“الموتى لا يموتون”.. عن فلسفة الحياة والموت في افتتاح مهرجان كان

محمد علال

جارموش العاشق لهذا النمط الموسيقي منح مغني الروك إيجي بوب دور الرجل المتشرد في فيلم "الموتى لا يموتون"

لقد مضى عمرٌ طويل -نحو 39 عاما- على سرد المخرج الأمريكي جيم جارموش لقصة ذلك الشاب الذي ظلّ يعاني التشرد في شوارع نيويورك، تلك الحكاية التي منحت جارموش عام 1980 تأشيرة مرور إلى العديد من المهرجانات السينمائية العالمية، وتحولت لاحقا إلى ملامح مخرج عنيد يرفض التقليد، اختار المضي نحو السهل الممتنع عبر المزج بين كوميديا ​​الموقف والرعب الذي بات يشكل حلقة محورية تقريبا في كل أعماله، منها فيلمه الجديد “الموتى لا يموتون” الذي راهنت عليه إدارة مهرجان كان السينمائي ليكون فيلم افتتاح الدورة الـ72 التي افتتحت يوم 14 مايو/أيار وتستمر حتى الـ25 من الشهر الجاري بمدينة “كان” جنوب فرنسا.   

 

فلسفة المزج بين الكوميديا والرعب  

من شوارع نيويورك إلى ولاية سنترفل الأمريكية الصغيرة الهادئة، سافر مؤخرا جارموش ليحكي لنا قصة السكان المحليين وهم يتعرضون للهجوم من قبل “الزومي”. بعنوان “الموتى لا يموتون” يضعنا المخرج صاحب النظرات السوداء والشعر الأبيض (66 عاما) أمام الاختيارات الصعبة أولا، كما يوحي العنوان الذي نتيه معه بين الأسئلة، فماذا يقصد بـ”الموتى لا يموتون”؟

يضعنا أيضا أمام الأشياء العادية التي نعيشها كل يوم، حيث يتضمن الفيلم مزجا بين الحقيقة والخيال، وبتعبير أدقّ بين أناقة البشر في حياتهم العادية وأجسادهم المتهالكة بعد الموت، بمشاركة مجموعة من الممثلين الأمريكيين البارزين منهم آدم درايفر وبيل موراي وكلوي سيفاني في دور رجال الشرطة الثلاثة، بالإضافة إلى الممثلة البريطانية تيلدا سوينتون وإيجي بو، وتوم ويتس وسيلينا جوميز.

“مرحبا بكم في سنترفل، مكان لطيف حقا”.. هكذا تشير لافتة كبيرة وضعت على مدخل تلك المدينة التي يميزها العدد القليل من السكان الأحياء مقارنة بمئات الموتى الذي يعودون إلى الحياة في ليلة مقمرة، حينها لا يعود الموتى للحياة في ذاكرتنا وحكايتنا فقط، بل يعودون بأجسادهم إلى أماكنهم وحياتهم السابقة، يعود الأطفال للبحث عن ألعابهم، كما يعود عازف القيثار للبحث عن آلته الموسيقية.

شهية المخرج في أكل لحم البشر وسفك الدماء ليست جديدة، فالموت هو أكثر ما يحب جارموش الحديث عنه، فهذا العمل يُعيد الذاكرة للحديث عن عمله السابق “العُشّاق فقط يبقون أحياء”، حيث تقترب الفكرة ويختلف المضمون، لكن المادة الواحدة دائما هي حكاية الموتى الذين لا يموتون، وجلد الذات والعذاب النفسي الذي تجلبه لنا قصص “الزومبي”.

المزج بين الكوميديا والرعب ليست عمليه سهلة، وجارموش يدرك ذلك وهو يقدّم فلسفة الحياة والموت، عندما يطرق بابنا هذا الأخير كأنه جاء خصيصا للسخرية من حياتنا ومن لهفة العيش الطويل، حين يضعنا أمام سؤال صعب: ماذا لو عدنا إلى الحياة، كيف ستبدو ملامحنا، وما هي الأشياء التي سنشتاق إليها، كيف سننظر إلى أحبتنا الذين لا يزالون على قيد الحياة؟ هكذا يتحول الأموات إلى وحوش “زومبي” يأكلون لحم الأحياء، ويجد رجال شرطة الحي أنفسهم في مهمة مستحيلة لإعادة الهدوء إلى المدينة.

يحاول رجال الشرطة في المدينة إلحاق الهزيمة بمئات الأموت، وسرعان ما تغرب الشمس ويعمّ الخوف أرجاء المدينة

من روعة الحياة إلى الظلام الحالك

في ليلة كانت تبدو هادئة جدا، تزداد مهمة رجال الشرطة تعقيدا بعد العثور على جثة سيدتين قُتلتا بطريقة بشعة توحي بأن القاتل حيوان وحشي مفترس، قبل أن يقرر رجال الشرطة الاستسلام إلى فرضية “الزومبي”[i] الذين يخرجون من قبورهم. هكذا يميل جارموش لإظهار تفاصيل حياة غريبة وشاذة، ويمهد الطريق للأسئلة الأزلية بطريقة ساخرة وهزلية، فرغم أن الأمر يتعلق بالجثث والقتل والدماء وقطع الرؤوس، فإن المخرج يجد من هذه المادة فرصة لجعل الناس تضحك أمام شاشة تشهد تمزق الأجساد البشرية إلى أشلاء، ليتمكن من إرهاقنا نفسيا عند مشهد تلوّي الآخر بين الوجع والخوف والكوميديا.

