“الثقافة الطبية في السينما”.. السينما في بعدها الإنساني
المصطفى الصوفي

كان “عبد السلام“ الطفل المفعم بالحيوية والنشاط يحلم بأن يكون مثل باقي أقرانه يتمتع بصحة جيدة، ويعشق اللهو حدّ الإعياء، ويلعب لعبة الغُميضة مع أترابه بالقرب من حيوانات أليفة لم تكن عنيفة وعنيدة كفاية للابتعاد عن الضيعة، فكان ذلك يساعد الأطفال وهم يمرحون على أخد الوقت الكافي لممارسة لعبتهم المفضلة.
لا أحد كان يُصدق أن عبد السلام سيستمر في معاناته مع المرض، فالآلام تنخر قدميه إلى حدّ أنه لا يقوى على المشي ولا قضاء حاجياته. إنها صورة مؤلمة وقاسية لحدث واقعي حاول الدكتور والمخرج بوشعيب المسعودي معالجته معالجة خلاقة، وذلك في فيلم وثائقي بعنوان “أسير الألم“، والذي شكل نموذجا حيّا لواقع معاناة واحدة من الأسر المغربية الفقيرة مع المرض.

بوشعيب المسعودي.. ما بين السينما والطب
“بوشعيب المسعودي” الطبيب المختص في أمراض العظام والمفاصل والروماتيزم؛ لم يمنعه عمله المهني من ولوج عالم السينما كمخرج ومنتج، إضافة إلى دخوله عالم الكتابة، وذلك بتأليفه العديد من الإصدارات، منها “الوثائقي أصل السينما“ عام 2012، والمجموعة القصصية “شذرات من حياتي.. شيء من الواقع، وشيء من الخيال“ عام 2017، فضلا عن المشاركة في إنجاز العديد من الكتب منها “حقوق الإنسان في الفيلم الوثائقي” عام 2015، و“الصمت في السينما“ عام 2018، وتأليفه لمسرحية “حركة“ التي فازت بجائزة أفضل نص في إقصائيات جهة بني ملال خنيفرة لجمعية أصدقاء محمد الجم للمسرح المدرسي، والجائزة الثالثة للمسرح المدرسي بإقليم خريبكة عام 2018.
وإلى جانب إخراج الدكتور المسعودي (وهو فنان محترف للتصوير الفوتوغرافي) لفيلم “أسير الألم” الذي تُوّج بالعديد من المهرجانات الوطنية والدولية، أخرج أيضا فيلم “أمغار” عام 2018، وهو وثائقي يحكي قصة شخصية قبلية قوية بطقوسها وعاداتها في مناطق جبال الأطلس، وعلاقتها بقيم المجتمع والتاريخ والحياة.
“الثقافة الطبية في السينما“ هو جديد الدكتور بوشعيب المسعودي، فمن خلاله يؤكد الناقد أحمد سيجلماسي أنه يقرب القارئ من عوالم الكثير من الأمراض، وذلك عبر معطيات تعرف آفات التدخين مثلا، والسمنة والسرطان وداء فقدان المناعة المكتسبة، كما يُطلع المتلقي باعتباره عاشقا لمشاهدة الأفلام السينمائية منذ مراحل التعليم الأولى على كيفيات حضور هذه الأمراض في عينات من الأفلام الأمريكية وغيرها.

