الأفلام العربية في السينما الفرنسية عام 2018.. حضور فاعل وإقبال متنام
ندى الأزهري
للعام الثالث على التوالي تتابع حصص “الأفلام الأخرى” في سوق السينما في فرنسا ارتفاعها، وذلك حسب التقديرات الأولية لعام 2018 التي نشرها المركز الوطني للسينما والصورة المتحركة، ومن نسبة 11.6% عام 2016 إلى 13.7% خلال 2017، واقتربت نسبتها هذا العام من 15%.
“الأفلام الأخرى” هي ما يُطلق في فرنسا على السينما الآتية من أوروبا وبقية العالم، أي الأفلام غير الفرنسية والأمريكية اللتين تحتلان معظم دور العرض وتتقاسمان النسبة الأكبر من سوق العرض مع رجحان كفة الأفلام الأمريكية.
وتتضمن نسبة الأفلام الأخرى حصة أكبر بالطبع لتلك القادمة من أوروبا، لكن الفيلم العربي أيضا له نصيبه منها ومن الزيادة هذا العام، فتواجده في دور السينما الفرنسية يُلحظ على نحو ملموس أكثر من بقية السنوات.
تجدر الإشارة إلى أن ما نعتبره هنا فيلما عربيا هو الفيلم الناطق باللغة العربية، وصوره مخرجون عرب في المنطقة العربية، حتى لو ساهمت في إنتاجه عدة بلدان. وبينما كانت أعداد الأفلام العربية خلال الأعوام الثلاثة الماضية تتراوح بين الخمسة والعشرة والسبعة عشر على التوالي، عُرض هذا العام عشرون فيلما، وسترتفع النسبة بالتأكيد لو أدخلنا في الحسبان أفلاما غير ناطقة بالعربية لكنها لمخرجين عرب، مثل فيلم المخرجة السعودية هيفاء المنصور التي اختارت في فيلمها الروائي الثاني “ماري شيلي” الحديث عن شخصية أوروبية هي الكاتبة ماري غودوي وعلاقة الشغف التي جمعتها وهي فتاة في السادسة عشر من عمرها مع الشاعر بيرسي شيلي وهربها معه. أو أفلاما لمخرجين من أصول عربية مثل التونسي الفرنسي عبد اللطيف قشيش وفيلمه “مكتوب حبي” ويحكي عن ذكريات طالب سينما في باريس يعود في الصيف مع صديقته إلى مسقط رأسه في تونس ليلاقي أهله وأصدقاء الطفولة، أو مثل المغربي سعيد حميش وفيلمه “العودة إلى بولن” حيث أزمة الهوية والانتماء في أروع صورها. أو أفلاما متعلقة بالعالم العربي وأخرجها غربيون، مثل الوثائقي “درب السموني” للإيطالي ستيفانو سافونا الذي يحكي عن تأثير حرب غزة والمهمة الأشقّ التي تنتظر الناجين منها وهي إعادة بناء الذاكرة مع كل ما أضاعوه وغيّر حياتهم للأبد.
فما هي الأفلام العربية التي وجدت لها مكانا في دور العرض الفرنسية، وما هي مواضيعها المميزة؟ هي أفلام تعكس في معظمها الواقع العربي اجتماعيا، وتعبر عن المآسي التي يعيشها سكان المنطقة، وذلك في إحالات غير مباشرة إلى الحروب وإلى القهر السياسي والاقتصادي.
أفلام وثائقية عربية.. احتفت بها فرنسا
ثلاثة أفلام وثائقية عربية عُرضت في دور السينما الفرنسية هذا العام، وافتتحها “طعم الإسمنت” للمخرج السوري زياد كلثوم، وهو فيلم فيه من الشاعرية الكثير، وتجربة باهرة ومبهرة عن الوجع الإنساني على خلفية سياسية واضحة، وقصيدة عن معنى الحياة والمنفى من خلال يوميات عمّال سوريين يبنون عمارات تنطح سماء بيروت، يُطلّون منها على هذه المدينة التي تمنع عنهم التجول كل مساء، ويستعيدون صور بلدهم الذي ينهار يوما بعد يوم، فيما نغمات البناء والتدمير تمتزج في خيالهم المعذّب.
في الفترة نفسها عُرض وثائقي آخر جاء من الجزائر، وهو “تحقيق في الجنة” لمرزاق علواش، ويروي تمثلات الجنة في أذهان الجزائريين، وفي مخيلات هؤلاء الذي يرتكبون أعمالا إرهابية في الغرب والشرق، وهو تحقيق أجرته صحفية شابة مع زميل لها بعد أن رأت أشرطة فيديو تنتشر على الشبكة العنكبوتية حول الموضوع.
