“المشاهدة حسب الطلب” تعمق أزمات التليفزيون

محمد موسى

تحولت خدمة المشاهدة حسب الطلب لواحدة من أهم منافسي المشاهدة التليفزيونية التقليدية، بسبب شعبيتها الكبيرة

عندما يتم الحديث عن المنافسين، الأزمات، والتحديات الكبيرة التي تواجه التليفزيون في العالم الغربي في العقد الأخير، والتحولات التي طرأت على طرق مشاهدته، تستحوذ خدمات الترفيه الإلكترونية مثل نتفليكس وأمازون بالحصة الأكبر من الاهتمام، لكونها تحولت لواحدة من أهم منافسي المشاهدة التليفزيونية التقليدية، بسبب شعبيتها الكبيرة، والذي يعكسه عدد المشتركين في هذه الخدمات والذي يصل اليوم إلى مئات الملايين حول العالم، وأيضاً بسبب التقاليد الجديدة التي أدخلتها هذه الخدمات لسوق الترفيه الفني، وبالتحديد في نوعية البرامج التي بدأت هذه الخدمات بإنتاجها خصيصاً لخدماتها، والتي تتميز بمسارات إنتاجية خاصة، وحريات فنيّة وأسلوبية واسعة تتمتع بها هذه البرامج عن كثير من برامج القنوات التليفزيونية التقليدية.

كما تُمثل خدمة “المشاهدة حسب الطلب”، والتي توفرها القنوات التليفزيونية ذاتها وبالاتفاق مع شركات الكيبل في الدول الغربية، تحدياً وخطراً متواصلاً مختلفاً بطبيعته على تقاليد المشاهدة الحيّة لبرامج التليفزيون، حيث تمنح هذه الخدمة الإمكانية للمشتركين، بمشاهدة البرامج التي عرضت مُسبقا على شاشات التليفزيون في أوقات لاحقة، الأمر الذي يشجع عدد كبير من المشتركين بالابتعاد أكثر عن المشاهدة التقليدية الحيّة للتلفزيون، بما تمثله هذه الأخيرة من أهمية كبيرة في سوق الإعلانات التجارية على شاشات التليفزيون، حيث يختار المعلن التجاري بالعادة أن يعرض إعلانه ضمن البرمجة التقليدية للقنوات التليفزيونية.

تتضمن خدمة “مشاهدة حسب الطلب” إمكانيتين رئيستين تحظيان اليوم بشعبية كبيرة: الأولى هي إمكانية مشاهدة البرامج التليفزيونية عبر المكتبة الإلكترونية التي توفرها شركات الكيبل، حيث يمكن البحث في هذه المكتبة عن البرامج التي عُرضت في الأيام الماضية (يختلف عدد الأيام السابقة المتوافرة برامجها على الخدمة حسب سياسة الشركة المجهزة)، واختيار برنامج ما ومشاهدته. أما الإمكانية الأخرى، فهي تسجيل برامج تلفزيونية ما – وكما كان الحال مع أجهزة الفيديو في الماضي – على الأجهزة الإلكترونية للمشتركين، وبعدها يُمكن مشاهدتها في أوقات لاحقة.

تملك كل من الإمكانيتين السابقتين على خصائص وميزات خاصة، فبينما يُمكن عبر المكتبة التليفزيونية متابعة ما فات متابعته من البرامج التليفزيونية التي عرضتها القنوات التليفزيونية، الا أن القنوات وشركات الكيبل تحدد هذه الإمكانية، حيث يمكن العودة في أغلب خدمات شركات الكيبل إلى برامج أسبوع واحد فقط. فلا يُمكن مثلاً عبر هذه الامكانية مشاهدة برنامج ما عرض قبل أسبوعين. أما إمكانية تسجيل البرامج على الأجهزة الالكترونية، فأن محدودية المساحة المتوافرة لتسجيل المواد التليفزيونية على الأجهزة الإلكترونية التي توفرها شركات الكيبل، تشكل نقطة سلبية لبعض المشتركين، من الذين يفضلون تسجيل عدد كبير من البرامج التليفزيونية، لغرض مشاهدتها في أوقات لاحقة.

