باريس مرجعا للسينما الوثائقية
ندى الأزهري
منذ بداياته فرض مهرجان سينما الواقع نفسه كمرجع للسينما الوثائقية في فرنسا، كما يجمع هذا المهرجان الباريسي المهتم بالتعددية في الأفكار وفي الشكل والمضمون جمهورا عريضا فضوليا ومخلصا له ومهتما بدوره في اكتشاف المواهب الشابة التي ساهم المهرجان في الكشف عن بعضها في الماضي لتصبح اليوم معروفة على نطاق عالمي. ويهتم “سينما الواقع” كذلك بأعمال مخرجين بعينهم، مانحا بذلك الفرصة لحضور أحدث الأعمال السينمائية والتعرف على القديم منها من خلال الاستعادات.
وكما يقول مهرجان سينما الواقع عن نفسه فهو “لا يفعل شيئا مثل الآخرين”! وبالفعل فحين تعلن التظاهرات الأخرى احتفالاتها مثلا بأعيادها العشرين ، الثلاثين… باستعادة تاريخها ومنجزاتها في شيء من الثقة والرضى، فإن هذا المهرجان، الذي قام تحت رعاية جان روش “أبو السينما الوثائقية” في نهايات السبعينيات في مركز جورج بومبيدو الثقافي الوليد آنذاك، يحتفل بعيد ميلاده الأربعين اليوم بالتساؤل عن : “ما هو الواقع؟”!
هكذا قررت مديرته الجديدة ضمن بحثها كما تقول عن “مصالحة بين إرث أربعين عاما من المهرجان وبين اهتمام جدّ عال بحركة العالم المعاصر”، وصدر خصيصا للمناسبة كتاب يبدي فيه أربعون سينمائيا وناقدا وفيلسوفا وجهات نظرهم محاولين الرد على السؤال عبر كتابة نصوص حرة قائمة على تأمل شخصي أو شهادة أو اختيار صور أو مونتاج فيديو.

دروب مبتكرة للوثائقي اليوم
يحاول المهرجان الحفاظ على دوره كمرجع عالمي للفيلم الوثائقي وكونه مكانا لابد لمحترفي السينما من عبوره. طموحٌ يصبح أكثر صعوبة اليوم، فهذه التظاهرة الباريسية تبحث عن موقعها في محيط بات أكثر تنافسية مع التطورات التي تلحق بالفيلم الوثائقي وزيادة الطلب عليه من المهرجانات الدولية ومنحه الجوائز. كما ثمة تبدلات تطرأ على جماليات الفيلم الوثائقي بحيث تنفتح أساليب التعبير الجديدة على آفاق واسعة، وتوجّه الدروب المبتكرة التي ينتهجها الوثائقي اليوم نحو تلاش تدريجي للحدود بينه وبين الروائي، وتجلّ أكبر لعلاقته مع الفن المعاصر. هذا ما تمكن ملاحظته في الأفلام المنتقاة في “سينما الواقع” في نسخته الأخيرة التي بدأت في23 مارس وانتهت في الأول من أبريل في مركز بومبيدو ومراكز أخرى مثل منتدى الصور في باريس.
يتّضح غنى المهرجان وسعيه للربط بين أصول المهرجان القيّمة التي وضعها المؤسسون وبين الأشكال التي لاتكفّ عن التحول والتجديد في السينما واكتشاف أراض جديدة لسينما الواقع، في خيارات الأفلام في أقسامه العديدة وفي التظاهرات الموازية والعروض الخاصة. على سبيل المثال، في قسم “بين هذا وذاك” الذي يتيح لفنان ما إلقاء الضوء على التلاقي بين السينما والفن المعاصر. كان سبق للمهرجان وقدم اللبناني أكرم الزعتري عام 2016 في هذا القسم، أما في هذه الدورة فجاء دور البريطاني تاسيتا دين (1965) الذي صُنّف كأحد الفنانين الأكثر فرادة في جيله. يعمل دين على مواد كالزمن والذاكرة والأثر والضوء في أفلامه ورسوماته وأعماله الأخرى التي تتميز بابتكارها الأقصى ” فن سينمائي خالص بعيد تماما عن الأكاديمية وقائم على حقيقة اللحظة والحساسية الفردية كما على مادة العمل ذاتها التي هي بكرة التصوير”. ثمة قسم أيضا في المهرجان تحت عنوان “من أجل 68 أخرى” يحتفل بمرور خمسين عاما على حركة الطلاب في فرنسا ومكون من عدة أفلام أتت من العالم أجمع لتشهد على اشتعاله! فلا تتداول فقط ما هو معروف عن هذه الحركة بل عن عدم اقتصارها على كونها ثورة سياسية فحسب بل انقلابا في مفاهيم السينما وأشكالها واختراع جديد للغتها كذلك.
