ثورة نتفليكس في عالم الوثائقيات
محمد موسى
عزز الاحتفاء النقدي الكبير بالسلسلة الوثائقية الجديدة “بلد عنيف عنيف” (Wild Wild Country)، والتي طرحتها شركة نتفليكس على خدمتها الشهر الماضي، من سمعة الشركة الأمريكية كمنتجة ومطورة لنمط أسلوبي جديد من الأعمال الوثائقية، يقوم على مُعالجات مفصلة ومتأنية كثيراً للمواضيع التي تقاربها هذه السلاسل، والتي تحتاج إلى زمن يتجاوز الزمن التقليدي للفيلم أو الحلقة التسجيلية التلفزيونية، حتى وصل عدد حلقات بعض هذه البرامج إلى العشر أحياناً. هذا النوع من المعالجات المطولة، والذي لم يكن شائعا أبداً من قبل، يستأثر اليوم باهتمام الجمهور العريض، وأصبح يرتبط بشركة نتفليكس، التي تجدد وتُجرب على أكثر من صعيد فنيّ، رغم أن نتفليكس ليست الوحيدة اليوم في مجال إنتاج الوثائقيات الطويلة.

بدأت مسيرة نتفليكس مع السلاسل الوثائقية الطويلة في عام 2015، مع سلسلة “صناعة القاتل”، والتي حظيت بنجاح شعبي هائل، دفع الشركة الأمريكية إلى مزيد من الاستثمار في إنتاج السلاسل الوثائقية التي تدور كل واحدة منها حول موضوعة معينة، وتتألف من عدة حلقات، لتتبع الشركة عملها الأول الضخم ببرنامج تسجيلي ثان حمل عنوان: “الحراس” (حظي بنجاح نقدي أقل من العمل السابق، فيما يبقى عدد مشاهدي البرنامج غير معروفة، اذ تمتنع نتفليكس عن الافصاح عن أرقامها). كما يُمكن أن يصنف برنامج نتلفيكس التسجيلي “شرائط الاعتراف”، تحت الوثائقيات الطويلة، على رغم أنّ كل حلقة من حلقاته تستعد تفاصيل جريمة منفصلة معروفة من العقود الأخيرة، بيد أن هذه الحلقات تلتزم بمعالجة وبناء أجواء متشابهة، يُقربها من الوحدة والتجانس البنائي الذي يميز السلاسل الوثائقية الطويلة.
تتشارك برنامج نتفليكس التسجيلية الطويلة: “صناعة قاتل”، “الحراس”، “بلد عنيف عنيف”، بتركيزها على قضية واحدة (غالباً تبدأ بجريمة تتفرع منها أحياناً جرائم صغيرة أو كبيرة)، وعلى شخصيات بعينها. فـ “صناعة قاتل”، يهتم بالملابسات الغريبة التي أحاطت اتهام الأمريكي ستيفن أفيري، الآتي من طبقة اجتماعية بيضاء تعيش على حافة الفقر والجريمة، بجريمة اغتصاب وقتل امرأة من طبقة اجتماعية مرموقة، وهي الجريمة التي سيُبرئ الأمريكي منها وبعد قضائه عدة سنوات في السجن. بيد أن متاعب “أفيري” لن تنتهي مع إطلاق سراحه، اذ أنه وبعد سنوات قليلة فقط، سيُتهم ويُرسل إلى السجن لادانته بجريمة قتل امرأة أخرى. أما “الحراس”، فأنه سيعود إلى جريمة قتل الراهبة كاثي سيسنيك، والتي وقعت عام 1969. في حين يستعيد برنامج “بلد عنيف عنيف” الصدام العنيف بين جماعة روحية إشكاليّة والسلطات الأمريكية قبل خمسة وثلاثين عاماً، مُركزاً على شخصيات اقتربت كثيراً من عوالم العنف والإجرام.

الأمر الآخر الذي تتشارك به برامج نتفليكس الوثائقية الطويلة، أنها تتناول قصصاً وشخصيات من الولايات المتحدة، البلد الذي يوّفر لطبيعته الخاصة والتي تقترب من التطرف والغرائبية أحياناً، الفرص الواسعة لصناع السينما التسجيلية لتضمين أعمالهم بمشاهد وتفاصيل، لا توجد في أمكنة أخرى من العالم، فالولايات المتحدة تسمح – وعلى خلاف دول عدة في العالم – بتصوير جلسات المرافعات القضائية في محاكمها، كما أنّ نظامها يجعل من الممكن أحياناً الحصول على تسجيلات صورية أو صوتية لجلسات تحقيق الشرطة مع متهمين، وبعد انقضاء فترات معينة على زمن حدوثها. هذه المواد الأرشيفية وغيرها تكون غالباً الأساس لبرامج تسجيلية مثيرة.
ولعلّ القصص التي تقدمها هذه البرامج التسجيلية الطويلة لم تكن لتصل لاهتمام المنتجين، لولا كمية المواد الأرشيفية الضخمة التي صورّت عنها، لتعكس البرامج من جانب، هوس الإعلام في الولايات المتحدة بالجرائم ومرتكبيها والمتهمين بها، ومن الجانب الآخر سعة المشهد الإعلامي الأمريكي، وحاجته التي تتوقف إلى مواد صورية ليعرضها على مئات القنوات المحلية في الولايات المتحدة. وكأنّ هذا وحده لم يكن كافياً، فتحت ثورة الاتصالات التي يشهدها العالم منذ عقدين، الأبواب للجميع لتسجيل وحفظ ما يجري حولهم، لتشكّل المواد غير المحترفة التي يُصورّها هواة اليوم وعبر الأجهزة الإلكترونية الصغيرة التي يحملوها دائماً معهم، مصدراً مُهماً ولا يستهان به من كمية المواد الأرشيفية التي تستخدم في الأفلام والبرامج التسجيلية الطويلة.

