مهرجان برلين الـ69.. إبهار آسيوي وإدهاش سوداني رغم ضعف مسابقته

قيس قاسم

فيلم "ماريغيلا" البرازيلي يقدم رؤية مختلفة لمفهوم "الإرهاب"

الإعلان عن إلغاء فيلم المخرج الصيني زانغ ييمو قبل أيام قليلة من عرضه ضمن مسابقة الدورة الـ69 لمهرجان برلين السينمائي، زاد من ضعف المسابقة وأثار لغطاً بين المشاركين فيها عن أسباب الإلغاء. فبينما أحالته إدارة المهرجان إلى مشاكل “تقنية” في مرحلة ما بعد الإنتاج واجهها الفيلم وحالت دون إكماله، أرجعت تخمينات من خارجها السبب إلى الصين نفسها واحتمال توقيفها للفيلم لعدم رضاها عنه.

مهما كان السبب فقد أربك غياب الفيلم المسابقة الرسمية (الدب الذهبي) كثيراً وزاد من ضعفها، وذلك لشدة المراهنة عليه وغلبة التوقعات باحتمال نيله الجائزة. لذا فقد ظلت المسابقة من بين الأضعف، على الأقل خلال العقدين الأخيرين، إذ تزامن عقدها مع إعلان إنهاء خدمة مدير المهرجان ديتر كوسليك، وتعيين إدارة جديدة بديلة بدأت بأخذ صلاحياتها خلال الإعداد للدورة الحالية (التي عقدت في الفترة من 7-17 فبراير/شباط الجاري)، وربما يعود جزء من الإرباك الحاصل فيها إلى عملية الانتقال تلك.

ومع الاقرار بضعف المسابقة الرسمية، ثمة حقيقة أخرى معروفة عن “البرليناله”، مفادها أن أقسامه الرئيسية الأخرى وخاصة “البانوراما والفوروم” كانت تقدم دوماً أفلاماً تتفوق بجودتها على بعض المختارة للتنافس على الجائزة الكبرى. وكان السؤال نفسه يتكرر وقتها: لماذا لم يذهب هذا الفيلم أو ذاك إلى التنافس؟ هذا العام حدث ذلك مع أكثر من فيلم ربما من أكثرها وضوحاً الياباني “37 ثانية” للمخرجة هيكاري.

في "37 ثانية" هناك كم هائل من المشاعر الفياضة والتآزر الاجتماعي والاحتضان الإنساني

37 ثانية.. شاعرية يابانية

عنوان الفيلم “37 ثانية” ظل طيلة زمنه غامضاً غير مفهوم المعنى، لكنه وقبل دقائق قليلة من نهايته أفصح عن نفسه ليزيد من جمال قصته التي تدور حول صبية موهوبة برسم الصور المتحركة للقصص المتسلسلة “كوميكس”. تعيش الفتاة مع والدتها ولا أحد لها في الدنيا غيرها. لا تعرف شيئاً عن والدها الذي تركها وهي طفلة رضيعة. شخصيتها قوية رغم عدم احتكاكها بالعالم الخارجي إلا عبر دار نشر إعلانات صغيرة تديرها شابة من نفس عمرها.

 الفيلم لا يحصر نفسه بالقصة الحزينة بل يذهب لينفتح على عوالم يابانية مجهولة بالنسبة للمشاهد الغريب عنها. فثمة غموض دائم إزاء شخصية الياباني المتأثر بالعزلة التاريخية أو ما يسمى بعقدة “الجزر” وصعوبة فهم مشاعره.

في “37 ثانية” هناك كم هائل من المشاعر الفياضة والتآزر الاجتماعي والاحتضان الإنساني، لا ينبع كله من إعاقتها أو الإشفاق عليها، بل تفاعلاً مع وجودها الذي تتداخل فيه مشاعر وسلوكيات معطاءة ومُحبة تضع الفيلم في مناخ رومانسي هادئ يتصاعد بصمت ويتبلور عبر مسار قصص جانبية مليئة بالمرح تُنسي متلقيه طول زمنه وتُوصله في النهاية إلى الكشف عن الرقم الغامض.