ثمة استعادات في نفس القسم لفلسطين مع ثلاثة أفلام “الزيارة” لقيس الزبيدي 1970 من سورية و “مائة وجه ليوم واحد” لكريستيان غازي 1969-1971 من لبنان و” ميونيخ” 1972 لكارول روسوبولوس من فرنسا، كما يبدو التجديد في قسم “اللاواقع” الذي يحتوي على تجارب جذرية في السينما ويتم عبره طرح التساؤلات عن الحدود التي تبدو أكثر فأكثر ضبابية بين الواقع والروائي وبين الالتزام واللاالتزام. أما خيارات المسابقة الرسمية الأربعة فلا تخرج بالطبع عن هذا الإطار العام للمهرجان.

المسابقات بين تفكيك الأشكال والأنواع
توزّع على المسابقات أكثر من أربعين فيلما اختيرت من بين ثلاثين ألف وصلت المهرجان من 135 بلدا. وشارك في المسابقة الدولية أحد عشر فيلما من الصين والمكسيك ورومانيا والكونغو والولايات المتحدة الأميركية واليابان وبلجيكا والبرتغال والأورغواي والنمسا وألمانيا. وفي المسابقة الفرنسية نفس العدد، فيما حوت مسابقة العمل الأول عشرة أفلام من إيطاليا وفرنسا وكرواتيا وبريطانيا والأرجنتين والبرازيل والولايات المتحدة الاميركية وكندا وقيرغستان ولبنان. وجاءت أفلام مسابقة الفيلم القصير من فرنسا وكندا وبلجيكا وارلندا والدانمارك/ ألمانيا وفلسطين. يمنح المهرجان تسع جوائز مالية تتراوح بين 7500 يورو إلى 2500 حسب المسابقة.
كان الفيلم الفائز بالجائزة الكبرى لسينما الواقع أمريكيا خارجا عن المألوف تماما! “ل. كوهين” L.Cohen لجيمس بينينغ. من يعرف أعمال هذا المخرج (ولد خلال الحرب العالمية الثانية) وهي حوالي الأربعة عشر فيلما، لن يفاجئ بهذا الفيلم، أما من يجهلها فسيشكل له هذا الفيلم اكتشافا مذهلا لعوالم جديدة. بينينغ بشعره الأبيض الطويل المربوط وملابس الجينز، بدا وهو يقدم فيلمه للجمهور كأنه حطّ مباشرة من الغرب الأميركي. حين بدأ بالحديث مبتسما بأسلوبه الهادئ أشار إلى ثلاث اشارات في الفيلم ستحطم جموده أو سكينته، وهذه قد يلحظها المتفرج وقد لايفعل! هكذا قال. ثم تمنى علينا بابتسامة غامضة البقاء للنقاش إن صمدنا للنهاية. حسنا! أعدّنا نفسيا وأثار فضولنا…
هذا نوع من الأفلام لا تمكن مشاهدته على الشاشة الصغيرة، إذ سيكون الريموت كونترول بالمرصاد بعد دقائق. ثمة لقطة ثابتة، لا يعكره شيء خلال عشرين دقيقة كاملة. منظر واحد على اليسار منه حاوية بلاستيكية صفراء ودولابان يستندان على ثلاثة براميل صدئة. أما اليمين فكان أكثر ازدحاما مع كومة قشّ وحصادّة مهجورة وصدئة هي الأخرى وامتدت في الخلفية ثلاثة أعمدة كهربائية وبناء أبيض وسقف قرميدي… تخيم على المكان شمس صيفية وفي البعيد قمم جبال مغطاة بالثلوج تبدو خلف حاجز ضبابي مهتز كأنها سراب. بعد عشرين دقيقة من التركيز على هذا المشهد الأوحد دون أدنى حركة من أي نوع للكاميرا، يهبط ظلام دامس. يمكن التخمين هنا أن المخرج يرصد حلول الليل التدريجي لكن الظلام الفجائي قضى على الفرضية لاسيما حين لحظة بعدها يعود المشهد الأول بجلاله وإن ظهر أكثر نقاء أو هكذا قد يتراءى للمشاهد المحتار في أمر مايرى! سينقضي النصف الثاني للفيلم على هذا المنوال لكن مع بعض “الأحداث” إذ يعبر ظل جناحان وتنطلق عقيرة مغن بالغناء ويسمع أزيز ما الكتروني ربما…لحسن الحظ أعلمنا المخرج أن مارصده كان كسوفا كاملا للشمس اختصر مراحل انتظاره من أربع ساعات إلى خمس وأربعين دقيقة! هل نقول لحسن الحظ؟ ليس تماما. فقد، صاحبنا فيما بعد هذا الشعور بقوة ما رأيناه وتأكدنا من تأثيره العميق وحين شبه بينينغ ما حصل برحلة الحياة القصيرة وأن مرور الكسوف هو كمرورنا على هذه الأرض كانت الصالة كلها مستغرقة في صمت غريب تنصت. يعتمد بينينغ في السينما على ” التمعن والسمع” وينصبّ اهتمامه بقوة على المدة حيث المشهد في خدمة الزمن الجيولوجي والتاريخي والسردي وهو يريد خلق أوضاع تدفع الناس للتأمل والتفكير. أما الصوت الآتي من بعيد فكان أصوات طائرات للجيش جاءت تصور الكسوف و الأغنية كانت One Way Boogie Woogie. المخرج أهدى الفيلم وعنوانه للشاعر والموسيقي ل. كوهين.