تُواجه القنوات التليفزيونية تحديات كبيرة لجهة علاقة خدمة “مشاهدة حسب الطلب” بالإعلان التجاري الذي يعرض قبل او أثناء البرامج التليفزيونية، فبينما تحاول هذه القنوات أن تحدد – عبر الاتفاقات مع شركات الكيبل – ما يتم مشاهدته من الإعلانات التجارية التي تعرض مع البرامج في مكاتبها الالكترونية (تمنع القنوات التجارية المشترك من تسريع زمن البرامج التي تعرضها هذه القنوات لتفرض عليه مشاهدة الإعلانات التجارية، فيما لا تشترط القنوات الحكومية ذلك)، تبدو عاجزة في المقابل عن تحدد ذلك في خدمة تسجيل البرامج التليفزيونية، إذ يمكن عن طريق هذه الخدمة تسريع زمن البرامج أثناء مشاهدتها، والافلات من الإعلانات التجارية التي تعرض قبل او أثناء البرامج، وهو أمر لا يُسعد المُعلن التجاري بالطبع.

يتم استلام خدمات “مشاهدة حسب الطلب” عن طريق أجهزة إلكترونية تمنحها شركات الكيبل التليفزيونية مجاناً للمشتركين فيها. حَلَّت هذه الأجهزة الالكترونية بدل الطرق القديمة لاستلام البث التليفزيوني، حيث من النادر أن يخلو منها أي بيت في الدول الغربية اليوم، بخاصة وبعد أن قررت العديد من الدول الأوروبية الغاء نظام الاستلام التليفزيوني القديم (analog)، واستبداله بنظام ديجتال حديث، يتطلب استخدامه امتلاك واحد من الأجهزة الالكترونية الحديثة. تتنوع الأجهزة الالكترونية التي تستلم البث التليفزيوني بمميزاتها والخدمات التي تقدمها وحسب الاشتراكات الشهرية، فبينما تمنح بعضها القدرة لاستلام بث شديد الدقة (HD اوultra HD)، يُمكن عن طريق بعض الإشتراكات زيادة المساحة التي يمكن استخدامها لتسجيل البرامج التليفزيونية.

دور شركات الكيبل في السوق التليفزيونية

عدد المشتركين في هذه الخدمات يصل اليوم إلى مئات الملايين حول العالم

لعبت شركات تجهيز الكيبل في الدول الغربية دوراً مهماً في تطوير والترويج لخدمات “مشاهدة حسب الطلب”، اذ انتبهت هذه الشركات منذ سنوات إلى ضراوة المنافسة في عالم التليفزيون، والخيارات العديدة التي صارت متوافرة لمشاهد اليوم، فبذلت هذه الشركات وعبر شراكات مع القنوات التليفزيونية، جهوداً كبيرة لجعل طقس المشاهدة التليفزيونية التقليدي أكثر راحة واثارة، عبر منح حريات أكبر للمشتركين فيها بمشاهدة برامجهم المفضلة التي فاتهم متابعتها على شاشات التليفزيون التقليدية، حتى تبعدهم على قدر الإمكان عن شبكة الإنترنت.

انضمت إلى شركات تجهيز الكيبل في الدول الغربية في العقد الأخير، عدد كبير من شركات التكنولوجيا وشركات الاتصال، حيث تنافس هذه الأخيرة اليوم في سوق التليفزيون التقليدي. بخاصة أن هذه الشركات الجديدة بنت او تملك البنية التكنولوجية التحتية المتقدمة، التي تجعل إضافة خدمة تجهيز بث القنوات التليفزيونية أمراً هيناً كثيراً، لتكمل هذه الخدمة الخدمات الأخرى التي تقدمها، حيث أصبح من الشائع كثيراً، أن تجهز الشركة نفسها التي توفر خدمة الكيبل التليفزيوني، خدمة الإنترنت والهاتف المنزلي، وأحياناً الاشتراك في الهواتف النقالة.

