شيطنة العرب.. سياسة وعرض وطلب
مروة صبري

أول ما سمعت عن الفيلم الوثائقي Reel Bad Arabs توقعت أنّ التهجئة الصحيحة هي Real Bad Arabs، ومع بعض البحث وجدت أنّ المقصد بكلمة “Reel” هو البَكَرة التي يُلف عليها شريط الفيلم، فكأنّ عنوان الفيلم يريد أن يقول إن العرب سيئون على بكرة الأفلام فقط، وهذا لا يعكس واقعهم.
هذا الفيلم الوثائقي هو تسجيل لبحث قام به الدكتور جاك شاهين (21 سبتمير/أيلول 1935 – 9 يوليو/تموز 2017) عن صورة العرب في هوليود. وقد بحث شاهين -الذي ولد في بيتسبيرغ/بنسلفينيا بالولايات المتحدة من والدين عربيين مهاجرين- خلال ثلاثين عامًا في أكثر من ألف فيلم لإعطاء نظرة دقيقة عن صورة العرب بعدسة هوليود.
كتب شاهين نص الفيلم بالاشتراك مع جيريمي إيرب وأخرج العمل سات جالي. ويسجل الفيلم عرض شاهين لنتائج بحثه، يعضده بأمثلة من أفلام عدّة تكسر ملل المتحدث الواحد. مشاهدة تلك اللقطات المصاحبة التي تظهر العربي الرجل كجاهل، عنيف، فظ، والمرأة العربية كراقصة لا تملأ عينه، مع تتابع بحور الدماء من السيوف والرشاشات والقنابل.. تسببت -على صعيد شخصي كعربية- في غليان الدم في عروقي. وجعلتني أتلمس نفسي في تلك المشاهد وأبحث عن أهلي وأصدقائي فيها فأعود خاوية اليدين. كيف لهذه النماذج التي يعيش أغلبنا ويموت دون أن يقابلها أن تكون معبرة عنا؟
جائزة العنصرية ضد العرب
الغريب أنّ كثيرًا من هذه المشاهد تحدث على أراض عربية مثل فيلم Rules of Engagement الذي يعتبره شاهين الفائز بجائزة العنصريّة بجدارة. والفيلم كتبه سكرتير سابق للبحرية الأمريكية جيمس ويب (James Webb)، وتقع أحداثه في اليمن، حيث تؤدي مظاهرة أمام السفارة الأمريكية إلى استدعاء البحرية الأمريكية لتحرير العاملين بالسفارة. فيطلق جندي أمريكي النار على المتظاهرين ويقتل رجالًا ونساءً وأطفالًا، ويبدأ تحقيق الجيش الأمريكي معه، ثمّ يجد طفلة يمنية برجل واحدة فيتبعها. حتى الآن الجمهور متعاطف مع المتظاهرين ومع الفتاة الصغيرة. أما الجيش الأمريكي فمن “عدالته” يحقق مع القاتل، ثمّ يتم العثور على شريط ورسالة تقول: “قتل الأمريكيين وحلفائهم من مدنيين وعسكريين واجب على كل مسلم قادر”، ويثبت الشريط براءة الجندي، فقد ضرب المتظاهرون النار أولًا، والآن نعلم أنهم ليسوا سلميين كما تصورنا، بل إنّ الفتاة الصغيرة أطلقت النار أيضًا على القوات الأمريكية، وينتهي الفيلم بقول الجندي “اقتلوا..”(مصحوبا بسباب بذيء). ما هذه الأمة التي لا يوجد بها أبرياء؟!
لا يحق لأحد أن يهاجم سفارات الدول، لكنّ الحبكة تبرر قتل شعب آخر على أرضه والتجول فيها بحرية. ويلح السؤال: منذ متى لا يحق لشعب أن يدافع عن أرضه ضد أي دخيل؟ ونجد الإجابة فيما نقله شاهين عن جين لوك جودارد -المخرج الفرنسي السويسري والناقد السينمائي– حين سئل عن سبب شعبوية الأفلام الأمريكية، فأجاب: “الأمريكيون أحسن قصاصين. يمكنهم غزو دولة واختلاق حبكة تبرره”.
