“مهرجان قابس للسينما”.. الحاجة للخصوصية!
قيس قاسم
يطرح مكان إقامة “مهرجان قابس للسينما” في مدينة، ساحلية صحراوية بعيدة عن العاصمة التونسية، أسئلة حول دواعي تنظيم فعاليات سينمائية في فضاءات بعيدة عن المركز لا تتوفر فيها وبخاصة في عالمنا العربي بنى تحتية تؤهلها لتنظيم مهرجانات كبيرة. في التجربة المغاربية الكثير ما يكسر القاعدة/ الأحكام التي تقول واحدة منها؛ لا يمكن تنظيم مهرجان سينمائي في بلد ليس فيه صناعة سينمائية، وثانية تؤكد استحالة تحقيق ذلك في المدن الصغيرة، في ظلّ وجود الفوارق الكبيرة في مستوى التطور بين العواصم والمدن الصغيرة، التي غالباً ما تعاني من ضعف في بنيتها التحتية (صالات عرض، مطارات فنادق كبيرة وغيرها) من الأمثلة الكاسرة للقاعدة؛ مهرجان مراكش (قبل إغلاقه، لأسباب لا علاقة لها بالأحكام السابقة)، تطوان، طنجة في المغرب ووهران في الجزائر وآخرها الجونة) والكلام يصحّ مغاربياً أيضاً على قابس بفارق حداثة التجربة (الدورة الحالية الثالثة). ثمّة تعاطف وحماسة محلية تدفع بعض سكانها من محبيّ السينما لخوض مغامرة تنظيم مهرجانات سينمائية فيها، لكنه في الوقت نفسه ثمّة مستلزمات ضرورية في حالة غيابها تُضيَّع الحماسة أحياناً وتُفترها، لهذا تجد نفسها أمام تحدٍ كبير يتمثل في مقاومتها ومدى قدرتها على تجاوز المعوقات والأخطاء وعدم تبريرها بضعف الإمكانات، لأن الممارسة على الأرض في النهاية هي صاحبة الكلمة الحاسمة في تقييم مستوى أيّ مهرجان.
قابس في هذه الحالة أمام رهان كبير، يضعه أمام خيارين؛ إما أن يكون مهرجاناً واعداً يُقام على أرض مدينة بعيدة عن المركز أو أن يكون مصيره النسيان والتجاهل حاله حال الكثير من المهرجانات الشكلية العربية. من حسن حظه أنه ينعقد في زمن انتعاش السينما المغاربية وهذه توفر بسهولة برنامجاً جيداً، يضم أفضل ما عرض خلال العام الذي سبق انعقاد دورته الأخيرة (من 20 لغاية 26 أبريل)، وهي في مجموعها جيدة النوعية خرجت بجوائز مهمة بخاصة التونسية.
لا يدّعي قابس وليس مطلوب منه تأمين عروض دولية أولية في ظلّ وجود مهرجان أيام قرطاج، ما يتيح له الحصول على أفضل المعروض بعد حين. في هذا السياق ثمّة سؤال يطرح نفسه بقوة؛ إذا كان الأمر كذلك فلماذا يختار منظموه فيلم الإيرانية “شيرين نشأت”، “البحث عن أم كلثوم ” للافتتاح؟ سؤال منطقي تُبرر طرحه الأفلام الجيدة والمدرَجة ضمن مسابقاته وتزيده غرابة اختيارهم الفيلم السوري “على حافة الحياة” لتدشين مسابقته الوثائقية، لتميّز شغل مخرجه السوري “ياسر كساب” في نقل تجربته الشخصية على الشاشة بلغة سينمائية مكثفة وبتعابير مقتصدة عمادها كاميرا ديجيتال صغيرة سجلت دواخله وحالته النفسية في تركيا وتأزمه بعد سماعه في مكانه الموحش نبأ مقتل أخيه الصغير بقذيفة طائشة.

وثائقيات إشكالية وتكريم عمر أميرلاي
في الوثائقي الطويل ثمّة ملاحظة لافتة عنوانها؛ زمن إنتاج أفلام مسابقتها الرسمية. بعضها أُنتج حسب ما جاء في الكاتالوغ عام 2016 مثل الجزائري “أطلال” والمصري “نهايات سعيدة” لندى رياض، فيما أدرج فيها الفلسطيني “اصطياد أشباح” المنتج عام 2018، ما يشير الى تجاهل لزمن الانتاج، بررّه منظموه بكون “الدورات السابقة عقدت قبل مهرجانات عريقة كأيام قرطاج والقاهرة ودبي مما جعله أمام عزوف كثير من المخرجين الذين يفضلون أولوية تسجيل أفلامهم فيها على مهرجانهم. لهذا قررت الهيئة المدير ألا يصبح التاريخ الجديد لأنشطتها محاكاة أو استنساخاً لأي مهرجان ولجنة اختيار أفلامه اعتمدت المعايير الجمالية فحسب!”.