حظي هذان الفيلمان (طعم الإسمنت وتحقيق في الجنة) باحتفال نقدي من أهم الصحف والمجلات الفرنسية، كما عُرض من الجزائر أيضا فيلم “أطلال” لجمال كركار، ويتحدث عن الوقوف على الأطلال كما كان يحصل في الشعر العربي القديم، وكان الفيلم يستذكر جزائر التسعينيات وهي تعيش في خضمّ الإرهاب، حيث ضاعت حياة الآلاف ونزح السكان هربا.
حضر الإرهاب أيضا على الشاشات الفرنسية من خلال الفيلم الروائي “ولدي” للتونسي محمد بن عطية، وركّز فيه على معاناة أب (محمد ظريف) بعد اختفاء ابنه الوحيد، ومحاولاته لمعرفة طريقه الذي كان كما يُتوقع نحو تركيا، وهذا قبل العبور النهائي إلى سوريا للالتحاق بصفوف تنظيم الدولة الإسلامية.
وكانت الحرب الأهلية اللبنانية حاضرة في الفيلم اللبناني “القضية 23” أو “الإهانة” حسب العنوان بالفرنسية للبناني زياد دويري، حربٌ لم تُمحَ آثارها رغم مرور سنين على انتهائها. و”الإهانة” هو الفيلم العربي الوحيد الذي ترشح للأوسكار العام الفائت، ويبين بذكاء كيف لخلاف بسيط في حارة بيروتية بين طوني (عادل كرم) المسيحي المؤيِّد للقوات اللبنانية، وياسر (كامل الباشا) اللاجئ الفلسطيني.. أن يتحول إلى قضية تشغل الرأي العام اللبناني وتصل إلى المحاكم، وكيف لهذا الحقد المتوغل في الأعماق والإحساس بالظلم والكراهية بين فئات تسكن المكان نفسه، أن تصعد إلى السطح عند أول بادرة.
دويري يحاول أن يبين أن النقاش العلني والصريح هو أفضل وسيلة للتخلص من الأحقاد والوصول إلى تسويات. هذا ما بدأ بالحصول بين بطليه، حيث بدا أن النظر وجها لوجه ومواجهة الماضي هو أفضل وسيلة لحلّ مشاكل الحاضر. وحصد الفيلم الذي شاركت فرنسا بإنتاجه إقبالا جماهيريا واسعا بالنظر إلى أنه فيلم “أجنبي” من “الأفلام الأخرى”.
ومن لبنان عُرض بالطبع “كفر ناحوم” للمخرجة اللبنانية نادين لبكي، وهو الفيلم الفائز بلجنة التحكيم في مهرجان كان، والمرشح ضمن القائمة القصيرة لأفضل فيلم أجنبي لجوائز الأوسكار 2019، ويطرح الفيلم كل المآسي الممكنة عن الطفولة واللجوء والفقر والتشرد، وذلك مع بطله الطفل السوري الذي يرفع صوته ضد الحياة الشقية التي قُررت له، فيرفع دعوى قضائية على والديه.
لقي الفيلم إقبالا في فرنسا لأسباب عدة منها فوزه في المهرجان الشهير كان، وبسبب أهمية قضية اللجوء في أوروبا والعالم، إضافة إلى استخدام الأطفال كأفضل وسيلة للحصول على تعاطف الجميع مع ما يطرحه الفيلم، وكذلك لكون مخرجته امرأة استطاعت فرض نفسها في عالم الإخراج في العالم العربي.
التوق إلى الحرية.. أيقونة أفلام المرأة العربية
ظروف المرأة العربية وأوضاعها التي تلقى رواجا في فرنسا تجلّت في أفلام اجتماعية، ولم تنسَ الإشارة إلى الأوضاع الراهنة المحيطة بها.
فيلم “جسد غريب” للتونسية رجاء عماري هو حشدٌ لمصادفات وقضايا، وذلك من هجرة غير شرعية وغرق وتطرف إسلامي وبحث عن الحرية والحبّ، وذلك من خلال قصة “سامية” الشابة التونسية التي تقرر الهجرة بطريق غير شرعي إلى فرنسا.
هذا البحث عن الحرية للمرأة كان أيضا مصدر إلهام للمخرج التونسي مهدي بن عطية في فيلمه “حبّ الرجال”، حيث تقرر البطلة الهاوية للتصوير (فقدت زوجها في حادث) الاعتماد على الرجال كنموذج (موديل) لها في بلد لا تزال أعراف الذكور فيه تخلط بين العلاقات، وتحيلها دوما إلى علاقات جنسية. لكن هذا الموضوع “المبتكر” للفيلم -أي أن تنظر المرأة إلى الرجل كما ينظر هو لها- سرعان ما يسقط في الافتعال والخواء، ويغدو مجرد تكرار لمشاهد للفتاة وهي تصور الرجال في أوضاع غريبة.
