ترشيحات الأوسكار.. حضور حكايات النساء والأطفال وهروب من فضائح أمريكا
محمد علال

“دعونا نرفع أصواتنا معا ونقول لا للعنف ونعم للسلام، لا للرقّ ونعم للحريّة، لا للتمييز العنصري ونعم للمساواة ولحقوق الإنسان للجميع”.. إنها صرخة الناشطة العراقية نادية مراد من فوق خشبة التتويج بجائزة نوبل للسلام عام 2018 مُناصفة مع الطبيب الكونغولي دينيس موكويج، وقد جاء الحدث ليؤكد أن عام 2018 هو عام المرأة وقضاياها المتشعبة، وذلك بعد أن طفت على السطح عشرات فضائح التحرش الجنسي التي قادت نجوما كبارا إلى العدالة.
أعلنت أمس الثلاثاء “أكاديمية الفنون والعلوم السينمائي” القائمة النهائية للأفلام المرشحة رسميا لجائزة الأوسكار عام 2019، وضمت القائمة القصيرة خمسة أفلام هي “آر بي جي” إخراج كل من بيتسي ويست وجولي كوهين، و“عن الآباء والأبناء” للمخرج السوري طلال ديركي، و“تجليد الفجوة” للمخرج الأمريكي بينغ ليو، و“روح حُرّة” إخراج جيمي تشين وإليزابيث تشاي فاسارهيلي، و“مرحبا بكم في هذا الصباح” للمخرج رامل روس. وبهذا نلحظ كيف أن “نون” النسوة وقضايا الأطفال هما أكثر ما شدّ انتباه أعضاء لجنة اختيار الأفلام.
المرأة تصنع الصورة الوثائقية
حجزت حكايات النساء اللواتي لهن بصمة هامة في تاريخ الإنسانية مكانا رسميا في فئة الأفلام الوثائقية، وهو ما يتجسد هذه المرّة في الفيلم الوثائقي الأمريكي “آر بي جي” (RBG) إخراج كل من بيتسي ويست وجولي كوهين.
ويركز الفيلم على قصة القاضية الأمريكية الشهيرة “روث بادر غينسبورغ” التي تعتبر ثاني امرأة تتولى منصب القاضية العليا في المحكمة العليا للولايات المتحدة الأمريكية عام 1993، وتعتبر واحدة من أربع نساء تولين هذا المنصب الحسّاس.
الفيلم الذي تم تقديم عرضه الأول بمهرجان “صندانس السينمائي” حقق 14 مليون دولار في جميع أنحاء العالم، وقد تم اختياره من قبل المجلس الوطني للمراجعة كأفضل فيلم وثائقي لعام 2018.
وقد وقف في الصف 15 فيلما وثائقيا طويلا من أصل 166 فيلما تقدمت للترشح للدورة الـ91 لجوائز الأوسكار، منها ثمانية بتوقيع نسائي، وهي أفلام قادمة من الولايات المتحدة الأمريكية وآسيا تحديدا، وتناقش مواضيع آنية تتعلق أساسا بالظلم والعنصرية وحكايات نساء العالم، وهي المرة الأولى التي يجتمع فيها هذا الكمّ الهائل من “أفلام المرأة” منذ أن تأسست الجائزة عام 1942.
من خلال النظرة الأولى في الأفلام التي تم ترشيحها، نجد أن القائمة كانت تسير و”على كتفيها” أبرز قضية هزّت العالم وزلزلت الرأي العام، وتلك القضية التي قضت مضاجع الأنظمة العربية الحاكمة كما يشير عنوان الفيلم “على كتفيها” (On Her Shoulders) للمخرجة الأمريكية ألكسندرا بومباي، وقد قررت هذه الأخيرة أن تحكي قصة الناشطة العراقية نادية مراد (23 عاما)، وتفاصيل المعاناة التي واجهتها، وجعلت من جائزة نوبل للسلام نصيبا لها.
من جهة ثانية، يؤكد اختيار فيلم “آر بي جي” (RBG) اهتمام الأوسكار بأفلام السير الذاتية، فلم تختف مواضيع السير الذاتية عن القائمة القصيرة على مدار جوائز الأوسكار، وقد حققت عدة جوائز في فئة الأفلام الوثائقية، ربما أبرزها مؤخرا فيلم “المواطن الرابع” للمخرج لورا بويتراس، ويحكي قصة العميل الشهير إدوارد سنودن، وقد حاز الفيلم على أوسكار أفضل فيلم وثائقي عام 2014.