الظلام الحالك هو الآخر الفضاء الزمني الذي يحبه المخرج، ففي هذا العمل ي��اول رجال الشرطة في المدينة إلحاق الهزيمة بمئات الأموت، وسرعان ما تغرب الشمس ويعمّ الخوف أرجاء المدينة، لنتأكد أننا نقف أمام زيف تلك اللافتة التي أشارت إلى روعة الحياة في مدينة سنترفل، وقد تحولت الآزفة إلى فضاء موحش يحمل معه كابوسا يحاصره “الزومبي”، حتى ذلك الفندق المتواضع “مونلايت موتيل” ومركز الشرطة والمنازل لم تعد آمنة، وكأن الأرض تخرج عن محور دورانها، فتتوقف أجهزة التلفزيون والراديو وتُصاب الهواتف النقالة بالعطب، ولا صوت يستطيع المقاومة غير صوت أغنية “الموتى لا يموتون” لمغني الروك الأمريكي ستورغين سيمبسون.

كان جارموش عضوا في فرقة الروك الموسيقية سكورل، وصدر له معها ألبومين

جارموش عاشق الروك

لقد نشأ المخرج في بيئة موسيقية، وقبل أن ينطلق في عالم الإخراج كان جارموش عضوا في فرقة الروك الموسيقية سكورل، وصدر له معها ألبومين رفقة جوزيف فان وسام. ومن خلال موسيقى أفلامه نلحظ تأثره بالروك، ومن شدة تعلقه بفناني الروك أخرج عام 2016 فيلما وثائقيا بعنوان “جيمي الخطير” الذي سرد من خلاله سيرة نجم أغنية الروك الأمريكي إيجي بوب.

جارموش العاشق لهذا النمط الموسيقي منح مغني الروك إيجي بوب دور الرجل المتشرد في فيلم “الموتى لا يموتون”، وجعل من أغاني “فرقة سكورل” حاضرة بقوة في كل المشاهد تقريبا، ومن هنا نفهم جزءا من أسباب اختيار هذا العنوان الذي جاء مغازلا لأغنية الروك، وفلسفيا يفسر المواقف التي كانت تعترض طريق رجال الشرطة، كما تحكي كلمات الأغنية الريفية القديمة “الموتى لا يموتون” وسط جيوش “الزومبي” الذين يتركون قبورهم لالتهام كل ما يقع بين أيديهم.

تماما كما يحب مهرجان كان الوفاء دائما لضيوفه سواء من المخرجين والنجوم، فإن المخرج جارموش ظلّ وفيا للنجوم الذين عمل معهم في السابق

جارموش الوفيّ

تماما كما يحب مهرجان كان الوفاء دائما لضيوفه سواء من المخرجين والنجوم، فإن المخرج جارموش ظلّ وفيا للنجوم الذين عمل معهم في السابق، فالممثل الأمريكي آدم درايفر جسّد دور الشرطي، وهي ليست التجربة الأولى له مع جارموش فقد عمل معه فيلم “باترسون”، بينما تحيلنا الممثلة البريطانية تيلدا سوينتون في دورها الجديد إلى حكاية فيلم “العشاق فقط يبقون أحياء” الذي أخرجه جارموش عام 2013، وفي هذا العمل تظهر بدور امرأة أسكتلندية غريبة الأطوار.

وهناك أيضا الرجل تومسون الذي جسّد دوره داني غلوفر، وهو أحد سكان المدينة من أصحاب البشرة السمراء التي تعكس شخصيته في الفيلم تفاصيل العنصرية التي عادة ما تشكل محورا هاما في أفلام هوليود. وفي الفيلم هناك أيضا شخصيات شابة أصغر سنا، منهم ذلك العبقري غريب الأطوار الذي يعمل تاجرا، والزبائن الثلاثة “سيلينا غوميز وأوستن بتلر ولوكا سبات” الذين يتجولون في المدينة، وبعض الأطفال المحتجزين في أحد مراكز الاعتقال.   

رغم مرور جارموش على البساط الأحمر لعدة سنوات، فإنه لم يفز ولا مرة بالسعفة الذهبية

جارموش التوّاق للسعفة الذهبية

رغم مرور جارموش على البساط الأحمر لعدة سنوات، فإنه لم يفز ولا مرة بالسعفة الذهبية، وها هو اليوم يعود مجددا في توقيت يبدو صعبا مقارنة بالأسماء المشاركة في المسابقة الرسمية، والتي تضم كوينتن تارانتينو بفيلم “كان ياما كان في هوليود”، وبيدرو المودوفار بفيلم “الألم والمجد”، وقد سبق لجارموش أن حاز على جوائز هامة مثل الجائزة الكبرى في كان 2016 عن فيلمه “باترسون”، وفاز فيلمه “غريب عن الفردوس” بالكاميرا الذهبية في مهرجان كان السينمائي عام 1984.

ورغم التشابه في أفلامه إلا أننا نجد شيئا جديدا يميز كل تجربة، خاصة في تعامله مع الممثلين، ففي هذا العمل قدم جارموش الممثل آدم درايفر بشكل مختلف تماما عن أدواره السابقة في فيلم “كلانزمان الأسود” للمخرج سبايك لي، وفيلم “حرب النجوم” للمخرج ريان جونسون، بينما جاءت التجربة الجديدة للممثلة تيلدا سوينتون بلمسة المحاربة التي تتمتع بثقة النفس والقوة والذكاء الخارق، لتجعل منها أشبه ببطلة سلسلة الساموراري بسيفها الحادّ الذي يمنحها القوة والثبات.

[i] الزومبي هي الجثة المتحركة، وقد اكتسبت هذه الشخصية شهرة شعبية منذ أواخر القرن 19، وأول من استخدم هذا المصطلح في السينما كان المخرج جورج روميرو عام 1968 في فيلم “ليلة الحي الميت”.


إعلان