يدخل كذلك في إطار المرأة الباحثة عن حريتها وحقوقها فيلم “غزيّة” للمغربي نبيل عيوش، حيث تتقاطع فيه مصائر لشخصيات تنشد الحرية في مجتمع متحفز ضد ما يخالف أعرافه. ومن المغرب كان فيلم “صوفيا” لمريم بن مبارك الذي يثير قضية الحمل غير الشرعي، وذلك عبر قصة الشابة صوفيا التي عليها أن تقدم وثيقة زواج لقبول ولادتها في المستشفى، ويمضي الفيلم في عملية بحث طويلة عن الأب الذي لا ترغب صوفيا بالبوح باسمه.
توق المرأة للحرية تجسد أيضا في فيلم السورية غايا جيجي “قماشتي المفضّلة”، والتي وإن كانت الثورة السورية خلفية لأحداثها فإنها بقيت مجرد خلفية ليوميات نهلة (25 سنة) الموزعة بين رغبتها بالحرية وأملها بترك البلد من خلال زواج تقليدي من سمير الذي يفضّل عليها أختها المطواعة والأكثر انصياعا، وتختار نهلة طريق الجسد للتعبير عن الحرية التي تسعى إليها.
لكن هذا التوق للحرية والعيش بسلام يشمل المرأة والرجل معا في فيلم “وليلي” للمغربي فوزي بن سعيدي، وهو فيلم قاتم يرسم لوحة لعلاقة حب في مجتمع يدمر كل ما هو طازج بريء حساس وحالم، ففي قصة الحب التي تجمع بين عبد القادر الحارس في مركز تجاري حديث ومليكة الخادمة لعائلة ثرية، يصور الفيلم أوجاع مجتمع وتعاسة عائلة تنهال عليها المصائب من كل حدب وصوب.
واجب وريح الشمال.. أبعاد اقتصادية وسياسية
وكانت هناك في دور العرض أفلام اجتماعية لا تخلو من أبعاد اقتصادية وسياسية، وعلى سبيل المثال فيلم “واجب” لآن ماري جاسر من فلسطين، والذي يوصل برهافة مدى التفاوت في النظرة للحياة والمجتمع الفلسطيني والاحتلال الإسرائيلي بين جيلين في فلسطين، لا سيما بين هؤلاء الذين بقوا فيها وأولئك الذين غادروا منها، وبين “أبو شادي” في الناصرة و”شادي” ابنه القادم من روما لمساعدته في تحضير حفل زفاف أخته وتوزيع بطاقات الدعوة حسب التقليد الفلسطيني.
وكذلك فيلم “ريح الشمال” للتونسي وليد مطر، وقد صُوّر بين فرنسا وتونس، حيث مصانع تغلق في فرنسا لتنتقل إلى تونس بسبب رخص الإنتاج بين العامل الفرنسي الذي يقبل ما لا خيار له، وفؤاد التونسي العاطل عن العمل، والذي يرى في المصنع الجديد أملا جديدا لمعالجة أمه والتقرب من الفتاة التي يحب.
ومن مصر عُرض مؤخرا “يوم الدين”، وهو الفيلم الأول لأبو بكر شوقي الذي شارك في المسابقة الرسمية لمهرجان كان، وهو فيلم عن مرضى الجُذام والمصابين بعاهات مختلفة، فالفيلم يدخل عالمهم وعالم المهمشين في مصر سواء لبؤسهم أو لمرضهم أو لإعاقتهم، وذلك عبر قصة “بشاي” المصاب بالجذام ورحلة بحثه عن عائلته.
مع 700 فيلم جديد يعرض سنويا في فرنسا، يبدو عدد الأفلام العربية المعروضة ضمنها والذي لم يتجاوز العشرين إلى اليوم ضيئلا جدا، وإن كان هذا الرقم يزداد منذ ثلاث سنوات، هذا مع الإشارة إلى أننا استثنينا من عرضنا هذا الأفلام العربية التي تعرض في المهرجانات والتظاهرات السينمائية والثقافية الخاصة في فرنسا وهي كثيرة، واكتفينا فقط بتلك التي تُعرض في الصالات العامة التجارية، وتخضع لحركة العرض والطلب.
كما يُلاحظ أن الحضور السينمائي العربي على الشاشات الفرنسية أكثر ما يتركز في أفلام من بلدان المغرب العربي (المغرب وتونس والجزائر تحديدا)، وأن الأفلام العربية تلقى قبولا لجودة بعضها، أو لتعبيرها عن مواضيع تّهم الجمهور في فرنسا. وهي وإن كانت مستوحاة في معظم الأحيان -إن لم يكن كلها- من واقع اجتماعي صعب، فإن الواقع السياسي المزري في العالم العربي يتحمل ذنبا لا يغتفر من جملة هذا الواقع.