سيتضح أن للفتاة المعاقة جسدياً أخت توأم ولدت قبلها بـ37 ثانية، توقف خلالها تنفسها وأصاب دماغها بعطل أدى إلى شللها. 37 ثانية فقط فصلت بين ولادة أختها سليمة بينما هي تعطل نمو جسدها. إنه قدرها الذي لا حول لنا ولا قوة إزاءه، ولكن ربما بالإمكان الالتفاف عليه.

بذهابها للسؤال عن والدها تعلم بموته ورغبته الشديدة في لقائها، وأيضا بوجود أختها في تايلند. اللقاء الجامع بين الأختين سيمثل نقطة تواصل وإعادة علاقات إنسانية كانت غائبة إلى مساراتها الطبيعية. عادت بقوة إرادة شابة لم تعرف سوى الحب والبحث عن الإيجابي في الآخر.

خلال رحلة بحثها عن الأب والأخت تنشأ علاقة عاطفية مع شاب يرافقها، ودون خوض في تفاصيل هذه العلاقة يتسرب للمشاهد إحساس بتكامل عاطفي يأتي في سياق رومانسي يُحيل العمل إلى قصيدة شعرية لا تضاهيها جمالاً سوى قصيدة الهندي “ريتيش باترا” المصور وعلاقته مع شابة تدرس الاقتصاد.

 

المصوّر.. تحفة هندية

المصور الفقير الخجول يعيش في غرفة بائسة يشاركه فيها شباب من نفس سنه. أما الطالبة فهي يتيمة، تعيش مع أقارب لها في انتظار دراستها الجامعية. قد يبدو ذلك المشهد السينمائي “هنديا” عادياً، لكنه في الحقيقة لا يشبه سينما “بوليوود” مطلقاً، فمخرجه باترا صاحب الرائعة السينمائية الهندية “صندوق الغداء” يعرف كيف يختار قصصه ويحولها من عادية إلى مبهرة مليئة بالجو الرومانسي الشديد الكياسة.

العلاقة بين المصور والطالبة والفوارق الاجتماعية بينهما تخلخلها جدته العجوز التي تأتي من القرية لتسهم في بناء صرح من العلاقة الإنسانية المشحونة بالشغف وقوة الأمل. لا لعب على العواطف في فيلم “المصور” ولا مجانية للمشاعر، بقدر ما فيه من اشتغال مدروس على التمثيل وحرص على نقل المناخ الهندي الطبيعي بكل تفاصيله الغنية إلى الشاشة.

باختصار “المصور” تحفة رومانسية شغلت مساحة من مشهد سينمائي استلَبت جزءاً منه أفلام “الصراعات السياسية” و”الإرهاب”، فغدا العالم على الشاشة معتماً في حين يحاول “المصور” نقلنا إلى حيز تشع فيه الشمس ويتبادل الناس فيه الجميل والإنساني دون تعقيد أو ادعاء.

 

 

وداعاً للّيل.. تسطيح ظاهرة الإرهاب

لم تغب بالكامل تلك الأفلام التي تتناول موضوع “الإرهاب” في دورة هذا العام. بعضها ظل أسير سوء فهمه الظاهرة وجهل متناوليها عما يتحدثون به، فجاءت أفلامهم لهذه الأسباب سطحية.

“وداعاً للّيل” (خارج المسابقة) للمخرج الفرنسي أندريه تيشينيه مثالاً للتسطيح. لم يشفع له مشاركة الممثلة المشهورة كاترين دينوف، فقد ظل باهتاً على المستويين الفني والسردي.

