“كِباش ورجال” و”قطار2″ و”الفِرقة”.. الوثائقي العربي هل يلامس العالمية؟

ندى الأزهري

"كباش ورجال" فيلم يلتقط بدقة ملامح من حياة الشارع الجزائري، وبالتحديد في حي "باب الواد" عبر تصوير يوميات الكِباش والرجال

 

الأفلام الوثائقية الثلاثة التي نالت الجوائز في مهرجان السينما العربية -الذي نظمه معهد العالم العربي بباريس في الفترة ما بين (28 يونيو/حزيران و8 يوليو/تموز 2018)- تمنح أملا بسينما وثائقية عربية مغايرة، تأخذ مكانها أكثر فأكثر على الشاشة الكبيرة في العالم، سينما يعمل عليها شباب متحمس شغوف تعكس مواضيعه انشغالات جيل جديد، وأساليبه مهارات جمالية تغني المضمون، سواء أكان ذاتيا أم عاما، وتضيف إليه سحرا ومتعة.

“كِباش ورجال”.. مناطحة جزائرية

لعلّ أكثر هذه الأفلام إثارة للدهشة كان “كِباش ورجال” للجزائري كريم صياد الذي تُشارك في إنتاجه الجزائر وقطر وفرنسا وسويسرا ونال جائزة لجنة التحكيم الخاصة الممنوحة من “تيترا فيلم”. فهو فيلم يلتقط بدقة ملامح من حياة الشارع الجزائري، وبالتحديد في حي “باب الواد” عبر تصوير يوميات الكِباش والرجال.

ويجسّد الفيلم هذا الرابط القوي بين هتلر وصدام وفانتازي والأحمر وفيدال وغيرهم من كباش الحي مع أصحابها. ليس هذا بالأمر الهيّن لاسيما وأنها حيوانات لا تشبه القطط أو الكلاب، فهي هنا مُعَدَّة للمناطحة في مباراة أو للذبح في العيد.

 كما جاءت بضعة تفاصيل عميقة في مدلولاتها لِلَمس هذا الرابط بين الكباش وأصحابها؛ في النظرات الحنونة المتبادلة بينهم، في الدَّلال الذي تحظى به، في خبزهم الذي يشاركونها به، ودعكهم لها بشامبو “ضد القشرة” الممزوج بالخلّ، في دغدغة جهاز الحلاقة لصوفها، وتدريباتهم لها لمناطحة بقية الأكباش أمام جمهور الحي، في مجابهتهم معا للمواقف الصعبة كسَوقها للبيع أو للمباراة، وحتى في المواقف التي تخذلهم فيها مثل الموقف الأشد تأثيرا في الفيلم حين يرفض كبش الشاب “حبيب” المبارزة ويتراجع أمام الخصم الذي ينطحه بقوة، بينما يسخر المتفرجون ويصفرون هازئين، فلا مكان لكبش “مسالم” بينهم.

أما “حبيب” فلم تمس هزيمة كبشه واستسلامه من تمسكه به، فقرر بتحد أنه سيهرب مع كبشه في العيد إذا قرر أبوه ذبحه.. إنه شغف بالكباش وبقدرتها على المناطحة، وهو شغف لا يعبأ برأي رجل الدين الذي يفتي بأن “مناطحة الكباش من المحرمات، إنه إيذاء لخلق الله، هذا حرام وعلى الدولة منعه”.. لكن المباراة تسلية أهل الحي شبه الوحيدة، ومعظمهم يفضل متابعتها وجها لوجه رغم نقلها مباشرة على فيسبوك.

الفيلم وإن ركز على شخصيتين بالذات هما “حبيب” و”سمير”، فإنه نقل من خلالهما -ومع كل خطوة يخطوانها مع الكباش- حياة أهل الحي الصغار والشباب بتنوعاتها المحدودة، وذلك حين مشاركتهم للتحضيرات سواء من جزّ لصوف الكبش -وهي أول عملية يقومون بها ليكون الكبش جاهزا للمناطحة- أو بناء سياج في الحي لوضع الأكباش، أو تدريبات المبارزة ومن ثم المباراة.

