فلسطين في مهرجان كان.. غيابٌ ينقلها إلى حضن الأصدقاء
محمد علال

“ما أجمل الأسرار الكامنة وراء الباب الموارب وراء بابك، فهل نقول لك شكرا؟”.. كتب الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش هذه الأبيات مغازلا تونس، ومن وراء القصد كل أصدقاء القضية، تسافر المشاعر من جديد إلى مهرجان كان السينمائي في دورته الـ72 الذي انطلق في 14 مايو/أيار الجاري ويستمر حتى 25 منه، بين أجنحة العديد من البلدان التي لا تزال تؤمن بالقضية الفلسطينية.
في مدينة كان بجنوب فرنسا بَنَت كل من تونس والمغرب وبلجيكا والسويد جسورا مهّدت الطريق لـ”مؤسسة الفيلم الفلسطيني” كي تدخل القرية العالمية من بابها الواسع، وذلك بعدما حاولت الظروف خيانة أحلام الشباب الفلسطيني، وقد تحولت العوائق المادية إلى حاجز حاول منع تلك النسائم التي كانت تحمل في مداعبة العلم الفلسطيني فوق سماء كان.
لقد تم ضبط كل شيء تقريبا، البرنامج وأسماء المشاركين، وحتى الموقع الإلكتروني وصفحة خاصة على فيسبوك تشير إلى أن جناح فلسطين سيكون حاضرا للمرة الثانية في مهرجان كان من 16 وحتى 21 مايو/أيار الجاري.
لقد أوحت الاستعدادات إلى أن الأمور تسير نحو تحقيق مشاركة أقوى من السنة الماضية، فاسم فلسطين موجود اليوم بفيلمين في البرنامج الرسمي للمهرجان، منها فيلم بتوقيع المخرج الفلسطيني الكبير إيليا سليمان “لا بد أنها الجنة” المشارك في المسابقة الرسمية، وفيلم “مبيانس” لوسام الجعفري الذي كسر الحصار من أجل الوصول إلى برنامج “سيني فنديسيون”.
فلسطين.. القضية الكبرى
ندوات ومشاريع مشتركة ولقاءات كانت ستشكل طبقا رمضانيا سيجتمع حوله زوّار الجناح الفلسطيني، منها مشاريع الأفلام في شبكة المنتجين “سرقة النار” لعامر شوملي، و”غيتو اليرموك” لعبد الله الخطيب، و”نطفة مهربة” لسوسن قاعو، و”نافذة العصفور” لأحمد صالح، و”شانتيان” لسهى عرّاف، بالإضافة إلى مشاريع الزاوية الوثائقية التي تضم أربعة أفلام هي “شقف” لكرم علي، و”ميونخ” لنصري حجاج، و”غرفة الترحيل” لمحمد حرب، و”جزائرهم” للينا سويلم.
وسط هذه الأحلام الكبرى بالعودة هذه السنة، حدث شيء مختلف ليتم إلغاء الجناح، وقد أجمعت الآراء على أن السبب مادي وسط الحصار الذي يفرضه الكيان الصهيوني، زاده تعقيدا قرار السلطة الفلسطينية إجراء تغيير حكومي، وذلك قبل أسابيع فقط من موعد عقد المهرجان، وقد شمل التغيير تعيين وزير جديد للثقافة الفلسطينية، ليصطدم الجناح بجدار الإدارة والصعوبات المالية.
كما قال المخرج الفرنسي الشهير جون لوك غودار يوما ما، فإن فلسطين لم تكن يوما مسألة تخص الفلسطينيين وحدهم، بل هي حسبه “قضية كبرى”، لهذا قررت تونس وبلجيكا والنرويج والمغرب استضافة برنامج فلسطين، وتقاسَم أكثر من ثلاثين سينمائيا فلسطينيا تلك المساحة الضيقة التي يتم استئجارها كل عام. هكذا تضيق الأمكنة ولا تضيق القلوب بالقضية الفلسطينية، ففي القرية العالمية وجدنا احتفالا كبيرا بمؤسسة السينما الفلسطينية.

