رمضان.. المسافة بين السينما والدراما

عبد الكريم قادري

نجوم مسلسل باب الحارة أحد أهم مسلسلات الدراما الرمضانية السورية

كعادته في كل رمضان، يضبط المشاهد العربي بوصلته تجاه التلفاز ليرى ما جادت به الفضائيات العربية في هذا الموسم من برامج حوارية ودينية ومقالب الكاميرا الخفية ومسلسلات السيت كوم (كوميديا المواقف)، بالإضافة إلى المسلسلات الدرامية التي تستقطب شريحة واسعة ومتنوعة من المشاهدين، وتجذب اهتمامهم طوال شهر كامل، مما جعل من سوق الدراما في تنافس مستمر بين العديد من الجهات التي تملك تاريخا كبيرا في الإنتاج الدرامي، وأخرى متنوعة لا تصنع أي منافسة، لكن يتم إنتاجها لأهل البلد من أجل الاستهلاك المحلي، وهي في الغالب لا تصنع أي إثارة أو استثناء سوى أنها تملأ فراغا ما في التلفزة الرمضانية.

نسج المشاهد العربي علاقته بالدراما الرمضانية منذ سنوات كثيرة، ومع الوقت أصبح هذا الشهر هو بمثابة السوق السنوي للمنتجين لعرض وتقديم السلع الاستهلاكية للمشاهد العربي، وذلك عبر باقة مختلفة تحوّلت في السنوات الأخيرة إلى كمّ هائل من الإنتاج يتقاسم جودته كل من الدراما السورية التي لم تسقط رغم سنوات الحرب التي تعيشها البلاد، وقد عادت هذه السنة بقوة، يقابلها الدراما المصرية التي نوعت مواضيعها خلال السنوات الماضية، لكن هذا الموسم ألقت الرقابة بقبضتها على كل صغيرة وكبيرة، ناهيك عن بدء الدولة عمليات احتكار الإنتاج من خلال مؤسسة إنتاج حكومية جديدة أنتجت أكثر من نصف المسلسلات الدرامية المصرية الحالية، وهذا ما أثّر وسيؤثر على عجلة الإنتاج الحُرّ وتنوعه بشكل عام.

إذا أرادت الدراما العربية أن تتميز وتصنع لنفسها هُوية فإنه يجب إذابة الجليد بين السينما والتلفزيون

 

بين الدراما والسينما.. رديف للمال أم للجمال؟

نشرت مجلة “نيويورك دراماتيك ميرور” سنة 1916 (أي مطلع القرن الماضي) مقالا ساخرا بعنوان “أنا المسلسل”، ومما جاء فيه “أنا المسلسل، أنا الشاة السوداء في الصورة العائلية، وأنا موضع سُباب النقاد، أنا الواحد الذي بلا روح وبلا أخلاق وبلا شخصية وبلا رقي، أشعر بالخجل، أواه لي لو أنال الاحترام والتقدير فحسب، أواه لو أن شَعر الناقد العظيم لا يقشعر عندما أمرّ بجواره، وأواه لو أنه لا يصيح قائلا: يا للعار يا طفل التجارة، يا ابن زنى الفن”.

ورغم مرور أكثر من قرن على نشر هذا المقال، فإن مرارته وتفاصيله الموجعة لا تزال تعكس واقع اليوم، حيث لا يزال العديد من النقاد والباحثين يعتقدون بأن الدراما والمسلسلات فن هجين، ولا تعكس بأيّ حالة أصالة السينما ونقاءها، لأن الأولى (الدراما والمسلسلات) رديف للمال ولا تهمّ الطريقة التي تُصنع بها، أما الثانية فهي صناعة الجمال وتقديمه بأحسن صورة للمشاهد، والذي حتى وإن كان جزءا من هذه الصناعة فهو الآخر يعتمد على مبدأ المال، لكن يحافظ بشكل كبير على أصالة الفن فيه.

جاءت فكرة إنتاج المسلسلات في بداية القرن العشرين، أي بعد وقت قصير من انطلاق السينما كاختراع جديد، وذلك من أجل التوجّه إلى شريحة معينة من المجتمع، وهي الطبقات الكادحة والفقيرة والمهاجرين، وأولئك الذين لا يملكون مستوى ثقافيا أو معرفيا، فالمهم هو السيطرة عليهم وعلى جيوبهم، وبرمجتهم عصبيا للعودة كل مرة إلى قاعات السينما، وذلك بسبب غياب التلفزيون وقتها لاستكمال مسلسلهم الذي جيّش عواطفهم وخلق فيهم حالة نفسية معينة، رغم أن بدايات هذه المسلسلات كانت صامتة.

