أطباق الغرباء.. رمضان على التلفزيون الهولندي
محمد موسى

تبدأ زروالي من بيت أهلها، المغاربة الذين هاجروا الى هولندا في بداية عقد الستينيات من القرن الماضي، واستقروا في إحدى المدن الهولندية الصغيرة
في سابقة للعائلة الملكية الهولندية -وربما على صعيد العائلات الملكية في أوروبا- فاجأ الملك الهولندي ڤيليم ألكسندر أعضاء جمعية إسلامية في حي من أحياء مدينة لاهاي الهولندية، عندما زارهم قبل دقائق قليلة من إفطارهم الجماعي الذي كانوا يعدون له مع بداية شهر رمضان الحالي، ثم شاركهم بعد ذلك طعامهم.
لم يشأ الملك أن يخبر أعضاء الجمعية بموعد زيارته، فهو وكما أفشى لأحد الهولنديين المسلمين الذين كانوا هناك، لم يرغب أن يُربكهم ويُقلق يوم عبادتهم بمراسيم ضخمة ومُعقدة ترافق بالعادة الزيارات الملكية.
أفطر الملك الهولندي مع المسلمين في بلده، وتبادلوا الأحاديث والطّرف، فعندما اعتذر أحد الموجودين بأنه لا يجيد اللغة الهولندية وأنه يتكلم الاسبانية، رد الملك ضاحكاً بأنه يتكلم اللغة الاسبانية أيضاً، في إشارة الى زوجته الملكة ماكسيما الأرجنتينية الأصل والإسبانية اللغة، والتي تخصص جزءاً من برنامجها الملكي لشؤون المهاجرين، حيث إنها تعرف جيداً المصاعب والمشاق التي تواجه أغلبهم (هاجرت هي نفسها بعمر الثلاثين إلى هولندا وبعدها تزوجت من الأمير ڤيليم ألكسندر الذي كان وقتها وليا للعهد)، وبالخصوص في وسط أجواء الاحتقان التي تُهمين على هولندا وأوروبا في العقدين الأخيرين.
حظيت زيارة الملك الهولندي للجمعية الإسلامية وإفطاره معهم بتغطيات إعلامية واسعة، وكانت ما يشبه التذكير، ومِن على جميع منصات الإعلام الهولندي بحلول شهر رمضان، وهو الشهر الذي لم يعد حضوره يمرّ دون اهتمام إعلامي، إذ إن هناك أكثر من 900 ألف هولندي مسلم يعيش اليوم في هولندا، والكثير منهم ينتظر هذا الشهر وتتغير طبيعة حياته اليومية فيه، ومع حلول شهر رمضان في الصيف الهولندي الذي يتميز بنهاره الطويل جداً الذي يُرهق الصائمين.

التلفاز الهولندي يستضيف رمضان
وكعادة التلفزيون الحكومي الهولندي في السنوات الأخيرة، كان هناك برنامج تلفزيوني جديد يتناول علاقة شهر رمضان بالمسلمين الذين يعيشون في هولندا. ويحمل برنامج هذا العام عنوان “أطباق رمضان”، وتقدمه الهولندية من الأصول المغربية نادية زروالي، وتستعرض في كل حلقة منه أطباقاً شعبية يُعدها مسلمون في هولندا في شهر رمضان.
لا يكتفي البرنامج بتقديم مراحل طبخ هذه الأطباق، بل ينتهز هذه الفرصة ليعود مع ضيوفه الذين ولد مُعظمهم خارج هولندا إلى ذكرياتهم عن بلدانهم الأصلية، ويستعيد مع بعضهم الظروف القاسية كثيراً التي أجبرتهم على ترك بلدانهم، ليغدو طعام رمضان مناسبة أليمة ومبهجة في الآن ذاته لتذكّر حيواتهم الماضية.
تضيف الكاتبة وخبيرة الطبخ نادية زروالي برنامجاً جديداً لها عن الأكل وعاداته لشعوب وثقافات مختلفة. وهذا الاتجاه ينسجم مع سيرتها التلفزيونية في التلفزيون الهولندي، حيث إنها قدّمت في السنوات الأخيرة مجموعة من البرامج التلفزيونية عن الشرق الأوسط، تنطلق جميعها من الأكل وتحضيره، قبل أن تمرّ وتتناول قضايا وموضوعات عديدة.