الأسباب مادية والاحتضان عالمي
يُرجع المنتج مهند اليعقوبي مستشار مؤسسة الفيلم الفلسطيني غياب الجناح إلى الضغوط التي يمارسها الكيان الصهيوني على السلطة الفلسطينية، ففي ظل هذه الظروف تراجعت ميزانية الحكومة التي أصبحت بالكاد قادرة على توفير رواتب الناس على أبواب الشهر الفضيل.
مثل هذه الأمور التي جاءت لتثني عزيمة السينمائيين الفلسطينيين الشباب؛ تحولت إلى تضامن ودعم من الدول الصديقة للقضية الفلسطينية الذين احتضنوا البرنامج الفلسطيني، كما قال اليعقوبي “رغم هذا الضغط فإن تواجد السينما الفلسطينية جاء بالأفكار، والتضامن من كولومبيا وتونس والمغرب والسويد وبلجيكا والنرويج الذين قدموا الدعم”، فحتى إدارة مهرجان كان لم تتأخر حسب اليعقوبي في تقديم المساعدة لفلسطين، كما قال “كان وفّر خدمات وتسهيلات لنا كفلسطينيين، ولم يكن ليتحقق ذلك لولا إيمانهم بأهمية الحضور الفلسطيني”.
يعتبر المخرج الفلسطيني رائد أنضوني اليوم واحدا من بين أبرز المخرجين الفلسطينيين، وقد ذاع صيته عالميا بعد حصوله على عدة جوائز حاز عليها في المهرجانات العالمية، أهمها تتويجه عام 2017 في الدورة الـ67 لمهرجان برلين السينمائي الدولي بجائزة أفضل فيلم وثائقي عن عمله “اصطياد الأشباح”.
ويواظب رائد المقيم في فرنسا على مهرجان كان بشكل منتظم، وقد كان ضمن الفريق الفلسطيني الذي شارك في تدشين جناح فلسطين لأول مرة العام الماضي في “القرية العالمية”.
شعوره كفلسطيني يدفعه للحديث بصراحة شديدة في تعليقه عن الأسباب التي أدت إلى غياب جناح فلسطين هذا العام، كما قال “للأسف فالجناح الذي كان موجودا السنة الماضية وخلق حالة عالمية وكان وجود العلم الفلسطيني مفاجأة؛ تغيّب”، وقال رائد إن تغييب الجناح هذه السنة لأسباب مالية هو أمر غير خطأ، كما أوضح “في اعتقادي أنه من الخطأ أن نستثمر جهدا ووقتا للتواجد السنة الماضية، ثم نغيب العام الموالي”، لأن عملية بناء مشروع سينما فلسطينية يجب أن يسير خطوة بخطوة، فلا يُعقل أن يتم شغل الرأي العام العالمي بمسألة تواجد فلسطين في مهرجان كان، ثم نعود لإلغاء المشاركة في الدقائق الأخيرة.
وبين التفاؤل والحزن الذي لا يخفيه رائد أنضوني، فإنه يجد من مبادرة الدول الصديقة لفلسطين خطوة إيجابية وهامة، كما قال “قررنا هذه السنة أن نكون متواجدين في كان رغم عدم وجود جناح رسمي، وحضورنا كضيوف عند الآخرين سواء في جناح تونس لتنظيم لقاء حول الإنتاج المشترك مع البلجيك، وجناح ركن الأفلام القصيرة وجناح مركز السينما الفرنسية، وجناح المغرب وبلجيكيا والأرجنتين، وكل هذا الدول الصديقة للقضية الفلسطينية فتحت لنا أبوابها بكل رحابة صدر”.

السينما الفلسطينية.. حضن جامع
لقد نقل الفلسطينيون كل نشاطات المؤسسة إلى أجنحة العديد من الدول، وبهذا حاولت السينما الفلسطينية أن تجد محطة تجمع الفلسطينيين في مكان واحد، وهو الأمر الذي يصفه المخرج الفلسطيني أنضوني بـ”الحالة الفلسطينية”، فالحديث عن المساحات الجغرافية الضيقة هو أمر لا ينطبق على فلسطين، فهي ليس الضفة الغربية التي يتواجد فيها نحو ثلاثة ملايين فلسطيني فقط، بلد يصل مداها إلى قلوب كل الفلسطينيين.
ففي الخارج عدد الفلسطينيين أكثر من الداخل، وإذا ما قمنا بإجراء نظرة سينمائية لا يمكن أن نرتبط بقطعة الأرض فقط، كما يقول المخرج الفلسطيني “السينما في الحقيقة مرتبطة بالثقافة المنتشرة في الداخل وفي الشتات”، وهذا الأمر ينعكس بشكل مباشر على التنوع والمرجعية للمخرجين الفلسطينيين، فلكل تجربة حياة مختلفة، وبالتالي سنجد أن الأفلام الفلسطينية غير متشابهة من خلال المشاهدة، لكن عندما نركز فيها نجد أن هناك شيئا واحدا يجمعها عنوانه “الهوية الوطنية”.
من هنا ينطلق إحساس أنضوني باتجاه ضرورة خلق مكان يجمع كل هؤلاء الفلسطينين ويقودهم نحو جسر سينما فلسطينية، وهذا الأمر ما حدث السنة الماضية في كان، أي عندما تحوّل جناح فلسطين إلى محطة كسرت تلك القاعدة التي ظلت تقول إن “الفلسطينيين حاضرون دائما كأشخاص وليس كمجموعة”، كما قال أنضوني “نحن كسينمائيين فلسطينيين عشنا سنوات طويلة كأفراد في المهرجانات، ولأول مرة بدأت تتشكل حالة من السينما الفلسطينية في مهرجان كان العام الماضي”.