وقد تفوقت السيرة الذاتية للمرأة الرمز على قصص الرجال ممن لهم بصمة هامة في تاريخ أمريكا، وذلك بعد أن شملت قائمة الـ15 فيلم “ألم تكن جاري؟” للمخرج مورغان نيفيل، والذي قرر التوغل في كواليس حياة المقدم التلفزيوني والموسيقي الأمريكي “فريد روجرز” الملقب بالأب الروحي للبرامج التلفزيونية التعليمية للأطفال، وقد كرمه الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش عام 2002 بوسام الحرية، ويعتبر الفيلم الوثائقي الأعلى ربحًا على الإطلاق في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، حيث حقق 22 مليون دولار منذ عرضه الأول في مهرجان “صندانس السينمائي”.

الأطفال.. قصص مأساة ووجع وحروب
من بين أربعة أفلام طَرحت موضوع الأطفال الذي يجدون أنفسهم في مواجهة مع الموت والحروب، وقع الاختيار رسميا على فيلم “عن الأباء والأبناء” للمخرج السوري طلال ديركي، والذي صنع الفارق في تاريخ الأفلام الوثائقية للمخرجين السوريين، وهو الفيلم الذي يدخل المنافسة بحكاية عن واقع عربي متعب لتفاصيل الوجع السوري الذي قسّم أبناء الشعب الواحد، وقد تحولت البلاد إلى طوائف متناحرة يدخل فيها الأطفال في حرب لا يعرفون أسبابها ولا نهايتها، لكنها حرب تورث العنف والكراهية.
الحكاية تشبه إلى حد ما مأساة أطفال الفيلم الوثائقي الأوكراني “نباح الكلاب البعيد” (The Distant Barking of Dogs)، والذي كان في قائمة الـ15 فيلما، وركز الفيلم على قصة طفل أوكراني يدعى ألكسندرا أوليغ (10 سنوات)، حيث يجد نفسه على بعد خطوات من خط المواجهة مع الحرب في شرق أوكرانيا.
في تلك البلدة الصغيرة تذبل أحلام الطفل وأصدقائه بعد أن فرّ الجميع هربا من جحيم الحرب، أما الذين لم يتمكنوا من الهرب فلم يكن أمامهم سوى البحث عن منافذ أخرى تبقيهم على قيد الحياة، هكذا يأخذنا الفيلم في رحلة إلى عالم موحش يشبه فيها صوت الرصاص نباح الكلاب المسعورة وسط الظلام، ويطرح الفيلم سؤالا محوريا: ما شكل الندوب التي تتركها الحروب في هذا الجيل الذي سيحمل المستقبل؟
لا يختلف اثنان على أن أبشع ما في الحروب محاصرتها للأطفال الأبرياء الذين لا ذنب لهم في الحياة سوى أنهم ولدوا في مجتمعات لا ترحم، غير أن المخرجة البولندية آنا زاميكا خرجت من السباق بعد أن قدمت حكاية أكثر حزنا في عالم الأطفال بعنوان “طائفة” (Communion)، وهو فيلم يضعنا في قالب آخر للاضطهاد الذي يعاني منه أطفال ولدوا كبارا.
فحكاية الطفلة علا (14 عاما) تختزل معاناة مئات أطفال العالم، حيث تجد نفسها محاصرة منذ ولادتها بالأزمات، وتضطر منذ صغرها للتكفل بأخيها الذي يعاني من مرض التوحد ووالدها المقعد، ويحمل الفيلم شكلا من أشكال كفاح الأطفال، ويعكس في المقابل كيف يمكن للحب أن يصنع حياة جميلة رغم المشاكل والأحزان.

“مهرجان صندانس”.. بوابة المخرجين نحو الأوسكار
إذا كان مهرجان كان السينمائي الدولي وجائزتا “البافتا” و”غولدن غلوب” بوابة الأفلام الروائية الطويلة نحو الأوسكار، فإن مهرجان صندانس السينمائي الدولي أصبح بوابة معظم مخرجي الأفلام الوثائقية نحو الأوسكار الأولى.
فهذا المهرجان الذي تأسس عام 1978 من طرف النجم روبرت ريدفود بهدف دعم السينما المستقلة ومواجهة عالم الإبهار الذي ترسمه الأوسكار، تحوّل مع مرور الزمن إلى بوابة المخرجين إلى الأوسكار، فمعظم الأفلام التي تخطف جوائز “صندانس” تجد لها مكانا بشكل أو بآخر في قوائم الأوسكار.