من بين الأفلام المشاركة المهمة “كباش ورجال” للجزائري المقيم في سويسرا “كريم صياد” وفيه يذهب لمراقبة المجتمع الجزائري من خلال مشهد “محلي” شديد الخصوصية يتمثل في مسابقات الكباش المقامة في المناطق القروية بخاصة. مشهد يبدو عرضياَ، غير إشكالي لكنّ التمعن في مضامينه يجلي تنقاضات وتصادمات مجتمعية حادّة الفقر وإهمال السلطة لمناطقهم عنوانيّها الأبرزين. شخصياته الرئيسة عفوية منشغلة بمسابقات لا تضيف للمشاركين فيها ربحاً مادياً، غير أنها تمنحهم معنى وجودي هم بحاجة إليه. المراهق “حبيب” ربى كبشه “بوق” وراهن عليه كثيراً وأراد إشراكه في المسابقات قبل ذبحه مع بقية كباش أضحية العيد. معه رجل يعمل في مهن هامشية تدرّ عليه مبالغ بسيطة تكفي لإبقائه وعائلته على قيد الحياة. الشخصيتان مهتمتان بالكباش وسباقاتها، يكرسان وقتاً كبيراً لها في ظلّ غياب شبه كامل لفرص عمل حقيقية أو ألعاب أخرى تسدّ جزءاً من أوقات فراغهم. بذكاء لافت ينقل “صياد” الجو السياسي العام للبلاد عبر تسجيليه مشاهد يكون المذياع حاضراً فيها بقوة. نشرات الأخبار المبثوثة عبرها تحيط المُشاهد بالجو السياسي العام في البلاد، فيما التجربة الشخصية تنقل مقاطع من الحياة الجزائرية المعاصرة، والتي لم يعد الاعتداد بالماضي والثورة التحريرية لهما كبير معنى عند الفقراء والمهمشين. فوز كبش بالنسبة إليهم أكثر مدعاة للاهتمام من الأخبار السياسية، التي لا يعرفون عنها الكثير فيما هي سبباً رئيساً على ما هم عليه. على تلك المفارقة المؤلمة اشتغل “صياد” بتروٍ وعناية شديدتين وعبرها نقل حيوات تتألم بسبب انشغالها باللامعنى. مسابقات الكباش تبطن عنفاً داخلياً يتفجر أحياناً على شكل معارك وتلاسن، يعبران بدورهما عن كمّ الغضب المخزون ضد مؤسسات الدولة بوصفها المسؤولة عن بؤس أوضاعهم، وأيضاً كمّ العنف الأسري المعبر عنه في حرص الصبي “حبيب” على أنقاذ كبشه من الذبح. واحد من المقاطع الملتقطة بانتباه يشير إلى التباس علاقة الجزائري بالتقنيات الحديثة وبشكل خاص التلفون المحمول واستخداماته العجيبة، في ظلّ تراجع مستوى الحياة والخدمات في مناطق شاسعة من البلاد. تسجيل وقت طويل من المكالمات بين المتبارين والمنظمين يعكس إشكالاً حضارياً انتبه إليه صانع الوثائقي وجسده بعانية في سياق منسجم مع مسار فيلمه الرائع.
في حقل الوثائقي أيضاً تضمنت تكريمات الدورة اسم المخرج السوري الراحل عمر أميرلاي وأدرجت في برنامجها عدداً من أفلامه، فيما عبرت كلمة “هالة العبد الله” سبب الاختيار؛ “لأنه حالة فريدة من نوعها. إنه السينمائي الوحيد في المنطقة العربية الذي خصص 40 سنة من حياته للسينما الوثائقية”.

عام الروائي المغاربي
شهد العام الفائت وبداية العام الحالي ظهور أفلام مغاربية مهمة أدرجتها الدورة الثالثة في برنامجها مثل؛ المغربي الرائع “عرق الشتا” لحكيم بلعباس والحاصل على جائزة مهرجان الفيلم المغاربي، و”بنزين” التونسي والجزائري “إلى آخر الزمان” ومن مصر “آخر أيام المدينة” والسويدي “ما حصل في الهيلتون” بطولة اللبناني الأصل فارس فارس وجديد المخرج وليد مطر “شرش” أو “رياح الشمال”. نص سيمائي مكتوب بشكل رائع ومنفذّة فكرته بأسلوب سينمائي رشيق سمح بنقل عالمين؛ تونسي وفرنسي دون لقاء مباشر بينهما. تقاطع قصتين على جانبي المتوسط تحكيان عن عالمين متأثرين ببعضهما، يترك كل واحد منهما أثره على الآخر، دون أن يعرف بالضرورة بعضهما الآخر، كما في قصة عامل مصنع الجلود الفرنسي الذي أُجبر على ترك عمله بعد قرار أصحاب المصنع نقل مصنعهم إلى تونس لرخص الأيدي العاملة فيها. في تونس يخوض أحد عماله تجربة مؤلمة فيه، يقرر إثرها ترك خطيبته والهجرة إلى فرنسا. شغل “مطر” مدهش إدارته رائعة لممثليه وفهمه الجيد للمجتمعين مَكنَه من صنع فيلم حكايته شديدة الحساسية محورها حيوات أفراد يعيشون في مجتمعين كلاهما يعاني من مآزق اقتصادية ومجتمعية متقاربة مع شدة الفوارق الظاهر بينهما. “رياح الشمال” اختيار موفق يناسب روح المهرجان الميّال إلى الجمع بين المحلية والعالمية وإن بقيت الأخيرة فقيرة، بحاجة إلى إثراء وبحث عن أفلام فيها مشتركات إنسانية ومضامين تعبّر عن أواصر علاقة إشكالية بين شمال أفريقيا وبقية العالم، ولهذا فالاكتفاء بتحف سينمائية غربية لا يفيد كثيراً في هذه الحالة، ربما سينتبه إليها منظموّه ويعملون على بذل جهد أكبر لترسيخ خصوصية هو بأمسّ الحاجة إليها.
