسط المدينة. كان هناك مكانان اشتهرا بتقديم أمسيات عروض الصور المتحركة، وهما: مطعم (رستوران) “سانتي”، ومقهى “الشانزليزيه” في منطقة الأزبكية. وفي نهاية عام 1906 تأسست داران للسينما مخصصتان لهذا الغرض في الإسكندرية (سينمافون عزيز ودرويش) ودار أخرى في القاهرة (سينماتوغراف اكسلسيور). وفي ديسمبر 1907 افتتحت أول دار سينما (سينماتوغراف ايربانورا) في العاصمة الإقليمية المنصورة. ووصلت عروض الصور المتحركة إلى صعيد مصر (على سبيل المثال مدينة سوهاج) في عام 1908.

 ولعددٍ من السنوات كوَّنت عروض الصور المتحركة جزءًا مكملًا لما كان يُعرف بمسرح المنوعات، الذي كان برنامجه يحتوي على التزلج والموسيقى والرقص والمسرحيات القصيرة. كانت الأماكن التي تقصدها الطبقة العليا، مثل فندق “سان استيفانو” في الإسكندرية و”البتي تريانون” في شارع سليمان باشا في القاهرة و”هليوبوليس هاوس” في هليوبوليس، مشهورة بتقديم هذه البرامج في عامي 1909 و1910.

كان هذان العامان نقطة تحول في تطوير دور السينما كأماكن لتزجية وقت الفراغ؛ لأنهما شهدتا تأسيس دور سينما جديدة في أماكن أبعد وأكثر شعبية مثل: “سينماتوغراف كولومبيا” في حي الظاهر (1909)، و”سينماتوغراف رويال” (1909) و”جراند سينماتوغراف” (1910) في حي شبرا، وسينما “الكلوب المصري” (1910) في حي الحسين.

إلا أنه بدأ يظهر نوع من التمايز بين دور السينما الدرجة الأولى في وسط المدينة (في الأزبكية وعماد الدين) التي كان معظم روادها من الطبقة العليا، وبين دور السينما من الدرجة الثانية في أحياء الطبقة الوسطى والأحياء الشعبية التي كان يرتادها الناس من الطبقة الوسطى ومن ذوي الخلفيات الاجتماعية الأكثر تواضعـًا.

كانت أسعار التذاكر في دور سينما الدرجة الأولى في عام 1908 ونحوها كالتالي: لوج (40 قرشـًا للفرد)، فوتيل (7 قروش)، صالة للكبار (4 قروش)، صالة للصغار (قرشان).

تضاعف عدد دور السينما في القاهرة والإسكندرية ومدن الأقاليم بسرعة في الفترة من 1917 إلى 1927، ففي عامي 1917 و1918 وحدهما تأسست أربع دور سينما فخمة جديدة في شارع عماد الدين: “سينما لندن” (1917)، و”سينماتوغراف أوبليسك” (1917)، و”سينما بيكاديللي” (1918)، و”سينماتوغراف كوليزيوم” (1918).

كانت سنة 1927 سنة ذروة أخرى في إنشاء دور السينما في القاهرة ومدن الأقاليم؛ فافتتح في القاهرة أربع دور جديدة: “نيو جاردن” (في شارع عماد الدين)، وسينما “جروبي” (في شارع سليمان باشا)، و”جوزي بالاس” و”جومون بالاس”. وفي مدن الأقاليم فتح نحو دار سينما جديدة أبوابها للجمهور: سينما “باتيناج” (في طنطا)، وسينما “عدن” (في المنصورة)، وسينما “أبولون” (في ميت غمر)، وسينما “بالاس” (في المنيا)، وفي سنة 1929 افتتحت دور سينما جديدة أيضـًا في السويس وأسيوط ودسوق.

ويعد تقديم ترجمة عربية على الأفلام الأجنبية في عام 1912 حدثـًا مهمـًا؛ إذ إنه وسَّع بشكل كبير جمهور المشاهدين للأفلام التي كانت حتى ذلك الحين مقصورة على الأفلام الأجنبية، واستدعى هذا بناء دور سينما كبيرة تستوعب الأعداد الأكبر من المشاهدين في الأحياء الشعبية مثل دار”اجبشيان سينما هاوس” (1912) في شارع إبراهيم في الإسكندرية والتي كانت تتسع لـ1200 مشاهد، وسينما “كولوزيوم” (1918) في شارع بولاق بالقاهرة التي كان يمكن أن تستوعب 200 مشاهد.