هكذا تنقلنا اختيارات أكاديمية الأوسكار إلى أشكال التحدي لدى بعض الأطفال، وهو مادة لفيلم آخر ضمن القائمة النهائية بعنوان “تجليد الفجوة” (Minding the Gap) للمخرج الأمريكي بينغ ليو، والذي يرافق بكاميراته ثلاثة مراهقين يحاولون الهروب معا من قوانين العائلة المزاجية، ويقررون تحمل مسؤوليات أكبر من سنهم لتحقيق أحلامهم.
ويعتبر هذا الفيلم جزءا من ثلاثة أفلام أخرى مرشحة للأوسكار تحمل نفس الروح تقريبا في سردها لقصص الأصدقاء، كما هو شأن فيلم “مرحبا بكم في هذا الصباح” للمخرج رامل روس، والذي دخل المنافسة رسميا بحكاية اللحظات الحميمة لأناس يعانون في مجتمعات لا ترحم.
وبعد أن نجح متسلق الصخور المحترف أليكس هونولد في تسلق صخرة عمودية بطول 900 متر في “متنزه يوسمايت” بالولايات المتحدة الأمريكية؛ استطاع أن يقنع بحكايته لجنة الأوسكار، والتي استقر بها الأمر عند اختيار فيلم “روح حُرّة” (Free Solo) إخراج جيمي تشين وإليزابيث تشاي فاسارهيلي اللذان رافقا بكاميراتهما رحلة المتسلق العنيد.

أفلام متميزة تخرج من السباق
لقد ظلت مسابقة الأوسكار في فئة الأفلام الوثائقية محطّ جدل ونقاش، وهو ما يعكسه التصريح الشهير للمخرج الأمريكي الأكثر ترشيحا وفوزا بجائزة الأوسكار في فئة الفيلم الوثائقي؛ تشارلز غوغنهايم (1924-2002)، والذي قال عن مساره المتوج بثلاث جوائز أوسكار في فئة الأفلام الوثائقية “في وقتي، لقد قُدمت الكثير من الأفلام الوثائقية الجيدة، لكنني فخور للغاية بكل أعمالي”، وهو يشير بذلك إلى الزخم الكبير في صناعة الأفلام الوثائقية الجيدة عبر التاريخ، رغم أن نسبة التركيز الإعلامي على فئة الأفلام الوثائقية في حفل توزيع الجوائز بمسرح “دولبي” بلوس أنجلوس الأمريكية يوم 24 فبراير/شباط القادم يمكن وصفها بالمتواضعة، مقارنة بالتركيز على أوسكار أفضل ممثل وأفضل فيلم روائي طويل.
على هذا النسق؛ خرج من السباق الفيلم الوثائقي “شيركيرز” للمخرجة السنغافورية المولد ساندي تان، فهذه الأخيرة التي سطع نجمها عبر بوابة مهرجان “صندانس السينمائي” بفوزها بجائزة الإخراج عن فيلم (شيركيرز)؛ لم تتخطَ في الأخير عتبة الـ15 فيلما التي كانت مرشحة للأوسكار.
تعود حكاية الفيلم المنتج من طرف شركة نيتفليكس إلى الذاكرة والأرشيف، حيث قررت ساندي أن تحكي حكايتها عندما كانت فتاة دون سن العشرين، وتحلم بإخراج أول فيلم روائي طويل وسط تحديات كبيرة في مدينة لم تعرف السينما من قبل، وتؤكد تجربة ساندي أن المحاولات الأولى حتى وإن فشلت يمكنها أن تتحول لاحقا إلى مشروع سينمائي كبير يشق طريقه نحو الأوسكار.
يعتمد الفيلم على المادة الأرشيفية وكواليس تصوير الفيلم الروائي الذي لم يرَ النور، وتضع المادة المصورة في قالب وثائقي بشكل فني متميز، لتحكي التجربة وتتوغل في الكواليس والأحلام التي ولدت معزولة. وتكمن أهمية الفيلم في كونه يقدم للعالم اسما جديدا في عالم الإخراج قادما من سنغافورة، والتي تعتبر بها الصناعة السينمائية متواضعة جدا خاصة بالنسبة للمرأة، كما تشير الأرقام إلى أن ساندي هي ثاني مخرجة من أصول سينغافورية تحقق نجاحات كبيرة، وذلك بعد تجربة المخرجة كريستين تان.