 

 

 يجتمعون صغارا وكبارا يراقبون ويساهمون كل بطريقته في هذا الحدث أو ذاك، يتصرفون في حيّهم على هواهم، يسرحون في المكان، هم جزء منه لا يتركونه فارغا، وهناك دائما صبية يلعبون أو يتعاركون، ورجال يتحاورون ويشربون، وسيارات تتوقف وتصفّ لوهلة ثم تغادر، ومياه تنسكب، حركة لا تتوقف في حيّ غاص بسكانه الشباب، يجيء الكبش ليضفي عليه حضورا مبتكرا.

علاقة الكاميرا الحميمة مع أمكنة الحيّ وناسه تجسدت أيضا في تصوير المقبرة كعنصر من عناصر المكان، إنها مقبرة مسيحية مهجورة غزتها الأعشاب، تطلّ على البحر، وهي مسرح لتدريب الكباش.

في أحد مشاهد الفيلم الساحرة تبدو القبور كأصنام، كتماثيل معلقة، كأشباح في الخلفية. الموت ليس في المقبرة فحسب، إنه في تعليقات سمير وهو يتذكر بألم تاريخ الحرب الأهلية في التسعينيات والدماء التي سالت فيها فيما كانت دماء الكبش المذبوح تسرح بعد التضحية به، إنه في عدم تعليقه على أخبار يبثها باستمرار مذياع سيارته عن أحوال الاقتصاد وانخفاض سعر النفط وزعزعة استقرار البلاد مع الربيع العربي.. “سمير” ينفث فقط دخان سيجارته، بينما الكاميرا تصوب نظراتها على ولده الذي يغطّ في نوم عميق.

“رجال وأكباش” حقا، إنه عالم الرجال في الحي، حيث لا وجود لنساء ولا لصغيرات في أي مكان سوى في بداية الفيلم حيث بنتٌ تركض.. كان هذا النقصان الوحيد في هذا الفيلم الممتلئ.

يحكي فيلم "قطار- قطار2"قصة قطار الشرق العابر لسوريا ولبنان، الآتي من تركيا والذاهب لفلسطين الذي لم يبق من أثره سوى أجزاء من سكك عبرها، وقد غزتها اليوم الأعشاب والأشواك ومحطات كانت تنغل بالحياة ذات زمن

“قطار- قطار2”.. حكاية ووثيقة

جاء فيلم “قطار- قطار2” للبنانية رانيا إسطفان الفائزة بجائزة معهد العالم العربي للوثائقي القصير ليمثل حكاية ووثيقة. حكاية بكل ما تحويه من خيال وصور متداخلة ورواح ومجيء بين حاضر وماض، ووثيقة لأثر كان هنا واليوم قد رحل.

إنه قطار الشرق العابر لسوريا ولبنان، الآتي من تركيا والذاهب لفلسطين، لم يبق من أثره سوى أجزاء من سكك عبرها، وقد غزتها اليوم الأعشاب والأشواك ومحطات كانت تنغل بالحياة ذات زمن، إنها سكك كان المستعمر قد بناها لخدمة أغراضه في الحرب العالمية الثانية.

تمرّ المخرجة على من شهد أيام القطار ليرووا ذكرياتهم، وعلى هؤلاء من سمعوا به ليحكوا تخيلاتهم، تمزج ما بين مشاهد السكة ومشاهد من الأرشيف القديم والحديث في خفة وتمكّن، صور ضمن صور تجعل من الصورة مشهدا خلاقا فيه من السحر الشيء الكثير، وإنها ليست وثيقة فقط، سحر يتناسب مع الحنين الذي تثيره ذكريات هؤلاء الذين كانوا هنا وشهدوا المحطة وكل” الشغل” والانشغال من حولها.

السكة باتت اليوم مكانا ملائما لوضع منشر غسيل تلعب الريح بما عليه كما تلعب الأمواج بالصخور، أو لمرور الرعاة مع أغنامهم، أو موضعا لاستراحة بقرة كسولة على وقع مشاهد من فيلم لفيروز أو فيلم هندي مرح أو أغنية لأم كلثوم، القطار لم يعد هنا ولكن سكّته مازالت.