تشويه صورة العرب.. لماذا؟
يؤرخ شاهين ذلك بما بعد الحرب العالمية الثانية، ويرجعها لثلاثة أحداث: الصراع العربي الإسرائيلي الذي تبنت فيه الولايات المتحدة الجانب الإسرائيلي بلا تردد دائمًا وأبدًا، منع البترول عن الدول الغربية خلال السبعينيات مما أدى إلى زيادة أسعار الوقود وإغضاب الغرب، وأخيرًا الثورة الإيرانية وبُعدها عن الرؤية الغربية. وعلى الرغم من أنّ الإيرانيين ليسوا عربا فإنّ الغربي العامي لا يفرق بين الإسلام والعروبة، ولا يتبادر إلى ذهنه أنّ هناك مسيحيين ويهودا عربا، فالكل عنده في سلة واحدة. المسلمون العرب هم من يفرقون بين أنفسهم وبين المسلمين من غير العرب، وبين السنة والشيعة والدروز والأكراد والبدو والحضر والريفيين وغيرها من تقسيمات، أما في عين الغربي فكلهم سواسية كأسنان السيوف التي يحملونها في الأفلام.
يشير اختبار الحمض النووي (دي إن إيه) إلى القرابة، فالتوأم يشتركان في نتائج اختباراته، وكذلك هوليود والسياسة، ومن هنا جاءت مقولة جاك فلانتي (1921-2007) إنّ واشنطن وهوليود ينبعان من الحمض النووي نفسه. فواشنطن -حيث البيت الأبيض والكونغرس- وهوليود -وهي عاصمة الإنتاج السينمائي في العالم- يشتركان في الأصل، وهو اعتراف خطير من رجل ترأس الهيئة الأمريكية للصور المتحركة لأعوام طويلة، تلك الهيئة التي تمثل أضخم ست شركات إنتاج سينمائي. وعلى حد تعبير شاهين عادة ما تتفاعل هوليود مع توجهات الحكومة وتدعمها في صمت، فلو رفعت وكالة الأمن القومي درجة تهديد الإرهاب ولم يُرهب الناس، فإن موسما جديدا من مسلسل 24 سينجز المهمة. وهذه معيبة لأيّ فنان يعمل كدواسة قدم للساسة، وهنا تكمن خطورة الخلط بين الفن والسياسة.
شيخهم غير شيخنا
هوليود لا تكتفي بخلطة الفن بالسياسة، بل تضيف إليهما الدين الإسلامي. وأذكر هنا رواية هابطة قرأتها منذ عامين عن امرأة أمريكية وقعت في غرام رجل عربي، وما إن ذهبت لمقابلة أهله حتى فوجئت بأنّ الجميع ينادونه “شيخ”، وكان رد فعل بطلة الرواية عنيفًا، وكان رد فعلي الداخلي أعنف، فالرؤية الغربية لكلمة الشيخ لا تمت بصلة لما في ثقافتنا، فعندهم الشيخ ينتمي للأسرة الحاكمة وبالتالي هو شديد الثراء ولا علاقة لعمره أو التزامه بالدين بذلك اللقب. وقد استمرت هوليود في تصوير الشيخ المسلم الهوليودي بما يتناسب مع السياسة الخارجية لأمريكا، فالشيخ يملك قصرًا به غرفة للتعذيب، له جوار راقصات لا يكتفي بهنّ بل يريد تلك الشقراء الأمريكية فيخطفها ويحبسها لرفضها له، ثم يأتي البطل الأمريكي فيخلصها وتنزل لوحة “النهاية”، وهي نهاية سعيدة على ساسة الخارجية الأمريكية فقط، أما على الشعوب فهي مزيد من الفرقة والانقسام والظلم والدماء.
المرأة العربية في الأفلام الأمريكية محتارة لا تعلم مكانها، فهي إما راقصة منحرفة تحت أرجل “الشيخ”، أو مجبرة على الحجاب والزواج من شخص تكرهه، وإن تحررت من تلك الصورة نجدها مجرمة عتيدة تعتزم قتل ثمانين ألفًا من الأمريكيين الأبرياء كما في فيلم Black Sunday وذلك خلال مشاهدتهم لمباراة كرة قدم أمريكية.

فلسطين قلب الصراع
لا أبالغ كثيرًا إذا قلت إنّ فلسطين في قلب كل فيلم يصوّر صراعًا بين الشرق والغرب، ففيلم Delta Force قدّم مجموعة من “الإرهابيين” الفلسطينيين -بحسب قول شاهين- في محاولة لخطف طائرة، وظهر “الإرهابي” الفلسطيني ليسأل عن الأسماء اليهودية بين الركاب ليقتلهم، لكن البطل الأمريكي الذي لعب دوره تشاك نوريس كان لهم بالمرصاد. ولا نتعجب حين نعلم أنّ الفيلم تم إنتاجه في “إسرائيل” سنة 1986.
