“السجادة الحمراء” في غزة.. يوم تهزم السينما شبح الموت

أسماء الغول

لم تستطع الحرب أو تهديدات الجماعات المتطرفة أو المضايقات الأمنية أن توقف مهرجان “السجادة الحمراء لأفلام حقوق الإنسان” في غزة للسنة الخامسة على التوالي، أو أن تمنع سكان القطاع من أن يخطوا على السجادة الحمراء وسط مباني غزة القديمة، ليمشي عليها من يريد ذلك من أهالي المدينة المحاصرة، التي لم تشهد فرحا ودهشة منذ زمن طويل كما يحدث الآن. بل أصبح هذا المهرجان يكبر ويتطور عاماً بعد عام، ليكون عنوان السينما في غزة، وربما يشهد يوما ما حضور ممثل أو ممثلة عالميين ليشاركوا البسطاء في المشي على السجادة الحمراء.

ما يميز المهرجان هذا العام الذي يأتي تحت شعار “أنا إنسان” أنه يحدث على أنقاض “سينما عامر”، وهي ثاني سينما تم افتتاحها في غزة عام 1952، وذلك بعد افتتاح “سينما السامر” في أربعينيات القرن الماضي، والتي ظلت مغلقة لعقود بشكل إجباري، ليأتي القائمون على المهرجان وينظفوها ويُعيدوا صبغها ويُنصِّبوا الشاشة فيها بعد الحصول على إذن ورثتها.

بَيد أن عدة أسباب حالت دون إقامة المهرجان داخل السينما، أو أن يتحقق الحلم أخيراً، وأهم هذه الأسباب هي وصول تهديدات أمنية بتخريب المكان في حال تم افتتاح السينما، ما جعل الورثة يتراجعون عن موافقتهم لافتتاح المكان، وبدلاً من قول الحقيقة تم تصدير أسباب تتعلق بأن المكان لا يصلح كبناء لاستيعاب الجماهير، رغم أن هذا هو أول أمر تم التأكد منه حين تم تنظيف السينما، بل تم التأمين على المكان عند إحدى شركات التأمين الشهيرة في فلسطين، وذلك بحسب حديث حصري للجزيرة الوثائقية من قبل مدير المهرجان خليل المزين الموجود في تركيا حاليا.

 

على شاطئ غزة.. حلم يتحقق

بدأ مهرجان السجادة الحمراء عام 2015 على أنقاض حيّ الشجاعية الذي دمرته إسرائيل في حرب صيف 2014، كما ظلّ خليل المزين يحلم بأن يقيم المهرجان بمحاذاة البحر الأبيض المتوسط على شاطئ مدينة غزة يوما ما، ليتحقق حلمه في نسخة المهرجان الثالثة عام 2017، التي أُقيمت على اللسان البحري لميناء الصيادين.

أما حلمه في افتتاح المهرجان الذي استمر منذ الرابع من ديسمبر/ كانون الأول وحتى 11 الجاري في واحدة من صالات السينما المغلقة منذ ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي؛ فإنه لم يتحقق، بل تم عرض فيلم “غزة” للمخرجين “غاري كين” و”أندرو ماكونيل” كفيلم للافتتاح، وذلك على بوابة قاعة سينما “عامر”، بعد أن تم إغلاق الشارع الذي يتوسط المدينة.

غطّى المنظمون البوابة بقطعة قماش بيضاء ضخمة، لتتحول إلى شاشة عبر جهاز عرض “بروجكتر” من أقوى وأحدث الأجهزة تم استيراده خصيصا للمهرجان، وتقابل الشاشة السجادة الحمراء المفروشة بالشارع بين الكراسي. هكذا أصبح المشهد أهم من افتتاح سينما قديمة، حين تحوّل الشارع كله إلى سينما تزدحم فيها أجيال شابة أغلبها لم يشاهد سينما في حياته.

 

“سينما عامر”.. حين يزورها الأطرش وأسمهان

لا يوجد تدوين حاسم لتاريخ السينما في القطاع إلا على هامش مذكرات بعض الشخصيات الفلسطينية المعروفة، أو ما تم تداوله من معلومات التاريخ الشفهي، ويفيد أغلبها أن أول سينما في قطاع غزة كانت عام 1944، وذلك حين قام الحاج “رشاد الشوا” بالحصول على ترخيص لـ”سينما السامر”، وأتى بالقماش الأبيض من مدينة المجدل الفلسطينية، بينما جلب الأجهزة من أوروبا والأفلام من مصر عبر القطار، وكانت الجماهير تشاهد الأفلام والطائرات تحلّق فوقها في الحرب العالمية الثانية.

وزار هذه السينما الفنان فريد الأطرش وشقيقته المطربة أسمهان وسط حضور حاشد من الجمهور، وبعد عام 1948 بدأت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين “الأونروا” بعرض أفلام مُوجهة للاجئين في عربات متنقلة بين المخيمات تحوي أفلاماً حول النظافة الشخصية، ويقال إن هذه الطريقة كانت تقليدا لعربات السينما المتنقلة التي أدخلها مصريون إلى غزة، وعرضت مشاهد لتدريبات الجيش المصري، وكان مكتوباً على العربات قافلة الاستعلامات.