ومن بين هذه الأعمال التي لقيت نجاحا كبيرا وقتها “مخاطر بولين” (1914)، و”إلين وانتهاز الفرص” (1915)، و”المخلب الحديد” (1916)، و”لؤلؤة الجيش” (1916)، و”الختم المميت” (1917)، و”منزل الكراهية” (1918)، وقد فطن وقتها المنتجون إلى حيلة وهي نشر أحداث الحلقة مكتوبة في الصحف، ومن هنا ازداد الترويج لهذه الإنتاجات، لتنتقل بعدها لعبة إنتاج المسلسلات إلى كل من بريطانيا وفرنسا وألمانيا وروسيا وحتى الهند فيما بعد.

مسلسل "قان سموك" استمر لـ20 موسما، بدايته كانت سنة 1952

جمهور خاص وجمهور عام

مع بداية النصف الثاني من القرن العشرين تخلّت العديد من شركات هوليود الكبرى تدريجيا عن المسلسلات، واتجهت أكثر إلى السينما، لتعود مرة أخرى بقوة أكبر خلال السنوات الماضية، وتقدّم أعمالا قمة في الإثارة والتشويق كسبت من خلالها جمهورا واسعا في القارات الخمس، وأكثر من هذا هناك العديد من الأعمال التي استمر عرضها لعدة مواسم، من بينها مسلسل “قان سموك” الذي عرض لأكثر من 20 موسما عن طريق السلاسل، بداية من تاريخ 1952.

يختلف جمهور السينما عن جمهور الدراما في العديد من التفاصيل، أهمها أن السينما تتوجه بشكل عام إلى فئة خاصة متعلمة تملك خلفية التأويل والتحليل، وهي فئة صغيرة، وفي المقابل هناك فئة الدراما التي باتت تُذاع في التلفزيون بعد انتشار هذا الجهاز الرهيب الذي يجتمع حوله الطفل والمراهق والشاب والشيخ، وهو ما يعني الشرائح العمرية المختلفة، دون عناء الذهاب إلى قاعة السينما، تسحرهم التركيبة القوية لهذا المنتج الذي يعتمد بالخصوص على عائدات الإشهار والإعلانات. لهذا يتم بناء كل حلقة فيه وفق سياق زمني معين، يدرس من خلاله الوقت المستقطع للإعلان، إذ يجب على كل جزء أن يحمل عناصر معينة من التشويق والإثارة، وذلك لضمان بقاء المتفرج لمتابعة بقية الحلقة، وبالتالي ضمان مشاهدة باقي الومضات الإعلانية حول منتجات استهلاكية معينة.

هذه القواعد المدروسة تسمح لمخرج العمل وبتوجيه من الشاري أن يقوم بتمطيط أحداث الفيلم، وهذه أحد الفوارق الرئيسية بينها وبين السينما التي تعتمد بالأساس على تكثيف الأحداث، والاقتصاد في اللقطات والمشاهد وتنويعها، مما يسمح بخلق الجمالية القصوى التي ينشدها المخرج. أما المخرج الدرامي وقبل الخوض في أي عمل ينظر أولا بعين صاحب المادة الإعلانية، ناهيك عن التفكير في خفض الكلفة، لهذا يعتمد بالأساس على المشاهد الطويلة، حتى الكاميرا بالأساس هي رقمية، على عكس كاميرا السينما ذات البكرات، مع العلم أن الأخيرة بدأت تتخلى عنها تدريجيا وتتجه هي الأخرى إلى الكاميرات الرقمية التي باتت تحمل هي تقريبا نفس قوة الصورة وجودتها، وتتجاوزها في الكثير من الأحيان.

 

الدراما التاريخية العربية.. تراجع وسط زخم التركية

نسجت الدراما التاريخية العربية خلال السنوات الماضية علاقة قوية بينها وبين المتفرج في كل الدول العربية، خاصة التي تدور حول قادة الفتوحات الإسلامية والأمراء والخلفاء، وكانت هذه المسلسلات بطاقة رابحة لكل قناة تلفزيونية تعرضها، نظرا لما تحمله من قيم وأمجاد أصبح العربي يحنّ إليها أو يبحث عنها، مثل مسلسلات خالد بن الوليد وعمر والقعقاع وهارون الرشيد وثلاثية صقر قريش وربيع قرطبة وملوك الطوائف وصلاح الدين الأيوبي، وغيرها من الأعمال الأخرى التي تتناول هذه الحقب المختلفة.