يعزو شاهين عدم السماح بالتعاطف مع الفلسطينيين على الشاشة الفضية إلى منتجَين إسرائيليَين في هوليود، وهما مناحيم غولان ويورام غلوبس فقد أسسا شركة Cannon Films Inc التي أنتجت عشرين فيلمًا خلال ثلاثين سنة عمدت لتشويه العرب، حتى اختيار اسم الشركة يعني “مدفع” وقد وجهوه لصدورنا وللعقول الغربية.
القضية قضية وعي والوعي يمكن تغييره بوسائل مختلفة، من ضمنها وجود شركة لإنتاج الأفلام التعليمية الوثائقية مثل Media Education Foundation المنتجة لهذا الفيلم، وهدفها إنتاج وتوزيع أفلام تحفز على التفكير النقدي في تأثير الإعلام الأمريكي على مناحي الحياة. ولا نغفل قدرة الشباب الغربي ذي الأصول العربية كما أكّد شاهين في هذا الفيلم الوثائقي الذي أذيع لأول مرة في 2006، فهؤلاء كرهوا التركة الظالمة التي أجبروا على وراثتها، وهذا الجيل يدخل الآن بكثرة في مجال الإعلام والأدب والسينما، وبدأ صوته في التميّز في مجال الأداء الكوميدي المنفرد (Stand-up Comedy) فبرعوا في إظهار المفارقات بين الثقافتين، وأظهر المخرج العالمي الأمريكي مايكل مور كنموذج لهؤلاء في فيلمه الوثائقي فهرنهايت 11-9، وفي رأي شاهين فإنّ الكوميديا من أكثر الطرق فعالية في تغيير الصور النمطية إذ أنها تؤنسن العربي بدلًا من شيطنته المعتادة.
الإسلام الأمريكي والإسلام الحقيقي
وفي مجال الإعلان، أصبحت شركات كـGap وAmazon وNike تتعمد إظهار محجبة في بعض إعلاناتها. وعودة إلى هوليود، فهناك برنامج واقعي بعنوان “كل مسلم أمريكي” (All American Muslim) يقدم نموذجًا لأسرة مسلمة في حياتها اليومية، هذا بالإضافة إلى مسلسلات تعرض شخصية محجبة منها Quantico, Orange is the New Black, Degrassi, .Outsourced, Mr. Robert.. ومن الأفلام التي أظهرت المسلمين في صورة محترمة، فيلم الملوك الثلاثة (The Three Kings) وسيريانا (Syriana) وهيديوس كينكي (Hideous Kinky) والجنة الآن (Paradise Now) والذي يعرض قصة صديقين اتفقا على هجوم تفجيري إلا أنهما تراجعا بعد نقاش مع صديقة حقوقية، يظهر الحوار أسباب إقبال الأخوين على هذا العمل وأسباب تراجعهما في نقاش إنساني يوضح إحساسهما بطغيان إسرائيل البيّن وكيف يريا التعامل معه.
كل ذلك ينجح في خلق جيل غربي جديد يتفاعل مع المسلمين، يظهرهم بضعفهم وقوتهم، بضلالهم وحكمتهم، بحزنهم وفرحتهم، فتلك هي البشرية، لكن كما عودتنا السينما في كل العالم، لا يوجد تلميع مجاني، فما تقدمه هوليود هو الدين الإسلامي الأمريكي الليبرالي يمكن أن يقابله مصطلح “الدين الوسطي الجميل” عندنا في المجتمعات العربية، والذي لا يسمح إلا بنموذج محدد، وغيره يستهزأ منه. فعلى سبيل المثال مسلسل دغراسي (Degrassi) يقدم شخصية المسلمة المحجبة التي تريد أن ترضي ربها على قدر المستطاع لكن مع ضغوط أخيها وأصدقائها في المدرسة بدأت في التنازل حتى تخطت مرحلة اعتبار علاقة فتاتين إثمًا إلى السعي في الإصلاح بين صديقتها المسلمة “الشاذة” مع أخرى، هذا بالإضافة إلى كلام أخيها عن الحجاب الذي قال “نحن مختلفان فلا حاجة أن تصعبيها وتزيدي من اختلافنا عن البقية”. هذا فقه هوليود وليس الإسلام الذي يدين به الغالبية العظمى من المسلمين.
ما زلت لا أجد نفسي وأهلي وأصدقائي في هوليود، لكنها مسألة وقت، ومن يدري، لعلنا كعرب ننتج ما يمثلنا كما نحن وليس كما يريدنا اللوبي الصهيوني أو وزارة الدفاع الأمريكية أو الأجندة الأمريكية الليبرالية.