السينما والطب.. أيهما في خدمة الآخر؟
لقد جمع الدكتور المسعودي في هذا الكتاب ثقافتين؛ الأولى طبية والثانية سينمائية، وبهذا الجمع وضح الدكتور بأن السينما كفن يمكنها أن تضطلع بأدوات مهمة لفائدة المجتمع والإنسان، وتتجلى بعض هذه الأدوار في التوعية بخطورة بعض الأمراض، وإدانة المتسببين في انتشارها واستفحالها (شركات الوجبات السريعة وشركات التبغ وغيرهما)، وبالتالي ما أحوج القارئ إلى مثل هذا النوع من المؤلفات بأسلوبها البسيط والواضح، وبصدق مؤلفها ورغبته في تقاسم ما لديه من معارف وتجارب مع الآخرين.
في هذا السياق يكون جمهور كثير، وفي محطات عديدة قد التقى وشاهد أفلاما سينمائية تعالج قضايا تخص المرض من وجهة نظر علمية أو إنسانية أو مجتمعية، بالتالي فإن كتاب المسعودي تطرق إلى هذا المعطى من جوانب متعددة، وذلك من خلال الحديث عن السينما في علاقتها بالكثير من الأمراض والآفات، مثل التدخين والإعاقة والبدانة والتوحد وداء السكري والتبرع بالأعضاء البشرية والروماتيزم، وغيرها من الأمراض التي تجعل هذا المُؤَلَّف وثيقة مهمة تكشف القناع عن الكثير من التجارب السينمائية، والتي عالجت تلك القضايا بعيدا عن أفلام الحركة و“الآكشن” والحرب والحب والرومانسية.
وإذا كان الجمهور غالبا ما يذهب إلى القاعات السينمائية بحثا عن فرجة سينمائية ممتعة بعيدا عن كل ما يمكنه أن يُعكر مزاجه فيتألم، فإن التجارب التي يقدمها الدكتور المسعودي في مُؤلَّفه الجديد لها من الصدمة ما يذرف الناس من أجلها الدموع ويؤثر فيهم بشكل كبير.
وهنا تبرز قوة الأفلام لدى مخرجيها، ومدى نجاحها في إيصال الرسالة، وبالتالي فإن المخرجين أو المبدعين عموما القريبين من عالم الطب يجسدون تلك العلاقة التي تجمع الطب بالأدب والثقافة والفنون، ومن هنا يؤكد المسعودي عبر مُؤلَّفه أن الطبيب يكون دوما في اتصال إنساني مباشر مع العقل والعاطفة والجسم، فالمستشفى والعيادة يعجّان يوميا بمئات المرضى المرهقة أرواحهم، يرافق بعضهم ويشرف على علاجهم وشفائهم، وتبقى حالات البعض منهم معلقة بين الحياة والموت.

السينما الوثائقية.. ملامسة هموم الإنسان
عن هذا المؤَلَّف يؤكد الدكتور المسعودي أن السينما بشكل عام -وخاصة الوثائقية منها- تكون دائما قريبة من هموم وقضايا المجتمع وكل ما يتعلق بالإنسان، ما حدا بكثير من المخرجين إلى ملامسة تلك القضايا -وخاصة التي تهم صحة البشر- بطرحها سينمائيا، مبرزا أن مؤلّفه تطرق إلى كثير من الأفلام منها “أبقراط” لتوماس ليتي، و“طبيبة البادية” عام 2016، و“السنة الأولى” عام 2018، والفيلم الوثائقي “التبغ المؤامرة“، فضلا عن فيلم “تصريحات” للمخرج الأمريكي مايك مان الذي تناول آفة التدخين، وهو الفيلم الذي حصل على جائزة الأوسكار عام 2000، وجائزة غولدن غلوب بسبب جديته وجرأته وموضوعه والأداء المقنع لممثليه.
وعن السينما وعلاقتها بالإعاقة أكد المسعودي أن السينما عبرت عنها منذ بدايتها ومنذ عصر الأفلام الصامتة، وقد أبرزت عيوب التشوهات الخلقية وعرضت المصابين، وكانت أعمالا محدودة، ومع مرور الزمن أصبحت الأفلام تمرر الشخصية الإنسانية في شخصية الأعمى والأصمّ والأبكم والمبتور، كما أصبحت الإعاقة تحمل قيمة أخلاقية إيجابية أو سلبية، ومن تلك الأفلام العربية والمغربية التي عالجت هذا الموضوع فيلم “قاهر الظلام” لعاطف سالم، و“السفر الماضي” للمغربي أحمد بولان.
السينما والطب.. أفلام عالجت قضايا طبية
ومن الأفلام التي ركز عليها الدكتور في مؤلفه الجديد لمناقشة قضية السينما والطب؛ فيلم “الخط المستقيم” للمخرج الفرنسي ريجيس واربني، والذي يقدم (98 دقيقة) صعوبة تقبل عاهة العمى، وكيفية التغلب عليها والتعايش معها، وذلك من خلال قصة ليلى التي غادرت السجن بعد قضاء خمس سنوات وراء القضبان بعيدا عن ابنها.
كما لامس الدكتور قضية المنغولية من خلال فيلم “اليوم الثامن” للمخرج البلجيكي جاكو فان دوغميل، و“الإيدز” من خلال الفيلم الأمريكي “فيلادلفيا” بطولة الممثل توم هانكس وإخراج جونتان ديم، وكذلك مرض السرطان من خلال فيلم “50/50” لمخرجه الأمريكي جونتان لوفين، والسينما والسمنة من خلال فيلم “سوبير سايز” للمخرج الأمريكي مورغان سبوغلوك.
ولامس أيضا مرض السكري من خلال أفلام عديدة منها “العراب” للفورد كوبولا بطولة آل باشينو، و“غرفة الهلع” لديفيد فانشر، و“12 قدم عمق” للمخرج مات إسكنداري، و“فتاة بريست” إخراج إيمانويل بيركوت عام 2016، فضلا عن الفيلم الوثائقي من “أجل بعض الشوكولاتة” للفرنسية فانيسا كوتبي، وهو فيلم يحكي عن فقدان البراءة والتعلم الجماعي والأولي لمرضى السكري.

