مهرجان كان 2019.. السعفة الذهبية إلى اليسار در
محمد علال
في إحدى الأحياء البسيطة في كوريا الجنوبية، يمتد الفقر إلى حياة الرجل “سونغ كانغ” كأنه ثعبان يحاصر عائلته التي تتكون من زوجين وولديهما، بين الصراصير والقوارض في ذلك المكان الذي قد يشبه أي شيء إلا أن يكون مسكنا يؤوي البشر. هناك تولد المشاق وينمو البؤس وبعض الأحلام التي تكبر وتتحول إلى يد تساعد الأغنياء في تحقيق مزيد من الرفاهية، عندما تقود سخرية القدر الابن الأكبر للعائلة “كي وو” للعمل أستاذا للغة الإنجليزية يقدم دروسا خاصة لابنة إحدى العائلات البرجوازية في المنطقة.
بهذه الحكاية جاء المخرج بونغ جون يوم 14 مايو/أيار بصحبة ستة من أبطال فيلمه الروائي الطويل “طفيلي” (Parasite) (الممثلون تشوي وو-سيك، جو يو جونغ، جانغ هي جين، بارك سو دام، لي سون غيون، سونغ كانغ هو) ليغير تاريخ السينما الكورية ويتوّج مسارها بأول سعفة ذهبية منحت له أمس السبت، في حفل ختام مهرجان كان السينمائي، بعدما صفق جمهور النقاد والصحفيين والسينمائيين لهذا العمل المبهر فنيا والقاسي جدا في تفاصيل مشاعره الإنسانية، وقد اختار فتح المقارنة بين حياة أسرتين الأولى غنية والثانية فقيرة.
مضت عشرة أيام (من 14-25 مايو/أيار 2019) عاش فيها شارع “لاكرزوات” في كان أجواء حماسية فتحت الأبواب للحديث عن مواضيع الساعة بين التطرف والتعصب والجمال وصراع المال والطبقية. كانت الأفلام الـ19 التي شاركت في المسابقة الرسمية محور الحدث، في مقابل ذلك عاش المخرج المكسيكي أليخاندرو غونزاليس إناريتو حالة استثنائية في مساره المهني بتوليه رئاسة لجنة تحكيم المسابقة للمهرجان.
والملفت للانتباه في الدورة الـ72 ثلاثة أمور: أولها عودة أسماء ثقيلة في السباق، واكتساح الأفلام التي لها امتداد مع السينما الفرنسية بشكل أو بآخر، واهتمام كان المتزايد بأفكار اليساريين.
تتويج جديد لليسار والبؤساء
المخرج بونغ جون واحد من هؤلاء الذين لا يحبون ارتداء ربطة العنق، فهو خريج مدرسة اليسار في كوريا الجنوبية قبل أن يكون سينمائيا بارعا، وبتعبير أدق هو النسخة الكورية للمخرج البريطاني كين لوتش الذي تُوج قبل سنتين بالسعفة الذهبية على فيلمه “أنا دانيال بلك”، ويحمل المخرج الكوري إلى حالة مشابهة في رفضها لأشكال الطبقية عبر فيلم “طفيلي”.
بونغ جون (50 سنة) الذي ينتهي إلى الحزب التقدمي الجديد اليساري، في الحقيقة هو حلقة مهمة في السينما الكورية الجنوبية وسياستها أيضا، ولم تأت السعفة الذهبية إلا تأكيدا لذلك بعد خطفه للعديد من الجوائز الآسيوية الهامة، كما أن مشاركته في المسابقة الرسمية لكان ليست الأولى (شارك عام 2017 بفيلم “أوكجا”). وفي مساره 11 فيلما معظمها أفلام تتناول القضايا الاجتماعية وحكايات المعذبين في الأرض وتدافع عن الطبيعة وتحارب الطبقية.
“شكرا جزيلا.. هذا شرف عظيم لي، لطالما شكلت السينما الفرنسية مصدر إلهام لي، أشكر هنري جورج كلوزو وكلود شابرول”، بهذه الكلمات التي ألقاها المخرج الكوري الجنوبي في حفل الختام، حدد بدقة توجهه السينمائي، وقد اختار تحية اثنين من أبرز السينمائيين الفرنسيين الراحلين الذين تميز مسارهم المهني بارتدائهم عباءة الفقراء وانتقاد الأنظمة الإمبريالية.
وتماما كما فعل جان لوك غودار وفرانسوا تريفو يأتي المخرج الكوري الجنوبي ليدفع بمهرجان كان نحو اليسار أكثر فأكثر، لتوازن السعفة الذهبية ميزان البساط الأحمر الذي يعتبر حلقة هامة من حلقات الرأسمالية والتباهي بالملابس والمجوهرات الفاخرة.