كما غادر المنافسة فيلم “ثلاثة غرباء متطابقين” (Three Identical Strangers) للمخرج تيم واردل وبطولة إدوارد غالاند وديفيد كيلمان وروبرت شافران، والذي يسلط الضوء على قصة شهيرة في الولايات المتحدة؛ لثلاثة توائم تم تبنيهم كرُضّع لمدة ستة أشهر من قبل عائلات منفصلة، غير مدركين أن كل طفل كان له إخوة.
ولم تلتفت اللجنة إلى “صمت الآخرين” (The Silence of Others) للمخرجة الإسبانية المودينا كاراسيدو والأمريكي روبرت بحار الذي دخل المنافسة بحكايات إنسانية، وكما يوحي العنوان فالأمر يتعلق بالمقاومة، وهو يتحدث عن ضحايا الدكتاتورية الإسبانية التي استمرت 40 عامًا تحت حكم الجنرال فرانكو.
ويركز العمل الذي تم تصويره على مدى ست سنوات على حكاية النساء والرجال الذين نجوا بأعجوبة من عذاب الدكتاتورية، وما زالوا إلى يومنا هذا يطالبون بتحقيق العدالة، ويرفضون نسيان الماضي الأليم.
حكاية كهذه تقلق السلطات الإسبانية، وتفتح جراحا عميقة جدا نلمسها في شهادات الضحايا، منهم تلك السيدة العجوز التي خسرت وعانت الكثير من الظلم والاستعباد، وهي اليوم تقول إنها لا تحتاج إلى مساحيق الجمال أو كريمات تُخفي تجاعيد الوجه، وإنما تريد للعدالة أن تتحقق، فهي ترفض أن تنهزم الذاكرة بعد أربعة عقود من الديمقراطية في إسبانيا.
جرائم وفضائح أمريكا لا تشد الأوسكار
عادة ما يتناقل الناس حكايات سحر المدن في أمريكا، فهي حكايات رغد العيش والجمال والحسناوات وناطحات السحاب والعدالة والحقوق بالنسبة لملايين الناس الذين يقصدون المدن الأمريكية، سواء للسياحة أو الدراسة أو العمل، لكن “سحر المدينة” (Charm City) بالنسبة للمخرجة الأمريكية مارلين نيس هو عنوان لفيلم وثائقي أمريكي يكشف الوجه الآخر لمدينة بالتيمور التي تعتبر أكبر مدن ولاية ميريلاند الأمريكية.
قررت المخرجة الأمريكية وشركة نيتفليكس قراءة ملامح تلك المدينة الساحرة بطريقة مختلفة، وذلك من خلال التركيز على تفاصيل تلك السنوات الثلاث من أعمال العنف التي عاشتها المدينة بالتيمور، وكيف تحولت إلى حلبة صراع بين مجموعة من الشرطة والمواطنين والمسؤولين الحكوميين، والتي فجرت موجة من العنف والكراهية والغضب بين الناس، وخلفت عشرات القتلى ومئات الجرحى، وتخريب العديد من المنشآت.
هكذا تخرج من السباق الأفلام التي تناولت موضوع الجريمة داخل الولايات المتحدة الأمريكية، كما هو شأن المخرج الأمريكي ستيفن مينغ في فيلمه “الجريمة والعقاب” (Crim + Punishment) الذي نقلنا إلى نوع آخر من الجريمة غير معروف، ويعتبر الحديث عنه نوعا من المحظور، عندما يتحول ضابط الشرطة إلى مجرم حقيقي يستخدم قوته للحصول على امتيازات بشكل غير قانوني، وهو فضيحة هزت أمريكا عام 2010 عن قصة مجموعة من ضباط الشرطة بولاية نيويورك الأمريكية.
شأنه في ذلك شأن حكاية فيلم “المال الأسود” الذي تطرق إلى شكل آخر من أشكال الجريمة، ربما هو الأكثر تعقيدا، حيث اختارت المخرجة الأمريكية كيمبرلي ريد هذا العنوان “المال الأسود” (Dark Money) لتتحدث عن تأثير أصحاب الثروة والشركات الكبرى على السياسية الأمريكية. وركز الفيلم الذي قدم عرضه الأول في مهرجان “صندانس السينمائي” على تفاصيل الفضيحة في ولاية مونتانا، وكيف نجح المال الأسود في التأثير على صناديق الاقتراع لسنوات طويلة.