نتفليكس.. حيث لا منافس إلا النوم
محمد موسى

عندما سُئل مؤسس خدمة نتفليكس الترفيهية الإلكترونية الأمريكية ريد هاستنغز في إطلالة إعلامية له قبل أسابيع عن منافسي الشركة الحاليين، ردّ مازحاً: “بأن النوم هو المنافس الوحيد لنتفليكس”، ثم عاد وعلّق بأنه يأمل أن يتواصل اهتمام مشتركي الخدمة بالمواد الفنيّة التي تعرضها خدمته، لأن هذا وحده كفيل بالمحافظة على مكاسب الخدمة الهائلة التي تحققت في غضون سنوات قليلة فقط. فعدد مشتركي نتفليكس يصل اليوم إلى 125 مليونا يتوزعون على 190 بلدا حول العالم. والخدمة أصبحت من مفردات الحياة اليومية في كثير من الثقافات، وأعمال الشركة الحصرية تحظى باهتمام ومتابعة لا يتوفران اليوم إلا للقليل جداً من الأعمال الفنيّة التي تنتج في العالم الغربي.
والحقيقة أن هناك منافسين أقوياء لنتفليكس، منهم شركة أمازون الأمريكية التي تحقق هي الأخرى نجاحات كبيرة على الصعيد الدولي وتقضم كل شهر قطعة من الأسواق نفسها التي تنشط فيها نتفليكس، وهناك أيضا التلفزيون التقليدي الذي مازال قويا ومدعوما من قبل قنوات تلفزيونية غنية وحكومات (كما يحدث في الدول الأوروبية). كما تحصد بعض خدمات الترفيه الإلكترونية التي يقتصر وجودها داخل دول معينة على نجاحات جيدة في الأسواق المحلية التي تنشط فيها. وستمثل شركات مثل أبل وفيسبوك وغوغل وديزني تحديا حقيقيا لهيمنة نتفليكس إذا قررت هذه الشركات دخول المنافسة على سوق الترفيه الإلكتروني، كما تعد منذ سنوات (بعضها بدأ فعليا إنتاج برامج حصرية تعرض اليوم ضمن خدماتها).

دخول منافسين أقوياء مسلحين ببنية تكنولوجية متينة ومشتركين بالملايين (مثل فيسبوك وغوغل) لن يعني بالضرورة إزاحة سريعة لنتفليكس من صدارة سوق الترفيه الإلكتروني في العالم، إذ قطعت الشركة الأمريكية خطوات كبيرة فعلاً للتفرد بوضع خاص في هذا السوق، فحسب البيانات الأخيرة للشركة فإن نتفليكس ستوفر على خدمتها في السنة الحالية (2018) سبعمئة مادة ترفيهية حصرية جديدة، في سابقة لم يعرفها سوق الترفيه في العالم الغربي من قبل، وسيتم صرف نحو ثمانية مليارات دولار على إنتاج هذه المواد الحصرية، وهي ميزانية تعادل خمس مرات ما يتم صرفه على البرامج في جميع قنوات هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) التي تعد واحدة من المؤسسات الإعلامية العملاقة في العالم الغربي.
تُبيّن إحصاءات أعداد المشتركين الجُدد في خدمة نتفليكس لهذا العام، والتي كشفت عنها الشركة ضمن نشاط إعلامي نظم في العاصمة الإيطالية روما أخيراً، بأن 7.4 ملايين مشترك جديد انضموا للخدمة خلال الربع الأول من هذا العام، منهم 5.5 ملايين من خارج الولايات المتحدة.
يدفع نجاح الشركة المتواصل خارج مكان انطلاقها الأول في أمريكا إلى زيادة اهتمامها بالأسواق العالمية، وهذا يعكسه اتجاهها اليوم لإنتاج مواد حصرية في عدة دول حول العالم وباللغات المحلية لهذه الدول. فالمسلسل الأهم الذي تم طرحه في شهر مايو الحالي على الخدمة ويحمل عنوان “المطر”، هو مسلسل حصري لنتفليكس أنتجته الأخيرة في الدنمارك. كما أن الشركة تخطط لإنتاج مجموعة كبيرة من الأعمال تغطي تقريبا كل أسواقها العالمية، حتى أنها أعلنت أخيرا أنها مشغولة بإنتاج مسلسل رعب في مملكة هولندا الصغيرة حجما، وتخطط أيضا لإنتاج مسلسلات باللغة العربية لمشاهديها في منطقة الشرق الأوسط.
نتفليكس كانت موضوعا للنقاش على الصعيد الأوروبي، فنجاح الخدمة الكبير على صعيد عدد المشتركين، والوقت الذي يقضيه هؤلاء بمشاهدة الخدمة، دفع مؤسسات إعلامية أوروبية إلى مطالبة حكوماتها بفرض ضرائب جديدة على الشركة تتناسب مع الأرباح التي تحصل عليها، كما طالبت المؤسسات ذاتها بفرض قوانين على نتفليكس ومثيلاتها من الشركات الدولية يُلزمها تخصيص نسبة معينة من محتواها لمواد فنيّة باللغات المحلية للدول التي تصل إليها الخدمة، وكما هو الحال مع القوانين الأوروبية التي تلزم بالأمر ذاته القنوات التلفزيونية الأوروبية.
فرنسا كانت السباقة في مجال تحدي نتفليكس، فالبلد الأوروبي المعروف عنه صرامته الشديدة فيما يتعلق بالدفاع عن نتاجه الفني الخاص وجهوده التي لا تتوقف لحماية اللغة الفرنسية من هيمنة اللغة الإنجليزية، فرض في وقت مبكر على الشركة الأمريكية أن يكون 20% من المواد الفنيّة التي تعرض على خدمتها منتجة في فرنسا.
فرنسا كانت أيضا ساحة أول معركة علنية بين نتفليكس ومؤسسات فنيّة أوروبية، عندما قرر مهرجان كان السينمائي العام الماضي منع الأفلام السينمائية الحصرية التي تنتجها نتفليكس من المشاركة في المهرجان، وإذا لم تتقيد نتفليكس بالقوانين الفرنسية التي يلزمها فترة زمنية طويلة بين عرض الأفلام في الصالات السينمائية ووصولها إلى خدمات الترفيه الإلكترونية لحماية طقوس مشاهدة الأفلام في الصالات السينمائية.