السعفة الذهبية التي بلغت من العمر اليوم 65 عاما لم تشخ أبدا، وهي الأكثر إبهارا بين كل الجوائز العالمية، تحمل معها منذ عام 1955 المزيد من المفاجآت للسينما العالمية، وتبدو السينما الفرنسية الأوفر حظا في خطف جوائز المهرجان، لتضيف هذه السنة المزيد من التتويجات إلى مساره المزركش بـ11 جائزة كبرى حازت عليها في هذا المهرجان، بداية بتتويج المخرج الفرنسي رينه كليمون عام 1974 عن فيلمه “لعن” الذي تحدث عن الأسبوع الأخير من الحرب العالمية الثانية.
ولا تزال قصص التاريخ تشكل حلقة هامة من أبرز أفلام السينما الفرنسية التي تخطف الجوائز في مهرجان كان، منها فيلم “بورتريه لفتاة على النار” للمخرجة الفرنسية الشابة سيلين سكيما التي حازت على جائزة أحسن سيناريو بعدما عادت إلى عام 1770 لتفتش عن ملامح فتاة رسامة تدعى ماريان تريد رسم بورتريه لامرأة شابة مقبلة على الزواج، لتولد بينهما علاقة عاطفية. هكذا تختار سيلين سيكاما الزاوية الصعبة وحديثها عن علاقات لا تمحى من الذاكرة بسهولة.
ومن أصل 32 جائزة هامة تقدم في إطار المهرجان، حاز 12 سينمائيا بين مخرج وممثل من أصل فرنسي على جوائز كان المختلفة، منها أيضا الفيلم الفرنسي “البؤساء” للمخرج الفرنسي “لاد لي” الذي حاز على جائزة لجنة التحكيم مناصفة مع الفيلم البرازيلي “باكرا” (Bacurau) لكليبر ميندونسا فيلهو وجوليانو دورنيليس.
وبالنسبة لفيلم “البؤساء” فقد جاء عملا قويا يحاكي قصص الضواحي في فرنسا وحالة البؤس التي تعيشه تلك المناطق الفرنسية مع انتشار العصابات. فهذا الفيلم الذي قدم الوجه الآخر لعاصمة الجن والملائكة وحمل معه شهادة ميلاد مخرج فرنسي من أصول أفريقية مالية، فهم جيدا قواعد اللعبة السينمائية في عام 2019، ليرسم لوحة سينمائية مختلفة تماما عن العديد من الأفلام التي تناولت حكاية الضواحي التي تسكنها الفوضى ويسودها قانون الغاب، وذلك عبر سيناريو قوي وأداء متميز للممثلين خاصة الأطفال الذين ينحدرون من أبناء الجيل الرابع للمهاجرين الأفارقة والعرب والمسلمين.
وقد رفع التتويج من رصيد المخرجين من أصول فرنسية، خاصة الذين يقررون الاهتمام بقضايا الفئات المهمشة، ففي أجواء محمومة بالمشاكل الاجتماعية والسياسية التي تعيشها فرنسا، بعدما حاصر أصحاب السترات الصفراء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، دخلت السينما الفرنسية بقوة إلى المسابقة، منها قصص المهاجرين بحثا عن حياة سعيدة كما هو شأن فيلم ” الأطلنطي” (Atlantique) للمخرجة الفرنسية ماتي ديوب التي حازت على الجائزة الكبرى للمهرجان لتناولها قصة عامل البناء سليمان الذي كان يعيش في إحدى ضواحي داكار الشعبية، وقرر مغادرة البلاد عبر المحيط بحثا عن مستقبل أفضل.
صراع الكبار على السعفة
محاولة معرفة ألوان السعفة الذهبية كان هاجسا كبيرا يؤرق النقاد والصحفيين خلال الأيام الأخيرة للمهرجان، وتحول الجميع في مثل هذه الأجواء إلى “عرافين” و “قارئي فنجان” يحاولون قراءة صورة لا تبدو واضحة. وفي العادة تختلف النتائج عن توقعات كبار النقاد، وهذا الأمر يحيلنا إلى عام 2016 وحالة الغضب والتشكيك في مدى استقلالية القرارات التي اتخذتها لجنة التحكيم التي ترأسها المخرج الأسترالي “جورج ميلر” بعد تجاهل اللجنة لفيلم المخرجة الألمانية مارين آدي “طوني أيردمان” الذي تصدر تكهنات الفوز بالسعفة الذهبية، ولكنه لم يحقق أي جائزة في نهاية المطاف.
