مهرجان برلين الـ69.. مشاركة عربية وثائقية ومسابقة تنتظر المفاجآت
قيس قاسم

تنطلق الدورة الـ69 لمهرجان برلين السينمائي وسط ضجة من التوقعات والتخمينات إزاء مستقبله وتوجهاته اللاحقة بعد اقتراب موعد مغادرة رئيسه ديتر كوسليك لمركزه. وشغل كوسليك هذا المركز مدة 18 عاماً غيَّر خلالها الكثير وعمل على جعله واحداً من كبريات المهرجانات السينمائية العالمية.
وكانت السينما العربية من بين اهتمامات كوسليك حتى أطلق عليه العرب المشتغلون في الحقل السينمائي اسم “مُحب السينما العربية”، فخلال فترته التي عادة ما توصف بـ”الذهبية” حرص على دعوتها وإشراكها في معظم أقسامه، حتى في المسابقة الرسمية. والكل يتذكر حشده للأفلام التي رافقت “الربيع العربي” وحماسته الكبيرة للأعمال المُتناولة لتلك المرحلة والتي جاءت في سياق توجهه لتحويل المهرجان إلى منصة فكرية/سياسية تُعنى بمناقشة القضايا التي تشغل العالم دون مواربة، فهو لم يخفِ توجهه السياسي وميله لطرح الموضوعات الآنية الأشد تعقيداً على بساط البحث، وأن يكون المهرجان ساحة لمناقشتها وملتقى لتبادل الأفكار حولها.
وعلى المستوى العملي ساعد كوسليك على تحقيق الكثير من المشاريع التي سعت لتنشيط العمل السينمائي، وعلى هذا المستوى عربياً أعان على تحقيق مشاريع طموحة لناشطين سينمائيين عرب. فقد شهدت دورة عام 2015 انطلاقة “مركز السينما العربية”، وفي التفاتة تشير إلى عمق صلاته بالعالم العربي وسينماه منح الجائزة التكريمية “كاميرة البرليناله” للناقد الراحل سمير فريد، وأتاح لمراكز وصناديق دعم عربية عقد ندوات وفعاليات تُعرف بنشاطها بين أروقة “البرليناله”؛ وهي التسمية الشعبية للمهرجان والمشيرة ضمناً إلى شدة ارتباطه بمدينة برلين التي تشهد شتاء كل عام “عرساً” سينمائياً لا يقتصر على النخبة، فأبوابه مفتوحة أمام الجمهور صاحب الحصة الأكبر من العروض والمناقشات.
رئيس المهرجان.. حملة تزيحه رغم الإنجازات
من المعلوم أن المهرجان في عهده شهد ميلاً للاستعراضات “الهوليودية”، وذلك عبر حرصه على دعوة كبار النجوم العالميين للسير فوق سجادته الحمراء التي كانت من بين النقاط الخلافية بينه وبين عدد من السينمائيين الألمان، وقد رفع هؤلاء “عريضة” احتجاج عليه وعلى توجهه العالمي وحصره -حسب زعمهم- السينما الألمانية في حيز ضيق.
ولعل الحملة التي وقعها أكثر من سبعين سينمائيا ألمانيا كانت سبباً رئيسيا في عدم تمديد مدته، والشروع في شهر مايو/أيار المقبل باختيار رئيس بديل عنه يُتوقع أن يُثبت سياسة سينمائية جديدة. والسؤال المثار بين النقاد العرب وضيوف الدورة والمعنيين بالشأن السينمائي العربي هو: هل ستتأثر السينما العربية بهذا التغيير المرتقب؟
هذا سؤال مفتوح يشي بقلق لا يقل عن قلق السؤال عن مصير “النسوية” التي حرص كوسليك على أن تكون موضوعاً وممارسة ظاهرة في كل دورة من الدورات التي ترأسها وحرص فيها على جلب ما يتوفر من أفلام لمخرجات سينمائيات إلى جانب عرضه كماً وافراً من أعمال موضوعها المرأة وتتناول شروط عيشها في مناطق جغرافية مختلفة من العالم.