دافعت نتفليكس في مؤتمرها الصحفي في روما عن نفسها بوجه الانتقادات الأوروبية والمطالب بمزيد من التشريعات والضرائب الجديدة التي يجب أن تدفعها، إذ ذَكَرَ هاستنغز بأن شركته تُشغّل حاليا حوالي 35 ألف أوروبي في الأعمال الحصرية التي تنتجها في القارة الأوروبية، وبالمنافع الجمَّة المترتبة في ذلك على قطاع الإنتاج في الدول الأوروبية، وأن ما تقوم به شركته هو في النهاية لصالح المستهلك، إذ لم يشهد السوق الترفيهي من قبل كل هذه الخيارات المتوافرة اليوم للمشاهد العادي. في حين دفعت المنافسة بين خدمات الترفيه الإلكترونية والقنوات التلفزيونية لإنتاج الجديد المميز إلى تكريس “التلفزيون” والمشاهدة عبر الشاشات الصغيرة كأكثر الوسائط تجدداً وحيوية اليوم على صعيد الأفكار والثيمات المقدمة والمعالجات والأساليب الشديدة الإثارة أحياناً التي يتم فيها سرد القصص.

تتسع تأثيرات نتفليكس على المشهد الفنيّ لتشمل الترويج للأعمال التي تنتجها قنوات وشركات أخرى وتشتري حقوق عرضها الخدمة الأمريكية، حيث يدفع وجود هذه الأعمال على خدمة نتفليكس مشاهدين كثر لمشاهدتها، ومنهم من فاته متابعتها عندما عرضت على الشاشات الأصلية المنتجة، ويتجلى هذا في الأعمال الأوروبية التي اشترت حقوق عرضها نتفليكس بعد أن عرضت على شاشات قنوات حكومية أو تجارية، إذ شجع هذا مواطني الدول المنتجة على متابعة أعمال بلدهم الأصلية عن طريق الخدمة الأمريكية، ويمنح اختيار نتفليكس لهذه الأعمال شرعية مهمة، كما تُعين هذه الخيارات مشاهدين حائرين وسط مشهد ترفيهي شديد الاتساع والتشظّي على اختيار المواد الفنيّة التي سيقبلون على متابعتها.

ومن الجدير بالذكر أن نتفليكس -وبالإضافة إلى إنتاجها للمواد الفنيّة الحصرية- تعقد شراكات متواصلة مع قنوات تلفزيونية حول العالم لإنتاج أعمال تعرض على القنوات الأصلية المنتجة، وعن طريق الخدمة الأمريكية، كما كان الحال مع مسلسل الخيال العلمي السوداوي “مرآة سوداء” الذي أنتجت موسمه الأول القناة البريطانية الرابعة، قبل أن تدخل نتفليكس على الخط وتعقد شراكة مع القناة البريطانية لإنتاج المواسم المقبلة. وتضخّ الخدمة الأمريكية أموالاً ضخمة في هذه الشراكات، وهو ما لا تملكه القنوات التلفزيونية. وتساهم هذه الأموال في تطوير المنتج الأصلي، وهذا كان شأن المسلسل البريطاني المذكور، إذ تحول إلى واحد من أهم نجاحات نتفليكس في العام الأخير، وفاقت شهرته مسلسلات صرفت عليها الخدمة أموالاً طائلة ولم تصل إلى ربع نجاح “مرآة سوداء”.