تدريجيا بدأ هذا النوع من الأعمال يختفي، وأعتقد بأنه لا يوجد هذه العام أي عمل محترم يُحاكي الأعمال المذكورة، بل تم توجيه بوصلة الإنتاج إلى الدراما الاجتماعية التي أصبحت تتقاطع في الكثير من الأحداث والمحطات وحتى الشخصيات.

في المقابل وبعد سيطرة الدراما التركية التي تُعرض طوال العام ولا تركز على شهر رمضان، تحولت هذه الأخيرة إلى إنتاج الدراما التاريخية التي تعتمد في مجملها على تمجيد القادة العثمانيين، وهذا ربما أحد الأسباب المهمة التي جعلت الدراما التاريخية العربية تختفي وتتراجع وسط هذا الزخم، لأن أي مقارنة بينها وبين نظيرتها التركية تكون الغلبة فيها للتركية التي باتت تعرف جيدا عاطفة المشاهد العربي، لهذا تقوم بتقديم أعمال تاريخية واجتماعية تبهره وتسيطر عليه، وبمجرد أن يتم فتح مقارنة حرفية تكون الغلبة للتركية.

أسد فولادكار عمل على إخراج مسلسلات متنوّعة منها "راجل وست ستات"

جبل جليد

إذا أرادت الدراما العربية أن تتميز وتصنع لنفسها هُوية فإنه يجب إذابة الجليد بين السينما والتلفزيون، ويعني ذلك أن ينفتح المخرج السينمائي على الدراما التلفزيونية دون أن يُفرّط في مسعاه السينمائي، وهذا مثل العديد من المخرجين العالميين الذين لا يجدون أي حرج في إخراج الأعمال للتلفزيون.

وقد حاول الناقد السينمائي اللبناني نديم جرجورة في مقال نشره بموقع “ضفة ثالثة” أن يبحث في هذه العلاقة، فرأى أنها مفارقة، وقال إن “إحدى المفارقات الحاضرة في قراءة العلاقة المرتبكة بين السينما والتلفزيون أن سينمائيين عربا كثيرين لا يزالون غير مهتمّين بالعمل التلفزيوني، ففي أوروبا وأمريكا يخوض سينمائيون ذوو أساليب جمالية تجديدية وتقدمية ومؤثّرة في الاشتغالات البصرية؛ تجارب إخراجية للتلفزيون بين حين وآخر، مثل وودي آلن ومارتن سكورسيزي مؤخّراً”.

العديد من الجهات باتت تتصالح مع بعضها لإكمال كل جهة الأخرى، وهذا ما تحاول فعله مثلا شبكة "نتفلكس" التلفزيونية التي بدأت تلتهم السينما

التلفزيون يلتهم السينما

ما قاله جرجورة يعني أن العديد من الجهات باتت تتصالح مع بعضها لإكمال كل جهة الأخرى، وهذا ما تحاول فعله مثلا شبكة “نتفلكس” التلفزيونية التي بدأت تلتهم السينما، وأصبح التعامل معها عاديا جدا، حيث تم خلق علاقة بينهما قبل أن تقضي الشبكة على إرث هوليود السينمائي، بالإضافة إلى شبكة أمازون التي اتجهت هي الأخرى للإنتاج التلفزيوني.

ويقدم جرجورة تجربة لبنان نموذجا لهذه العلاقة فـ”في لبنان يعمل مارون بغدادي وجان شمعون لحساب المحطة التلفزيونية اللبنانية الوحيدة قبل اندلاع الحرب الأهلية عام 1975 وقبل انصرافهما إلى السينما الروائية والتسجيلية الوثائقية، وتأتي جوسلين صعب إلى السينما من مهنتها كمراسلة ومصوّرة صحفية، كما يُخرج سمير حبشي “الإعصار” عام 1992 و”دخان بلا نار” عام 2008 وينصرف إلى العمل التلفزيوني. أما أسد فولادكار فيُقدِّم “لما حِكيَت مريم” عام 2002 قبل انتقاله إلى القاهرة، والذي عمل على إخراج مسلسلات متنوّعة منها “راجل وست ستات” و”الزناتي مجاهد”، ثم يُطلّ على المشهد السينمائي مجدّدا بفيلم “بالحلال” عام 2016. المصري إبراهيم البطوط يأتي إلى السينما بعد اشتغال مديد لحساب محطات تلفزيونية عديدة كمُصور تلفزيوني. وفي تونس هناك نجيب بلقاضي المنتقل إلى الشاشة الكبيرة من عمل تلفزيوني”.


إعلان