دورة حياة وحبّ مفقود وفيل أبيض
نفس لجنة التحكيم في هذه المسابقة وهبت جائزة “هيئة السينمائيين والكتاب والإعلاميين SCAM ومقدارها خمسة آلاف يورو إلى الفيلم البرتغالي “ashore على الشاطئ” لمخرجته ليونور تيليس التي ترافق باحساس مرهف صياد في مدينة قرب لشبونة. يومياته خلال عمله، مع عائلته ترصد دورة حياة هذه العائلة البسيطة ومشاعر افرادها تجاه بعضهم البعض وتجاه مايطرأ من أحداث.
أما جائزة العمل الأول فذهبت للبرازيلي غوستاف فيناغر عن فيلمه ” أتذكر الغربان”. يهتم المخرج بموضوع فقدان الحب في المجتمعات المعاصرة، هو الذي سبق وأخرج ” دبي الجديدة” عام 2014. في فيلمه هذا المتراوح بين الوثائقي والروائي بورتريه لممثلة متحولة جنسيا يابانية برازيلية يعرفها من زمن طويل. نفس الفيلم نال جائزة أخرى مالية من المركز الوطني للفنون التشكيلية.
ذهبت جائزة مسابقة الفيلم الفرنسي وقيمتها 7000 يورو يمنحها المعهد الفرنسي إلى ” الطرائد” لمارين دو كونت وهو متابعة لنصب الافخاخ في الغابات وأصحابها، علاقاتهم وطرائقهم… دراسة إثنولوجية عن الانتظار والترقب والسلوك…
ونال “الفيل الأبيض” للفلسطينية شروق حرب الجائزة الأولى وقيمتها 2500 يورو بمسابقة الفيلم القصير. فيلم على تناقض تام مع الأميركي. هنا حركة الكاميرا لا تكف عن قفز سريع، إنما محكم وواثق وعلى الأخص مبتكر، بين الصور والمواضيع وهذا خلال الاثنتي عشر دقيقة مدة الفيلم. المخرجة الشابة تعيش في رام الله وتهتم في أعمالها بتمثيل المدينة. هنا تستقي مصادرها من الفيديو المنتج خاصة في التسعينات والمتوفر على الشبكة العنقودية وتحاول في سرد مكثف ومتدفق إبداء انشغالات متعلقة بالهوية والصداقة والحب لمراهقة فلسطينية في ظلّ مناخ سياسي وأجواء معاهدة أوسلو في فلسطين التسعينات. بين فقدانها لصديقتها في الانتفاضة الأولى ودهشة مصحوبة بحذر من محبوب يسرق سيارات الإسرائيليين فقط كنوع من النضال، تروي الشابة بصوتها ملاحظاتها وتساؤلاتها وتلقي نظرة نقدية وطريفة على محيطها العربي والإسرائيلي. فيلم عن الرغبات الذاتية وبحث عن مفهوم الهوية المعقد مستوحى من سيرة الراوية ومعتمد بشكل كبير على الموسيقى ليس كخلفية بل كركن وركيزة للسرد بحيث تبدو كأنها وسيلة للخلاص وللهرب من أي تمثيل للهوية. فكانت موسيقى البوب التي انتشرت ذلك الوقت، وموسيقى الترانس التي كانت في تل أبيب ملجأ ومتنفسا للجنود الإسرائيليين الشباب ولكن ليس فقط بل كانت أحيانا محاولة للذوبان وحتى الاختفاء لشابة مثلها.
فيلم آخر للفلسطينية جمانة مناع يستحق الاشارة وعرض في مسابقة العمل الأول. “البذور البرية” فيلم ممتع وشيق عن بنك الحبوب الزراعية الذي نقل من حلب بسبب الحرب إلى لبنان ومن بعدها إلى النرويج. كما ثمة عديد من الأفلام عرض في المسابقة الدولية ويستحق الاشارة منها “المطار المركزي” للمخرج البرازيلي من أصول جزائرية كريم عينوز و”أحلام تحت ظل الراسمالية” للبلجيكية صوفي برونو .