قصته تتمحور حول شاب فرنسي مرتبط بعلاقة مع شابة عربية مسلمة أثّرت عليه وغيّرت أفكاره فقررا الذهاب سوية إلى سوريا للانضمام إلى إحدى التنظيمات المتشددة هناك. والقصة هنا لا بحث فيها عن قوة الدوافع ولا دراسة لمصدر التأثير الفكري الذي يقنع شابا فرنسيا غنيا باتخاذ موقف مصيري كهذا المصير. السهولة التي قُدمت بها الحكاية والمنتهية بعودة الطيِّب إلى مصدره وذهاب الشر إلى مصيره؛ غير مقنعة، ويُعاد معها السؤال التقليدي: لماذا تُبرمج مثل تلك الأفلام الضعيفة ضمن خانة المسابقة وتُبعد غيرها؟

فيلم "وداعاً للّيل" قصته تتمحور حول شاب فرنسي مرتبط بعلاقة مع شابة عربية مسلمة أثّرت عليه وغيّرت أفكاره

“ماريغيلا”.. رؤية مختلفة للإرهاب

بعيداً عن الأسئلة الفنية السجالية، ربما يقدم فيلم “ماريغيلا” البرازيلي مثالاً مختلفاً، ففيه رؤية مختلفة لمفهوم “الإرهاب”، وذلك حين يقترح مخرجه فاغنر مورا كتابة فصل من تاريخ البرازيل السياسي المعاصر من خلال شخصية كارلوس ماريغيلا الشاعر والكاتب البرازيلي والسياسي الذي شكل مجموعة مسلحة لمقاومة الانقلاب العسكري الفاشي الذي قاده الجيش في بداية ستينيات القرن الماضي، ومنعوا -بعد تسلمهم السلطة بمعونة المخابرات الأمريكية- الحريات وزجوا بالسياسيين المعارضين في السجون والمعتقلات وصفوا قادة الأحزاب السياسية.

لا يقرأ الفيلم فصلاً مهماً من حياة المناضل البرازيلي فحسب، بل يتعداه إلى طرح سجال فكري في أصل الدوافع التي قادته إلى القيام بأعمال مسلحة انتقامية، جاءت كرد فعل على همجيةٍ أقنعته بأن لا شيء يمكنه إيقافها سوى العنف.

“ماريغيلا” عمل جرىء، لا يخشى تهمة “الإرهاب” فيذهب الى نقل الظروف المحيطة بالمجموعة المسلحة وتصوير حالة البلاد بأسرها في ظل ممارسات “إرهابية” حتمية باسم “السلطة الشرعية”، بينما الوقائع تقول عكس ذلك وتقر بتبعيتها إلى إدارة أمريكية تدفع لها المال مقابل ضمان سياستها وتصفية الحركات السياسية اليسارية في البرازيل.

من دون شك هو من بين الأفلام الجميلة الجامعة بين السيرة الذاتية لبطلها وموضوع شائك يُنقل بمسؤولية على الشاشة مشفوعاً بفهم عميق لمعنى قراءة التاريخ المعاصر سينمائياً، وبتوازن دقيق بين الفني والفكري.

يأتي الفيلم الوثائقي "التحدث عن الأشجار" للمخرج صهيب جاسم البرّي المقترَح لتوثيق حياة ونشاط أعضاء "جماعة السينما السودانية" ومِن منجزي الأفلام المعروضة في الاحتفاء الخاص بهم

الفيلم السوداني.. إدهاش برلينالي

على عكس التوقعات أدهش الحضور السوداني جمهور البرليناله على المستويين الجديد والقديم. فللذين لا يعرفون الكثير عن السينما السودانية وتاريخها أتاح الحيز المخصص للاحتفاء بها فرصة لهم للاطلاع على أعمال سينمائية تشي بمعرفة صُناعها ودرايتهم بتفاصيل الفن السابع.

فمشاهدة أفلام جماعة الفيلم السوداني كـ”الحبل” و”جمل” و”حفلة صيد” للمخرج إبراهيم شدادي، إضافة إلى فيلمي الطيب مهدي “الضريح” و”المحطة”، ومعهما فيلم سليمان النور “ولكن الأرض تدور”.. سيتأكد من وجود محاولات سينمائية راقية توقفت لأسباب جاءت من خارجها، وفي مقدمتها سياسية أرادت تحجيم السينما بل وحتى منعها.