“النسوية”.. حاضرة رغم المخاوف
يشي برنامج الدورة الـ69 (وتستمر في الفترة من 7-17 فبراير/شباط 2019) برغبة مديري أقسامها بتثبيت توجه مهرجانهم الخاص بدعم المرأة المخرجة والأفلام “النسائية” الموضوع والحرص على إبقائها في مركز اهتمامه، وربما تأتي وفرتها أيضاً كإعلان مبطن عن تمسكهم بها حتى قبل مغادرة مديرهم القديم لمكتبه في الأيام القليلة المقبلة.
وتعد هذه الدور من المرات القليلة التي تأخذ فيها سبعة أفلام لمخرجات مكاناً بين 17 فيلماً مشاركاً في المسابقة، وأن يكون فيلم الافتتاح “طيبة الغرباء” من نصيب الدانماركية لونا شافيك وفيه يلعب الممثل طاهر رحيم دوراً رئيساً.
ومن بين المتنافسة أيضاً فيلم البولندية أغنيشكا هولاند “السيد جونز” الذي تتناول فيه حياة الصحفي غاريث جونز ومنجزه في توثيق الويلات التي تعرضت لها أوكرانيا في بداية ثلاثينيات القرن الماضي بسبب السياسيات الزراعية المتعجلة والقاسية التي أمر بتطبيقها الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين وأدت إلى مجاعات طالت ملايين الفلاحين الروس.
أما من بين أكثرها مدعاة للتنبيه والإشادة ففيلم المخرجة الألمانية الشابة نورا فينكشايت “محطمة النظام”.

“بيني”.. محطمة النظام
تدرس المخرجة نورا مجتمعها الألماني بتعمّق مدهش، لتُقَدم بعد ذلك ومن خلال وسيلتها الإبداعية المتمكنة منها -وهي السينما- نصاً مشحوناً بالعواطف والأوجاع وهي تتابع تفاصيل حالة الطفلة “بيني” الهستيرية، ووقوف النظام الاجتماعي عاجزاً عن حمايتها من نفسها ومن الآخرين، وتنقل لنا آليات نظام بيروقراطي قَبِل بانتزاعها من أحضان والدتها ولم يجد وسيلة نافعة لإعادتها ثانية إليها، ناهيك عن أنانية الأم نفسها وعجزها الذاتي.
وإزاء ما تراه في ذلك، لجأت “بيني” وبعفوية الطفل إلى الانتقام من هذا النظام وإلى “تحطيمه” بوسيلتها الخاصة؛ المدمرة لذاتها وللآخرين الذين لا تجد فيهم غالباً إلا خصوماً لها؛ تعاندهم وتشاكسهم من أجل عدم تنفيذ ما يرمون إليه؛ وهو التخلص منها عبر إبعادها إلى أي مكان خارج نطاق وظيفتهم حتى ولو إلى كينيا الأفريقية لو تطلب الأمر.
فيلم “مُحطمة النظام” منشغل بمعرفة وتحليل النظام الاجتماعي الغربي/الرأسمالي المتوفر على إمكانات مادية هائلة يُساء استخدامها في الحالات التي تتطلب تعاملاً إنسانيا استثنائياً معها، وتتعارض بقوة مع بيروقراطية وظيفية همها الأول التخلص من الحالات “المتعِبة” الخارجة عن ضوابط “النظام”.
تبدو الطفلة “بيني” في “مُحطمة النظام” حالة ميؤوسة منها، تؤخذ من بيت والدتها التي تزوجت من رجل ثانٍ وأنجبت منه أطفالاً وغدت العناية بهم أولية لها، بينما رُكنت الطفلة “المنبوذة” جانباً، فوجدت نفسها في النهاية خارج البيت تنتقل من مركز رعاية إلى آخر، تُعامل خلال وجودها فيها كـ”فأر” مختبر. وعناداً لهم على معاملتهم السيئة لها، تذهب بعيداً في المشاكسة لإتعابهم وإن أتت نتائج هذه المشاكسة في النهاية على حسابها.
يحيط الفيلم بتفاصيل الحياة الألمانية اليوم، وكيف يعمل النظام الاقتصادي على تهميش الفرد وسلب عاطفته فيغدو آلةً؛ موظفوها لا يعبؤون بما تتركه سلوكياتهم من آثار موجعة على الفرد، كتلك التي تظهر على الطفلة “بيني” التي تنجح في آخر لحظة في التخلص منها عبر رفض ترحيلها عنوة إلى المختبر الأفريقي البعيد.