حرب في مدينة أمريكية صغيرة
يعود البرنامج التسجيلي الجديد “بلد عنيف عنيف”، والذي أخرجه الأخوان ماكلين وتشامبان واي، إلى أحداث غطاها الزمن بطبقة من النسيان. حيث يستعيد الصعود الكبير لجماعة راجنيشبورام الروحية، والتي أسسها المتصوف الهندي اوشو. يركز البرنامج على الفترة التي انتقل فيها الزعيم الروحي مع جماعته إلى الولايات المتحدة في بداية عقد الثمانينات من القرن الماضي، حيث سيتخذون من مدينة أوريغون الصغيرة والتي لا يتعدى سكانها حينها الأربعين شخصاً، مقراً لهم. ما حدث بعد ذلك سيكون أشبه بحرب طالت لثلاث سنوات، بين السكان الأصليين في البلدة، وجماعة راجنيشبورام، ستنتهي بالأخيرة مطرودة بلا رجعة من الولايات المتحدة، وبعض رموز الجماعة في السجون الأمريكية، وبعد إدانتهم بجرائم خطيرة.
يفرد البرنامج في حلقته الاولى اهتماماً بولادة الجماعة الروحية ونشاطها قبل وصولها إلى الولايات المتحدة، بيد أن تركيز البرنامج سيكون على الصراع الشعبي والإعلامي والقضائي بين الجماعة وسكان مدينة أوريغون الأمريكية. وبعد أن قررت الجماعة، التي صارت تتفوق كثيراً بعدد أعضائها على سكان المدينة الأمريكية، الإشتراك في انتخابات بلدية المدينة، والتي فازوا فيها، وكانوا يخططون بعدها للإشتراك في انتخابات الولاية الأمريكية، التي تقع مدينة أوريغون جغرافيا ضمن حدودها.

ينجح البرنامج في الوصول إلى معظم الشخصيات المهمة من ذلك الصراع من التي لازالت على قيد الحياة، ويحقق مقابلات طويلة معها ستتقسم على حلقات البرنامج الست. وستمنح شهادات تلك الشخصيات معلومات ثمينة عمّا كان يجري خلف وفي كواليس الأحداث العامة، التي صورتها كاميرات الإعلام الأمريكي، والجهاز الإعلامي الخاص بالجماعة. والأخير كان واعياً كثيراً بأهمية اللحظة التاريخية التي مثلتها تلك المواجهة، التي شكلت وقتها، ساحة للصراع بين قوى أمريكية محافظة، تتجه إلى القسوة إذا شعرت بخطر ما يهدد مُثلها، وبين جماعة كانت بلا بوصلة أخلاقية واضحة، وانحرفت مبكراً للعنف والقسوة، على رغم القيم الإنسانية التي كانت تنادي بها.
تتشكل السلسلة التسجيلية من الآف الصور الفوتوغرافية والمشاهد الأرشيفية التي صورّتها عشرات المحطات التلفزيونية الأمريكية، كما الجهاز الإعلامي الخاص لجماعة راجنيشبورام. وكذلك أنجزت السلسلة الوثائقية مادتها الصورية الخاصة، والتي تتألف من مشاهد تقترب من الشاعرية للأمكنة التي دارت فيها أحداث تلك السنوات، وبالخصوص في مدينة أوريغون، والحوارات الطويلة مع الشخصيات الفعالة في الجماعة، والذين يتوزعون اليوم على عدة دول حول العالم. ويبرز منهم الهندية المثيرة للجدل “شيلا”، التي أدارت شؤون الجماعة بقبضة من حديد، وكانت مسؤولة عن كثير من الأخطاء حينها، وهربت بعدها مع مجموعة من أتباعها المقربين إلى سويسرا.

يُحقق مخرجا السلسلة عملاً فذاً شديد الإثارة، يرتكز على عمليات بحث موسعة كثيراً، وبناء وتقسيم واعيين للأحداث على الحلقات الست للسلسلة، بحيث كان الإنتقال من حلقة إلى أخرى، لا يسير فقط وفق البناء الزمني التصاعدي، وإنما لتعكس كل حلقة تيمة ما، وتضيف تفاصيل مهمة، لفهم الظاهرة العامة التي شكلتها جماعة راجنيشبورام. في حين بيَّن الصِدام الذي حدث بين هذه الجماعة والنظم الأمريكية القائمة، تهافت الأخيرة. كما كشف الصِدام ذاته، عن القيم الأمريكية المحافظة في جوهرها التي تحرك وتسير النظام والإعلام في الولايات المتحدة، والتي انتصرت في النهاية على مجموعة من المتصوفيين الذين كانوا يرغبون أيضاً بتغيير العالم بافكارهم المُتحررة الغريبة.