حالة كتلك عادت إلى تصدر ردود الفعل تجاه قرارات رفاق ألخندرو، حيث حمل حفل الختام معه خبر خروج المخرج الأمريكي كوينتن تارانتينو دون جائزة عن فيلمه “ذات مرة.. في هوليود”، فهذا العمل الذي جمع في بطولته النجم ليناردو ديكابريو وبراد بت ومارغت روبي وألبتشينو، كان الحدث الأبرز في كان، وقد خرج تارانتينو دون جائزة، وهو أمر جد صعب على مخرج كبير يريد النجاح لفيلمه بكل الطرق، ويستحق التكريم بالنسبة لمستوى الجهد الذي بذله طاقم الفيلم.
في حفل الختام فتشت كاميرا التلفزيون عن المخرج الإسباني بيدرو ألمودوفار، لكنه لم يكن موجودا، لقد غاب ألمودوفار عن الحفل، بينما جلس أبطال فيلمه -منهم الممثل الإسباني “أنطونيو بانديراس”- في الصفوف الأولى، وبهذا الشكل فهم الجميع بأن ألمودوفار لن يُتوج بجائزة عن فيلمه “ألم ومجد” (Pain and Glory) الذي شغل به جمهور كان منذ اليوم للمهرجان، لتعود في النهاية جائزة أحسن ممثل لبانديراس لتجسيده شخصية “الأنا ألومودفار” لأدائه دورا تطلب التركيز على الجوانب النفسية المعقدة. في وقت كان العديد من النقاد يتوقعون فوز ديكابريو بالجائزة التي لم يتوج بها يوما في مساره.
لقد جاء تتويج بانديراس عكس منطق جائزة أحسن ممثل في كان على الأقل في السنوات الأخيرة، حيث ترفض “السعفة الذهبية” الخضوع لقواعد الأوسكار أو النجومية المطلقة للممثلين، فالملاحظ من خلال أرشيف جوائزها أنها لا تميل إلى نجوم الصف الأول في هوليود، وقد كانت جوائز كان الخاصة بأحسن ممثل وممثلة أكثر اهتماما بالممثلين غير المعروفين، وهو ما تجسد العام الماضي على سبيل المثال في تتويج الممثل الإيطالي مارسيلو فونتي بجائزة السعفة الذهبية لأفضل ممثل عن دوره في فيلم “دوغمان” للمخرج الإيطالي دي ماتيو جاروني، وفي السنة نفسها تُوجت الممثلة الكزاخية سمال يسيلاموفا عن دورها في فيلم “أيكا” للمخرج الروسي سيرجي دفورتسفوي.
حظوظ عربية فلسطينية سورية
التاريخ يؤكد أن الأفلام التي يتم برمجتها في اليوم ما قبل الأخير من المهرجان، تحظى في أحيان كثيرة بتقدير لجنة التحكيم وتصنع الحدث، فالسنة الماضية عادت السعفة الذهبية لأحسن ممثل إلى فيلم “أيكا” للمخرج الروسي سيرجي الذي عرض فيلمه في اليوم ما قبل الأخير من المهرجان.
غير أن هذه المعادلة ليست ثابتة، بل بالعكس، فمعظم الأفلام التي تصنف في خانة “تعيسة الحظ والمستوى” عرضت أيضا في الأيام الأخيرة. فعندما خفّت الحركة وعاد عدد كبير من الصحفيين والسينمائيين إلى منازلهم، ظل الحاضرون يترقبون فيلم “مكتوب ماي لوف” (Mektoub My Love: Intermezzo) للمخرج عبد اللطيف كشيش، لكنه جاء صادما ومخيبا للآمال، ويؤكد أن العودة إلى المنافسة اختبار حقيقي صعب لكل مخرج حاز يوما ما على السعفة الذهبية (كشيش حاز على السعفة الذهبية عام 2013 عن فيلمه “حياة أديل”)، لتتحول مشاركته إلى محاكمة قاسية جدا بعدما فشل في إقناع الجمهور بفلسفته السينمائية، وقدم عملا يعكس حالة التوهان التي بات يعاني منها المخرج الفرنكو تونسي.
في اليوم الأخير عرض فيلم المخرج الفلسطيني إيليا سليمان “لا بد أن تكون الجنة”، وبَين وزن المخرج والملامح الفنية للفيلم الذي شارك في المسابقة الرسمية قررت لجنة التحكيم منح إيليا الجائزة الخاصة للمهرجان بالإضافة إلى جائزة النقاد “فيبريسي”، ليحفظ بذلك ماء وجه السينما العربية، بعدما كان الفيلم العربي الوحيد المشارك في المسابقة الرسمية.
لقد قدم المخرج الفلسطيني لوحة تجريدية، شارك فيها كمخرج وممثل يطرح الأسئلة إزاء القضية التي لا تزال تشغل باله كمخرج ومواطن فلسطيني محكوم عليه بالهجرة. لكننا نجد أنفسنا أمام مسافة قصيرة تحيلنا في كل دقيقة إلى أعماله السابقة، كأنه استنساخ تجربته السينمائية القديمة “يد إلهية” التي حاز فيها عام 2002 الجائزة الكبرى لمهرجان كان.