في عام 1916 نشرت الصحف المصرية تقارير ومقالات تدعو إلى فرض نوع من الرقابة على برامج “الصور المتحركة” لحذف المشاهد “غير اللائقة” المتصلة بالجريمة والرذيلة. وكانت السينما في مراحلها الأولى محصورة في الأفلام الوثائقية (التسجيلية) القصيرة، ولكن ما لبثت الأفلام الأطول القائمة على أساس الروايات الكلاسيكية أن عُرِضت في دور السينما المصرية، ففي سنة 1910 عرضت أفلام «البؤساء» عن رواية فكتور هوغو، و«كليوباترا» و«كوفاديس» و”غادة الكاميليا».

بدأ الجيل الأول من الأفلام الصامتة المصرية في عام 1923 بفيلم «في توت عنخ آمون» ووصل إلى ذروته بفيلم «زينب» عام 1930 المأخوذ عن رواية لمحمد حسين هيكل ومن إنتاج يوسف وهبي وإخراج محمد كرَّيم. من أبرز محطات المرحلة الأولى في سينما اليوم وهي السينما الروائية الطويلة، ظهر فيلما «قبلة في الصحراء» في مايو 1927، تلاه في نوفمبر من نفس العام فيلم  «ليلى» إخراج «استيفان روستي». 

وفيما يلي مقارنة بين أسعار التذاكر المعلنة بمناسبة افتتاح دار “سينماتوغراف أولمبيا الكبيرة” في الإسكندرية في عام 1931 وأسعار تذاكر مسارح الدرجة الأولى.

بنوار (30 قرشـًا للسينما و75 للمسرح)، لوج (25 قرشـًا للسينما و60 للمسرح)، فوتيل (5 قروش للسينما و12 للمسرح)، مخصوص (4 قروش للسينما و5 للمسرح)، الدرجة الأولى (3 قروش للسينما وغير موجود في المسرح).

ومن الواضح أن تذاكر السينما حتى في الدور الكبيرة وذات الموقع الحسن كانت أرخص كثيرًا من تذاكر المسرح والأوبرا، مما حد نسبيـًا من إقبال عامة الناس عليهما.

مع تراجع النشاط المسرحي في ثلاثينيات القرن العشرين، شهدت مصر العصر الذهبي للصالات (التي كانت نوادي ليلية تقدم عروض منوعات)، وفي عام 1931 زاد عدد الصالات في وسط الصالات في وسط المدينة زيادة كبيرة، فبالإضافة إلى صالة ماري منصور وببا افتتحت في 15 أكتوبر سنة 1931 صالتان جديدتان: صالة منيرة المهدية، وصالة بديعة. وفي 1 ديسمبر سنة 1931 افتتحت صالة أخرى في شارع عماد الدين تديرها إنصاف ورتيبة رشدي (أختا فاطمة رشدي). وكانت هناك صالة مشهورة أخرى تملكها وتديرها سعاد محاسن في شارع المهدي المتفرع من شارع إبراهيم باشا غير بعيد من شارع عماد الدين الشهير.

ويتضح التحول في التركيز من المسرح إلى الصالة في أمثلة ماري منصور، التي كانت في العشرينيات ممثلة في مسرح “رمسيس”، وإنصاف ورتيبة رشدي اللتين كانتا ممثلتين على مسرح “الماجستيك”. كذلك كانت هناك مغنية تحولت إلى ممثلة هي فردوس حسن، التي بدأت أولًا في فرقة “جورج أبيض”، ثم في فرقة “رمسيس”، لتتحول بعد ذلك بصورة مفاجئة إلى الرقص الشرقي.

حاولت صالات عماد الدين ووسط المدينة أن تجتذب إليها زبائن من الطبقة العليا “الطبقة الراقية” بخلاف كازينوهات روض الفرج (مثل كازينو “سان استيفانو” وكازينو “ليلاس”) التي كانت تقدم خدماتها أكثر إلى الرواد من الطبقتين الوسطى والدنيا، وكثير من المجموعات والممثلين والممثلات الذين بدأوا حياتهم العملية في منطقة روض الفرج مثل مجموعة علي الكسار وفاطمة رشدي وعزيز عيد، ما لبثوا أن انتقلوا إلى منطقة عماد الدين بوسط المدينة، ليقدموا عروضهم إلى جمهور أضيق نطاقـًا من مشاهدي الطبقة العليا.