يستفيد المشترك من ازدحام سوق تجهيز البث التليفزيوني بالشركات، والتي تبذل جهوداً كبيرة للإبقاء على المشتركين في خدماتها عبر تطوير خدمات جديدة كل عام تقريباً، إذ لا تخلو عروض أية من الشركات التي تجهز خدمة مشاهدة التليفزيون، من خدمات “مشاهدة حسب الطلب”، كما يتم توفير هذه الخدمات أيضاً عبر الأجهزة الالكترونية الصغيرة والكبيرة. وهناك الامكانية لإصدار أمر بتسجيل برنامج تلفزيوني من أي جهاز الكتروني للمشترك، ليقوم جهاز استلام البث التليفزيوني في المنزل بتسجيل البرنامج، وبعدها يمكن مشاهدته عبر أي جهاز الكتروني، وعن طريق البرامج التطبيقية الخاصة لهذه الشركات (Apps)، والمتوافرة لجميع الأجهزة الالكترونية (هواتف ذكية، وكمبيوترات لوحية، وأجهزة كمبيوتر عادية).

دفعت شعبية الطرق الحديثة لاستلام البث التليفزيوني، الاتحاد الأوروبي للتدخل وإصدار قرارات لتقنين حماية المشتركين في هذه الشركات، إذ أصدر هذا الاتحاد أخيراً سلسلة قرارات، أهمها أنه سيكون بمقدور المشترك في شركة كبيل في فرنسا مثلاً، مشاهدة البث التليفزيوني الحيّ عن طريق واحد من الأجهزة الالكترونية التي يملكها في الاتحاد الأوروبي كله، وليس فقط في فرنسا، وهو الأمر الذي كانت تمنعه شركات تجهيز البث التليفزيوني، اذ كانت تحدد مشاهدة البث الحيّ او المشاهدة حسب الطلب عن طريق الإنترنت للقنوات التليفزيونية التي توفرها على ساكني الدولة فقط.

الإعلانات التجارية

تُمثل خدمة "المشاهدة حسب الطلب"، والتي توفرها القنوات التليفزيونية ذاتها وبالاتفاق مع شركات الكيبل في الدول الغربية، تحدياً وخطراً متواصلاً مختلفاً بطبيعته على تقاليد المشاهدة الحيّة لبرامج التليفزيون

تسعى شركات تجهيز الكيبل، وبالتعاون مع القنوات التليفزيونية وشركات الإحصاء، على تحديد آليات جديدة لحساب اعداد مشاهدي البرامج التليفزيونية لتحل بدل القديمة والتي كانت تحسب أعداد مشاهدي البرامج الحيّة فقط، بخاصة مع التغييرات التي لا تتوقف في عادات المشاهدة، فأدخل مركز “nielsen” الأمريكي المعروف، طرق إحصائية جديدة تشمل حساب اعداد مشاهدي البرنامج وقت بثه، وليضاف عليه عدد مشاهديه في اليوم الأول من بثه، عن طريق خدمات “مشاهدة عند الطلب”، ثم عدد مشاهدي البرنامج نفسه في السبعة أيام الأولى من يوم بثه الأول. هذه النوعية من الإحصاءات الجديدة، تلقى اعتراضات من عالم التليفزيون، حيث أنها تغفل عن حساب عدد مشاهدي البرامج التليفزيونية بعد مضي سبعة أيام من بثها الأول، والذي يجب أن يوضع في الحسبان.

تشكل إحصاءات المشاهدة التليفزيونية أهمية كبيرة للغاية للقنوات التليفزيونية، لجذب المعلن التجاري للإعلان عن منتجاته على شاشة هذه القنوات، لذلك تحتاج المؤسسات المنتجة للمحتوى التليفزيوني إلى عرض إحصاءات مفصلة وجذابة لهذا المعلن، إذا رغبت في الظفر بحصتها من سوق الإعلانات التجارية (تقدر القيمة الاجمالية التي ستصرف على الإعلانات التجارية في الولايات المتحدة في عام 2018 ب 183 مليار دولار، وحسب مركز “Magna” الأمريكي للبحوث). ربما لهذه الأسباب، تحظى في الوقت الحاضر إحصاءات المشاهدة في خدمة “مشاهدة حسب الطلب” لبعض البرامج بتغطيات إعلامية، وكما حدث أخيراً مع الجزء الجديد من المسلسل الكوميدي الأمريكي “روزان”، الذي حصل البث الحيّ للحلقة الأولى منه بمشاهدات في اليوم الأول لعرضها وصلت إلى 18.5 مليون مشاهدة، وجمع 8.8 مليون مشاهد عبر خدمات “مشاهدة حسب الطلب” في الأيام السبعة الأولى بعد يوم عرضه ا


إعلان