وفي رصيد المشاركة العربية جائزة أخرى بتوقيع المخرجة السورية وعد الخطيب التي نال الفيلم الوثائقي “إلى سما” جائزة “العين الذهبية” لأفضل وثائقي يعرض في مهرجان كان، مناصفة مع “سلسلة الأحلام” للتشيلي باتريسيو غوسمان.
الأقل حظا يخطف الجوائز
كل شيء ممكن في كان، وجوائزه المبهرة قد تتجه إلى ما هو غير متوقع أبدا، وهو ما حدث بالفعل بعد إعلان فوز الفيلم البلجيكي “الفتى أحمد” (Young Ahmed) للأخوين داردان بجائزة أحسن إخراج، ليصنع حالة من الحيرة في الدقائق الأولى لحفل الختام، ويوحي بأن السعفة الذهبية لن تكون إلا تتويجا للسياسة، فالفيلم البلجيكي جاء فيما يبدو تحت الطلب ليقول كلمته في المسلمين بطريقة تبدو قاسية نوعا ما، وهو يقدم صورة طفل مسلم يريد قتل معلمته باسم الدين. وهذا العمل لم يرق إلى مستوى إعجاب الكثير من النقاد.
الأمر نفسه قد حاصر ثلاثة أفلام ارتبطت بأسماء مخرجين مهمين، على غرار فيلم الافتتاح “الموتى الذين لا يموتون” للمخرج الأمريكي جيم غارموش، وفيلم “الخائن” للمخرج الإيطالي ماركو بيلوكيو، وفيلم “ماثياس وماكسيم” للمخرج الكندي إيكزافيه دولان، ورغم رصيد المخرجين ووزنهم في الساحة فإن أعمالهم صُنفت في خانة الأقل حظا في دورة تعتبر الأكثر حشدا للمخرجين الكبار والأسماء الثقيلة منهم خمسة مخرجين سبق لهم الفوز بالسعفة الذهبية.
وفي تلك الأثناء ظل المخرج الأمريكي ترانس ماليك هو الآخر يراقب حظوظه بعدما قدم صورة جميلة تجعله فعلا في خانة الفنان الذي يعرف جيدا كيف يجعل من كل مشهد لوحة رُسمت بدقة شديدة وهو يضع الكاميرا على نسق الفنون التشكيلية في فيلمه “حياة خفية” (hidden life)، تماما كما يفعل دائما في أفلامه، خاصة فيلم “شجرة الحياة” (The Tree of Life) الذي حاز على السعفة الذهبية عام 2011، لكن المخرج الأمريكي لم يفز في الأخير إلا بـ”جائزة عالم” (Ecumenical Award) التي تُمنح على هامش المسابقة الرسمية.
هكذا يسدل الستار على الدورة الـ72 لمهرجان كان بجوائز مستحقة وأخرى مثيرة للجدل. وقد كان المخرج البريطاني كين لوتش مقتنعا جدا بأن فيلمه “آسف.. نسيناك” (Sorry We Missed You)، لن يكون من بين المتوّجين، هكذا حدثنا لوتش على هامش جولة عادية كان يقوم بها في شارع “لاكرزوات”، فلوتش لم يكن يوما ذلك النجم الذي يركض خلف البساط الأحمر، لكن السعفة الذهبية ركضت خلفه مرتين، وفي كل مرة يأتي فيها إلى المهرجان يترك أثرا من نوع خاص، ويجعل من حضوره فرصة للضغط على ضمائر الأنظمة العالمية بأسلوب حياته المناهض للرأسمالية والإمبريالية.
وقد جاء لوتش إلى كان ليطرح الأسئلة التي تشغل باله كمناضل يساري يُعرف عنه حبه الدائم للقضية الفلسطينية ورفضة لسلطة المال، كما حدثنا في فيلمه “أنا دانيال بلايك” عندما فاز بالسعفة الذهبية عام 2017، وعاد هذه السنة ليعلن مناصرته لأصحاب السترات الصفراء التي خرجت رفضا لسياسة الإليزيه، ليستحق لقب أكثر مخرج يساري أحبه كان.
وهذه السنة نال الرئيس الأمريكي دونلد ترامب نصيبه من “الغضب” في كلمة قوية قالها المخرج المشاغب مايكل مور الذي مر فوق خشبة مسرح “لوميار” بكان ليسلم إحدى الجوائز ويرسل إلى ترامب كلمة نارية جعلت كل الحاضرين يصفقون له بحرارة عندما قال: “بيكاسو يقول الفن هو الكذبة التي تمكننا من إدراك الحقيقة، ونقول في أمريكا ترامب هو الكذبة التي تمكننا من مزيد من الكذب”.