بيضة الديناصور.. توافق مع المحيط المنغولي
من أفلام المسابقة المُتمحورة قصصها حول المرأة، هناك فيلم “أوندوغ” أو “بيضة الديناصور” للمخرج الصيني وانغ كوانان، وفيه يسجل حياة امرأة منغولية وفق قراءة إنثروبولوجية لها؛ تنشد نقل المناخات والأجواء الطبيعية التي تتحرك وسطها وتتلاءم سلوكياتها معها.
تغدو حالة الانسجام المتحققة أقرب إلى قصيدة سينمائية عن الحياة البرية المنغولية وعيش المنغولي وسطها بقيمه وأعرافه المتسامحة، والتي تمنح حرية للمرأة كما تمنحها لبقية الكائنات وكل ما يعيش فوقها.
قصة المرأة الدليل العارف بتضاريس الأرض وعلاقاتها العاطفية السوية تحيلنا إلى عالم معافى ومسالم، حتى بوجود سلطة طارئة عليه كسلطة رجال الشرطة؛ وجودهم لا يتجاوز كثيراً حدود عملهم، وما يتفرع منه يحافظ بدوره على العلاقات الإنسانية الجميلة كما ورثوها.
“بيضة الديناصور” بحق قصيدة يُحسب للدورة جرأة اختيارها للمسابقة لما فيها الكثير من البساطة على مستوى السرد البصري والتقني.

مشاركات عربية.. وثائقية
غاب الفيلم الروائي العربي الطويل عن مسابقات هذا العام، وحضر القصير والوثائقي في قسمي “بانوراما” و”المنتدى” إلى جانب قسم “أجيال”.
في “بانوراما” تبرز “العائلة” موضوعاً مقترحا لأفلامها ومسابقتها التي يشترك فيها الفيلم السوداني “التحدّث عن الأشجار” للمخرج صهيب جاسم البرّي ويتناول فيه تجربة إحياء أرشيف السينما السودانية، ومن الدانمارك فيلم المخرج الفلسطيني الأصل عمر شرقاوي “عرب غربيون” الذي طال انتظاره، فقد أعلن مخرجه قبل أكثر من عشر سنوات رغبته في نقل علاقته بوالده إلى الشاشة في إطار بحثه عن الهوية وفهم الظروف التي عاش فيها والده مناضلاً في صفوف المقاومة الفلسطينية والتحول الآخر الذي طرأ عليها يوم وصل إلى الدانمارك وتزوج فيها من امرأة دنماركية.
الفيلم شخصي يشترك فيه أفراد من عائلة شرقاوي، يعتمد شرقاوي في فيلمه على خامات أفلامه السابقة كمرجعية لفهم وتحليل العلاقة الخاصة بين الأب المخرج والابن، وحيرة الأخير في أي الهويات يختار؛ الدانماركية التي اكتسبها من خلال حياته فيها وهو طفل صغير، أم الهوية العربية والتباس فهم تجربة والده يوم كان مقيماً فيها ولم يتركها حتى بعد إقامته طويلاً في الدانمارك؟
في قسم “منتدى” سيُعرض عمل المخرج اللبناني غسان سلهب “وردة” ومحاولته قراءة حياة وتجربة المناضلة والكاتبة الألمانية روزا لوكسمبيرغ في السجن، وذلك عبر نقل رسائلها المحملة بطاقة إيجابية إلى الشاشة، وهي تصر على مواصلة الحياة وأخذ الطيب والجميل منها رغم قسوتها. ومن السودان مرة أخرى عن تجرية رياضية لافتة، فسيشاهد الجمهور البرليني فيلم “خرطوم أوفسايد” لمروة زين.
حكاية ثلاث شقيقات.. مفاجأة مرتقبة
سجل بعض النقاد ملاحظات أولية بشأن غياب الأسماء الكبيرة عن دورة هذا العام، متناسين ما ألف المهرجان على تقديمه من مفاجآت تأتي غالباً من أسماء ليست مكرسة بالكامل، وهذه تعد واحدة من مزايا هذا المهرجان الذي يذهب إلى اكتشاف المواهب وإتاحة فرص لعرض نتاجاتها في “البرليناله” قبل غيره من المهرجانات العالمية.
ومع ذلك فإن الأنظار تتجه إلى الصيني زانغ ييمو وفيلمه “ثانية واحدة”، وعبره يوجه تحية إلى السينما الصينية ضمن عودته لمراجعة مرحلة “الثورة الثقافية” الإشكالية. بينما يُقدم الألماني التركي الأصل فاتح آكين فيلمه “القفاز الذهبي” عبر اقتباس نص روائي بطله قاتل متسلسل مجهول. ومن خلال تجسيده لحياته يمس آكين دوافعه للجريمة، وارتباط هذه الدوافع بطبيعة الظروف الاقتصادية والاجتماعية المحيطة به.
أما المفاجأة المنتظرة فربما تأتي من المخرج التركي أمين ألبر وشريطه “حكاية ثلاث شقيقات”، فهو موضع ترقب دائم بعد ما قدمه من مفاجآت سابقة.