سينما النصر في غزة

 

دور السينما.. بين المنافسة والتحريض

وبعد عام 1952 أصبح في غزة “سينما عامر” و”سينما النصر” الممتدة على مساحة 3000 متر مربع، وأصبح عدد دور السينما في ازدياد خاصة في السبعينيات، لتصل إلى حوالي عشرة دور للسينما، منها “النهضة” و”السلام” و”صابرين” في مدينة رفح، و”الحرية” في مدينة خانيونس، وصالات “النصر” و”الجلاء” في مدينة غزة.

وتم إغلاق “سينما السامر” عام 1969، فأغلب الأفلام كانت تأتي من مصر حتى عام 1967، وبعد الاحتلال الإسرائيلي بدأت تأتي أفلام من إسرائيل، وفي السبعينيات ظهر التنافس التجاري بين دور العرض هذه حتى الثمانينيات، وذلك حين تصاعد التحريض ضد هذه الدُور، ليتم تدمير بعضها وإغلاق الأخرى أو تحويلها إلى صالات أفراح.

لقطة من إحدى الأفلام التي تم عرضها في مهرجان السجادة الحمراء في غزة

 

أول فيلم في السينما.. عن دهشة المُشاهدة

يقول خليل المزين: بدأ التحريض الديني ضد هذه الدور مبكرا جدا، بعد أن ركزت بعض الجماعات على التغيير الاجتماعي في أواخر السبعينيات، لكن قوتها ازدادت في الثمانينيات مع إحراق صالات السينما وتدميرها وتحويلها لأغراض أخرى كجمعيات ومكتبات وصالات، كما أن ظهور التلفزيون جعل اهتمام المجتمع بالسينما في ذلك الوقت يتراجع.

يضيف المزين بابتسامة: أول فيلم شاهدته في السينما كان فيلم “هذا أحبه وهذا أريده”، لقد جعلني أعيش في عالم آخر، ولستُ وحدي بل أبناء مخيم الشابورة كلهم، فكان عن اثنين يحبان الفتاة ذاتها، وأغلبه مُصَوَّر في حدائق مصر، ما جعله مُدهشا لأهل المخيم الذي كانت بيوته أغلبها من الرمل والإسمنت”.

ويتذكر المزين كيف دخل والده صالة سينما السلام في رفح يبحث عنه حين كان يحضر فيلم “سونيا والمجنون” عام 1974، فأخذ ينادي في العتمة “خليل، خليل”، والناس يتبرمون منه ويصرخون عليه، فتسلّل خليل تحت الكرسي مُختبئاً، إلا أنه أشفق على والده من صراخ الناس عليه، وما لبث أن تم توقيف العرض، فهرب خليل من الباب الخلفي للسينما خوفا من عقاب والده الذي جاء لاحقا بالتأكيد.

 

الإرث الثقافي.. هل ستُفتح دور السينما من جديد؟

وحول محاولتهم إعادة افتتاح “سينما عامر” هذا العام، يبرر المزين: لماذا كنا نلهث وراء افتتاح ما تبقى من دور العرض في غزة، وهما “سينما النصر” و”سينما عامر” اللتان أُحرقتا مرات عديدة من قبل جماعات متطرفة؟ لأن هذا جزء من تاريخنا وتراثنا وثقافتنا وذكرياتنا، مثله مثل أي معلم من معالم المدينة، كمنتزه بلدية غزة الذي أسسه فهمي الحسيني، أو شارع عمر المختار، أو تمثال الجندي المجهول الذي تم تدميره، هكذا تماما سينما عامر والنصر والحرية والشاطئ والسلام والجلاء والنهضة والسامر وصابرين.

وأوضح أن المسألة ليست شخصية أو معاداة لطرف والتشهير به، بقدر أنها دعوة للعودة عن الأخطاء الفادحة التي ارتكبت بحق الإرث الثقافي بغزة، وإعادة الاعتبار للسينما وللجمهور وحتى لأصحاب دور العرض التي أُحرقت.

الجمهور في مهرجان السجادة الحمراء في غزة

 

غزة.. السجادة الحمراء تغطي الأنقاض

على الرغم من التهديدات والحراسات المشددة التي أحاطت بالمهرجان، فإنه كان مهرجانا ناجحا، بل معلما سينمائيا قصدته مئات العائلات لالتقاط الصور بخلفية المهرجان الضخمة الحمراء، فقد أرادت الجماهير أن تشعر بأن لديها شهرة تختلف عن شهرة الحرب والموت، وهي شهرة السينما والتمثيل والأفلام، ونجح المهرجان في أن يُشعرهم بذلك.

كما تميز المهرجان بعرض أفلام جديدة تنوعت بين الوثائقية والروائية والأنميشين، وقد زاد عددها عن أربعين فيلما، منها “ماريسول” و”غزة” و”جدران المخيم” و”ستيجما” و”ضياع في المنتصف”، التي تم عرضها في كافة مدن قطاع غزة والضفة الغربية على مدار أسبوع.

وعادة ما يتم تنظيم المهرجانات في الضفة الغربية ثم تُنظم عروض جانبية تابعة للمهرجان في القطاع، لكن مهرجان السجادة الحمراء جعل المركز غزة، ليس بالنسبة للضفة فقط بل للعالم، حيث كان صدى التغطية كبيرا.

ويختم المزين حواره مع الجزيرة الوثائقية بقوله إنه كان يتمنى أن يتم تقديم أفلام فلسطينية أكثر من قطاع غزة والضفة خلال أيام المهرجان، لكنهم لم يجدوا الكثير منها، ما جعلهم يقررون العام القادم إنتاج 12 فيلما خصيصا للمهرجان من الضفة الغربية وقطاع غزة.


إعلان