 

الفِرقة.. حلم خارج الصدر

يأتي فيلم “الفرقة” الحائز على جائزة معهد العالم العربي –مهرجان الجونة السينمائي للفيلم التسجيلي الطويل- مفاجئا في إثارته لوضع الموسيقى في العراق، البلد الذي وهب العالم موسيقيين أمثال منير بشير ومطربين كناظم الغزالي، البلد الذي لطالما أغنى أوطاننا بفنونه وأشعاره لتصبح الموسيقى فيه -وبالأحرى في جزء منه- شبهة.

يختار المخرج الشاب الباقر جعفر مدينة الصدر نموذجا، حيث يحلم فريق من الشباب بإقامة حفل موسيقي فيها، ولكن؛ الموسيقى ليس هذا وقتها كما يُفهم، فالأهم هو “التطوع للقوات الأمنية للدفاع عن البلد ومقدساته” كما يصيح الخطيب في مكبرات الصوت، وتسجيل الموسيقى توقف منذ سقوط صدام، وحُرمت فيما بعد كما يقول “أبو حاتم”، والأغاني تحولت إلى أناشيد دينية، فالغناء “حماقة وجنون واستهتار”.

إلا أن هناك “مجموعة حلم” التي تتابع تدريباتها بالخفاء، وتعزف فقط خارج المدينة (مدينة الصدر)، فالعزف داخلها كما يقول عازف “مخاطرة ومجازفة بالحياة والعمر”، وقد تذهب كل “الآمال والطموحات برمشة عين”، وإقامة حفلة داخلها “هدف لا يمكن تحقيقه فالقتل بسيط جدا” اليوم.

يتنقل السيناريو بتساو بين الفرقة ومحيطها، مشاهد قليلة من العزف، فما كان أكثر أهمية هو إبداء ظروف هذا العزف في “مكان مقدس”، ومحاولات “كسر الحاجز بين الدين والموسيقى”.

هكذا نصغي لمسؤول في الحشد الشعبي يحب بيتهوفن رغم لحيته، لكنه يعترف بعدم قدرته على تحليل أو تحريم الموسيقى، إذ إن للموسيقى شروطا، فعليها أن تكون “هادئة وحزينة تُذكّر بالإمام الحسين”.

هذه المدينة مضطهدة منذ أيام صدام، لكن هذا لا يمنع استعادة بعض فرح من الماضي؛ “كنا صغارا حفاة نذهب للأعراس ونرقص فرحانين”، ولحاضر تملؤه “البنادق والحبوب المخدرة”، فأين الماضي من الحاضر؟ وأين تصبح أحلام “الفرقة”؟ فبين صِدام عائلي مع الأب لأحدهم، وتحطيم الآلة والاعتزال لآخر، وترك الفرقة للبحث عن مصدر رزق لثالث، يصبح الاستمرار صعبا.

ولكن مع هذا، فإن بعضهم مستمر في الفرقة، “فلا أحد يوقف حلمي” كما يعبر أحد أعضائها،  فظلوا يبحثون عن وسيلة لإيصال المعنى والإحساس، والقيم التي تلاءم أوضاع البلد، ولكن يبقى الحلم الأساس لهم إقامة حفلة في المدينة، مدينة االصدر يحضرها كل الناس؛ الأمهات والجنود والناس بملابس جديدة، إنه حلم أشبه بالواجب.

يتابع المخرج أفراد الفرقة مصورا العراق اليوم في مشاهد حية ومعبرة تتوافق مع الفكرة التي يطرحها في فيلمه عن سيطرة التعصب، ولا يخوض في النقاشات السياسية بين الناس إلا في مشهد أو مشهدين، فالمهم هو العلاقة بين الدين والموسيقى، وينجح المخرج في تصوير هذه العلاقة في مدينة الصدر شرق العاصمة بغداد التي يسكنها أكثر من أربعة ملايين نسمة. ومع بداية الفيلم بانفجارات ونهايته بموسيقى تتجسد كل الأحلام ومعها الآمال.


إعلان