وفي هذا السياق يأتي الفيلم الوثائقي الجديد “التحدث عن الأشجار” للمخرج صهيب جاسم البرّي المقترَح لتوثيق حياة ونشاط أعضاء “جماعة السينما السودانية” ومِن منجزي الأفلام المعروضة في الاحتفاء الخاص بهم. وبهذا المعنى هو فيلم عنهم وعن واقع السينما السودانية ومستقبلها، وقبل كل شيء عن شغف السينمائيين السودانيين وإصرارهم على مواصلة العمل وإحياء فن السينما ليبقى مصدراً معرفياً وثقافياً.

الوثائقي يتابع يوميات حياة مجموعة سينمائيين كبروا في السن ولكنهم مازالوا وبإمكانات بسيطة جداً يذهبون إلى القرى والمدن ليعرضوا على شاشاة متنقلة ما أنجزه المبدعون السينمائيون، وذلك لإبقاء جذوة الرغبة في الذهاب إلى قاعات السينما متقدة، وتثبيت تقاليد جميلة يراد استلابها وحرمان السودانيين من متعة ما تقدمه السينما لمشاهدها.

قوة الفيلم تكمن في قوة شخصياته ومتانتهم الفكرية وتجاربهم السياسية أيضاً، فجلهم مروا بتجارب السجن بعد أن درسوا فن السينما أو عملوا فيها قبل عقود، فأنتجوا أعمالاً واعدة ما زالوا يعرضونها بأبسط الوسائل المتاحة للناس، إلى جانب عرضهم كلاسيكيات السينما العالمية تحبيباً بها وبالفن الذي يريدون وجوده اليوم حياً كما كان في الأيام الخوالي.

نراهم في فيلم صهيب منشغلين في التخطيط للعروض الجديدة والعمل على إعادة تشغيل قاعات العرض السينمائية المهملة والمعطلة والحديث فيما بينهم عن مآلات حياتهم بروح متسامحة وبلغة إيحائية تشير إلى مصادر الصراع السياسي السوداني وقوة المنع الرسمي لنشاطهم، ومع ذلك يسيرون وفق ما يناسب طموحاتهم رغم شح ما عندهم.

روح الفكاهة وقوة التجربة تضفي مناخاً رائعاً على مسار وثائقي هو من بين أهم المعروض في البرليناله هذا العام دون مبالغة، على الأقل عربياً. فهي على عكس التوقعات السابقة لعرض فيلم “وردة” لمخرجه اللبناني غسان سلهب، جاء الفيلمان السودانيان بكثير من الجودة والرقي، في حين لم يقدم سلهب سوى محاولة ضعيفة لموضوع يتعلق بمفكرة وسياسية مرموقة مثل روزا لوكسمبيرغ كان الاشتغال عليها هامشياً وبعيداً عن قراءتها بعمق معرفي، أما الأفلام السودانية فقدمت ببساطة وعفوية ودون ادعاء، حتى فيلم “خرطوم أوف سابد” لمروة زين لم يأت كالمتوقع من فيلم عن “لاعبات كرة قدم”، إنه أبعد بكثير عنها، فهو يمس حالة البلاد اليوم بعد انفصال الجنوب عنها ومرارة المحبين للسودان الذين مازالوا يريدونه موحداً يجمع تحت سقفه الإثنيات والطوائف.

إذا كانت هناك مفاجأة حقيقية في الدورة الـ69 لمهرجان برلين السينمائي فهي السودان، بينما يمكن وصف مسابقتها الرسمية بـ”الضعيفة”، مع وجود مفردات لا يمكن تجاهلها إلى جانب تفاصيل كثيرة تُبقي البرليناله من بين المهرجانات الأهم عالمياً.

وللخائفين من تغييرات متوقعة قادمة بالنسبة للمهرجان، لا نستطيع سوى القول لهم: لننتظر العام المُقبل ونرى ماذا سيحدث.


إعلان