التوحد والتبرع بالأعضاء.. شهادة إنسانية
وكان لمرض التوحد حيز كبير في مؤلف المسعودي، وذلك لما لهذه المتلازمة النفسية والجسدية التي لم يجدوا لها علاجا حقيقيا؛ من وقع نفسي ومادي ومعنوي على الكثير من الأسر في العالم.
ويؤكد الدكتور أن المؤَلَف تطرق إلى هذا الموضوع من خلال عينة من الأفلام منها “أنا سام” للمخرج جيسي نيلسون، و“راين مان” للمخرج باري ليفنسون، وحاز هذا الفيلم على أربع جوائز أوسكار سنة 1989، ويكشف القدرات الفكرية المتفاوتة لدى الأطفال وهم غير متساوين، فمنهم من يعاني من عجز ذهني عنيف، أو يتوفر لديه ذكاء حاد ومتفوق، وهي قدرات تم استغلالها في أفلام كثيرة تُعنى بمرض التوحد، ولقيت انتشارا واسعا وحققت نجاحا كبيرا، وذلك لما لها من إمكانيات سرد قوية مثل ريمون بابيت في فيلم “راين مان“، وهي شخصية قوية في الرياضيات أبانت عن مهارات عالية كقيامها مثلا بحسابات عسيرة في الكازينو لأوراق اللعب. هذا إضافة إلى فيلم “فوريست كامب” للمخرج روبير زيمكيس، والذي حاز على ست جوائز أوسكار عام 1995، و32 جائزة دولية و41 ترشيحا.
ومن الأفلام التي اعتنت بموضوع التوحد أيضا؛ فيلم “حب الأم” لكريك شامبيون، و”منارة الدلافين” لجيراردو أوليفاريس، و”مولي” لجون دويكان، و”مجنون الجب أو موزار والحوت” لبيتر نيس، والفيلم الهندي “اسمي خان” لمخرجه كرا جوهار، وبطولة شاروخان.
وهناك أفلام تطرق إليها المؤلف اهتمت بالخصوص بقضية التبرع بالأعضاء، ومنها “إصلاح الأحياء” لكاتيل كليفيري، و“سبعة أرواح” لغابرييل موريسينو، والفيلم المصري “جري الوحوش“، وأخرى عالجت مرض الروماتيزم.
وركز المسعودي على فيلمه “أسير الألم“، الذي يؤكد أن هذا العمل المتميز الذي قدم العديد من الشهادات ورأي بعض الباحثين والأكاديميين والمختصين في الروماتيزم وعلم الاجتماع حول معاناة المصاب عضويا ونفسيا؛ يعبر عن مأساة جُلّ العائلات التي يعيش معها مريض مزمن أو معاق، مبرزا أن الحالة تُشخص السجن والمعاناة التي يعيشها البطل مع أفراد أسرته والمحيطين به.
إنه شهادة إنسانية حية ورسالة أمل بطلها سجين يفكر أحيانا بالتخلص من نفسه لأنه أصبح عالة، لكنه في الوقت ذاته يتقبل المرض.
هذا الفيلم تُوج في العديد من المناسبات الوطنية والدولية من أبرزها حصوله على جائزة أفضل فيلم وثائقي لسينما العام بالدورة الرابعة للمهرجان الدولي للفيلم بدلهي سنة 2015.
تلك إذن هي بعض القضايا التي لامسها الدكتور المسعودي في مؤلفه الجديد (صمم غلافه الفنان المهدي يقين، وصدر عن مطبعة ياموس)، وتلك هي السينما في بعدها الجمالي والإنساني والمجتمعي. هذه الفرجة الممتعة والمؤلمة، سينما عالجت آفات وأمراض وآلام ومواجع لتستمر الحياة والعيش، فما أضيق هذا العيش لولا فسحة الأمل وسحر السينما.