مؤسسة الفيلم الفلسطيني.. مبادرة في المهد
ربما من بين الأسباب التي جعلت من حضور الجناح في كان هو عدم اعتماد السلطة الفلسطينية حتى الآن لـ”مؤسسة الفيلم الفلسطيني” الموجودة كفكرة منذ عام، لكنها تنشط وتقدم أشياء هامة، ويسعى الشباب الذي التفّ حول هذه المبادرة إلى أن تكون المؤسسة رسمية وليست هيئة خاصة غير ربحية وغير حكومية، وهو ما شدّد عليه أنضوني في حديثه عن مستقبل بناء السينما الفلسطينية “نريدها هيئة رسمية مستقلة لا يوجد عليها سيطرة سياسية، ولديها إدارة مستقلة يقودها مهنيون”.
بالنسبة للناقد المصري محمد عاطف فإن تواجد السينما الفلسطينية في مهرجان كان -سواء من خلال المخرجين أو المنتجين أو كتّاب السيناريو- يعكس قوتهم وجديتهم، فوفقا لكلامه فإن حضور السينما الفلسطينية يعني تواجد القضية الفلسطينية وحق الشعب الفلسطيني، ويُذكر العالم بجرائم الكيان الصهيوني، لهذا فالمشاركة هي مكسب سياسي وفني ونضالي كبير بالنسبة لفلسطين، وهو ما تجسّد العام الماضي من خلال وقفات التضامن، وخاصة تلك التي قامت بها الممثلة اللبنانية منال عيسى، كما قال الناقد المصري “جناح فلسطين السنة الماضية أتى بثماره”.

مهرجان سينما فلسطين
في جناح تونس حيث اجتمع العشرات من الفلسطينيين على طاولة نقاش المشاريع المشتركة ومستقبل السينما الفلسطينية، تُحدثنا الفلسطينية روان عودة -وهي إحدى منظمات مهرجان سينما فلسطين بباريس- عن ضرورة خلق فضاءات يلتقي خلالها السينمائيون الفلسطينيون في المهرجانات الكبرى.
ففي ظل الظروف التي يعيشها الشعب الفلسطيني بين الشتات والحصار، ترى عودة أن المشاركة بجناح لفلسطين في مهرجان كان كل عام هو أمر مهم جدا يدعم القضية ويسمح للفلسطينيين بخلق مبادرات دولية، منها مبادرة “مهرجان سينما فلسطين بباريس” الذي وُلد بجهود ذاتية وفريق متطوع من الشباب الفلسطيني المقيم في فرنسا، وعدد من الداعمين الذين يحملون في قلوبهم الهمّ الفلسطيني.
وتشارك عودة في كان من أجل الترويج لهذه المبادرة في طبعتها الخامسة المقررة من 30 مايو/أيار إلى 10 يونيو/حزيران 2019، حيث سيتم التركيز على الأفلام التي لها علاقة بقطاع غزة عبر برنامج مكثف يشمل عرض أفلام لمخرجين فلسطينيين، منهم المخرج ميشيل خليفي وفيلمه “حكايات الجواهر الثلاث”، وفيلم الأخوين عرب وطرزان “ديغراديه”، وأفلام لمخرجين أوروبيين ركزوا في مواضيعهم على قطاع غزة.

السينما الفلسطينية.. حضور مهم
وبشكل عام فإن غياب جناح فلسطين عن كان لم يُحزن السينمائيين الفلسطينيين والنقاد العرب فقط، بل هو أيضا أمر أحزن العديد من أصدقاء فلسطين، منهم السينمائية الفرنسية جنين فرنوهاس أرابي التي تشرف على مهرجان “سيني فلسطين” بمدينة تولوز بجنوب فرنسا، وقالت وهي تستحضر بعض المشاعر التي جمعت عددا كبيرا من السينمائيين العالميين في جناح فلسطين العام الماضي “أتذكر السنة الماضية افتتاح جناح فلسطين في كان، وقد كان حدثا هاما على جميع المقاييس”.
وأضافت “تواجد السينما الفلسطينية هو هام جدا لكل مهرجان في العالم، فهي تجمع بين القضية الإنسانية والبعد الفني”، وتأسفت لعدم وجودها هذه السنة، لكنها حيّت في المقابل مبادرة الدول التي احتضنت برنامج “مؤسسة الفيلم الفلسطيني” التي جعلت من السينما الفلسطينية حاضرة رغم الصعوبات والتحديات.