ولو تفحصنا مليـًا إعلانات الدعاية لأنشطة الصالات لتبين لنا إلى أي حد كانوا يلحون على أن زبائنهم هم من “الطبقة الراقية”. كان النشاط الذي تزاوله الصالات مربحـًا تمامـًا، إذ كانت برامجها تحتوي عادةً على مجموعة متنوعة من ألوان التسلية الخفيفة، ابرزها المنولوجات، والاسكتشات، والرقص الشرقي والغربي، والأوبريتات، والاستعراضات، كما كانت تقدم الأغنيات والفواصل الموسيقية.

ولا يدعو للدهشة في هذا السياق، ومع وجود السينما في بداياتها الأولى، أن تحتل الصفحات الأولى من المجلات أسماء عدد كبير من راقصات الصالات وأخبارهن، وكذا -وإن كان بدرجة أقل- أسماء المغنين والمغنيات وأخبارهم. كان هؤلاء هم “نجوم” الفن في الثلاثينيات. ومع أن برامج التسلية الخفيفة في الصالات كانت جذابة، إذا وضِعت على خلفية ظروف الكساد الاقتصادي في تلك الفترة، فإنها لقيت انتقادات واسعة باعتبارها صورة من الفن الرخيص والمتفسخ إذا قارناها بالفن الرفيع الذي تقدمه المسارح.

وفي هذا الصدد عمدت فرقة “رمسيس” -التي كانت يقودها يوسف وهبي- في يناير عام 1932 إلى إنتاج مسرحية هزلية ساخرة تُلقي فيها الضوء على التأثير السلبي وغير الأخلاقي لأنشطة الصالات. وفي هذا الوقت اجتاحت الصحف المصرية موجة من النقد للصالات، دار معظمها حول الانحلال الخلقي لعروضها، وفي كثير من الأحيان كان هذا النقد جزءًا من “الخطاب الأخلاقي القومي” لتلك الحقبة.، إذ كان الهجوم ينصب بصفة خاصة على فتيات الاستعراض الأجنبيات، وكذلك اللغة الهابطة المستخدمة في الاسكتشات المحلية، والمشاجرات المتكررة التي تقع داخل هذه الصالات، في دلالة على الطبيعة المنحلة وغير الأخلاقية لحياة الليل هناك وفي النوادي الليلية.

جاء أول فيلم مصري ناطق في مارس  1932 وهو فيلم «أولاد الذوات» من بطولة «يوسف وهبي» و«أمينة رزق»، لتدخل السينما المصرية مرحلة جديدة وهي مرحلة السينما الناطقة. جاء تاليًا لأولاد الذوات فيلم «أنشودة الفؤاد»، وهناك بعض الآراء تفيد بأن هذا الفيلم بدأ تصويره قبل «أولاد الذوات»، إلا أن الثاني تم عرضه أولًا، وعُرض بعد شهر واحد من عرض «أولاد الذوات». ولم تختلف الحبكة السينمائية كثيرًا إذ دارت القصة حول شاب يقع في غرام فتاة أجنبية يستتبع ذلك سلسلة من المصائب.

شهدت السينما المصرية في الثلاثينيات تنوعًا مذهلا في الموضوعات على عكس المتوقع لصناعة وليدة فظهرت ألوان فنية متعددة منها التاريخي كفيلم «شجرة الدر» من إخراج «أحمد جلال» وفيلم «ليلى بنت الصحراء» من إخراج «بهيجة حافظ» كما شهدت أيضًا ظهور أفلام الخيال العلمي كما في «عيون ساحرة»، كذلك ظهر اللون الكوميدي في أفلام «علي الكسار».

والأهم من ذلك، أن السينما المصرية في بدايتها تميزت بحضورٍ كثيفٍ للجمهور، ولعل أحد الأسباب المحورية في هذا الشأن الارتباط الأول بالفرق المسرحية ذائعة الصيت كفرقة «الريحاني» و«الكسار» وغيرهما. كذلك شهدت السينما المصرية ظاهرة الفن الغنائي فصار أغلب نجوم الغناء والطرب ذوي الشعبية الكبيرة لدى عموم المصريين فصاروا بالتبعية مرشحين لقيادة دفة السينما الوليدة أمثال محمد عبدالوهاب وأم كلثوم وغيرهما.


إعلان