عائلة مغربية
تبدأ زروالي من بيت أهلها، المغاربة الذين هاجروا -كحال الكثير من أمثالهم- الى هولندا في بداية عقد الستينيات من القرن الماضي، واستقروا في إحدى المدن الهولندية الصغيرة.
حضّرت العائلة شوربة الحريقة المغربية المعروفة التي لا تغيب عن موائد إفطار المغاربة أينما كانوا. ولأن تحضير هذه الشوربة لا يتطلب الكثير من الوقت والجهد، يستغل البرنامج وجود مقدمته مع أهلها ليبحث في حال المغاربة الذين يعيشون في هولندا. فيفرد البرنامج وقتاً طويلاً نسبياً لحوارات عن الماضي والحاضر، كما تأخذ المقدمة البرنامج الى أمكنة طفولتها التي عاشت فيها، حيث تستعيد بعض الذكريات التي أثرت في حياتها.
وتبدو عائلة زروالي بعيدة جدا عن أجواء الاحتقان والتشكيك التي تصم علاقة بعض المغاربة بالمجتمع الهولندي، إذ يعيش والدا المقدمة في سلام واضح في مدينتهما الهولندية الصغيرة، كما أنها ينشطان في العمل الخيري.
تعمل والدة نادية متطوعة في تدريس اللغة العربية والعبادات الإسلامية في مدرسة قريبة، في حين ينشط الأب في المجتمع الإسلامي في مدينته، حيث أثمرت جهوده الطويلة التي امتدت لسنوات للسماح بوجود مقبرة إسلامية في المدينة، ذلك أن بلدية مدينته وافقت أخيراً على تخصيص قطعة أرض لهذه المقبرة. والتي صورها البرنامج.
صينيون من الإيغور
لا يحظى معظم ضيوف البرنامج بسلام عائلة زروالي، فعندما تزور المقدمة عائلة هولندية تنتمي لأقلية الإيغور المسلمة في الصين، تتكشف بعض الظروف المأساوية التي تعيش فيها هذه الأقلية، فحسب العائلة التي زارها البرنامج، حجزت الصين ملايين المسلمين في معسكرات مغلقة، تُذكر بمعسكرات النازية، أو التي أنشأتها الولايات المتحدة للأمريكيين اليابانيين إبان الحرب العالمية الثانية، حيث تمنع الصين الخروج من هذه المعسكرات، ولا يمكن الاتصال بالموجودين فيها.
لا يعرف الضيف الصيني الذي تجاوز الأربعين من العمر والذي سيفتح بيت عائلته في هولندا للبرنامج، أي شيء منذ عامين عن أُمّه المسنّة في الصين، فالاتصال الهاتفي لم يعد ممكناً. وعندما كانت مقدمة البرنامج تعد الطعام التقليدي لشهر رمضان لأهل تلك المنطقة مع زوجة هذا الرجل، سيتحدث هذا الأخير بحسرة عن افتقداه لأُمّه وخوفه على حياتها. وعندما يعرف أن والدة المقدمة ما زالت على قيد الحياة، يدعوها لتثمين كل دقيقة تقضيها مع أُمّها، فهذا الوقت لن يعود أبداً.
زواج سوري في مركز اللجوء
سيكون للاجئين السوريين حصة في البرنامج، وهم الذين قدِموا بالآلاف إلى هولندا في السنوات الأخيرة بعد أن تفجر العنف في بلدهم.
يختار البرنامج عائلة شابة تعرّف فيها الزوجان على بعضهما في أحد معسكرات اللجوء في هولندا وتزوجا بعد ذلك.
يعود أصل الزوجين إلى مخيم اليرموك في دمشق، لكن الأقدار تجعلهما يلتقيان في هولندا وليس في سوريا.
تعمل الزوجة السورية صاحبة شركة لتزويد الأكل السوري الذي تطبخه في بيتها. هذه السورية الفلسطينية التي كانت تعمل في عالم الشركات المالية، سعيدة بتجربة العمل الجديدة، وسعيدة أيضاً بالأمان الذي منحته هولندا لعائلتها الصغيرة.

إفطار في مسرح
ينتقل البرنامج بين فئات متنوعة من المسلمين، فيعرض في إحدى حلقاته الممثل الهولندي من أصول مغربية نصر الدين دشار الذي حقق شهرة كبيرة في السنوات الأخيرة، وتحول إلى اسم لامع في المشهد الفني في هولندا بفضل أدوار متنوعة مشهودة وجوائز مرموقة حصل عليها.
يرافق البرنامج الممثل أثناء عمله في المسرح، حيث يقدم حالياً عملاً مسرحياً عن حياته وزواجه من امرأة من أصول غير مغربية، ويتبع فيه عملاً سابقاً له قدمه على المسرح قبل عامين، وفيه عاد إلى حياة أبيه المهاجر المغربي.
ولأن عروض دشار المسرحية كانت في رمضان، اقترح الممثل على المسارح التي تستضيف مسرحيته بأن ينظم إفطاراً جماعياً للمسلمين وغير المسلمين بعد انتهاء عروضه المسرحية، وهو ما وافقت عليه إدارات بعض المسارح.
تعود المقدمة مع ضيفها إلى ذكرياته عن رمضان، ويُحضّران معا في كواليس بناية مسرح هولندي أكلة مغربية تقليدية.
يخوض دشار في أعماله المسرحية في قضايا إشكاليّة تخص المهاجرين وموقعهم في عالم مضطرب أثرت فيه أحداث سياسية جسيمة في الأعوام الأخيرة. ويُواصل الممثل في حواره مع برنامج “أطباق رمضان” نقاش القضايا التي تشغله، وإن كان بحدة أقل من المعتاد، ربما بسبب روحانية شهر رمضان التي أثرت كثيراً على الممثل. في حين يعرض البرنامج مشاهد جميلة له وهو يستعد وحيداً لعرضه المسرحي، ثم مشاهد له يتنقل على طاولات الإفطار في قاعة المسرح حيث كان يعرض مسرحيته.

طبيب عراقي
يقدم البرنامج نماذج ناجحة على الصعيد المهني لمسلمين في هولندا، كالزوجين العراقيين الشابين، اللذين حضّرا أكلة عراقية تقليدية في مطبخ منزلهما الأنيق. يعمل الزوج طبيبا اختصاصيا، فيما تَدرس زوجته الشابة القانون في إحدى الجامعات الهولندية.
يزور البرنامج الهولندي الطبيب العراقي الشاب في المشفى الهولندي الذي يعمل فيه، ويصوره وهو يؤدي صلاته اليومية في غرفة خصصها المشفى للصلاة لجميع الأديان.
يسعى الطبيب العراقي إلى أن تكون حياته اليومية مثالاً على التوافق والانسجام، فهو يرى أن ما يجمع البشر هو أكثر مما يفرقهم، لذلك يصر –رغم صيامه- أن يجالس زملاءه في العمل على طاولة الغداء. كما أنه يتحدث لجميع من يقابلهم في عمله اليومي عن الصيام، ويحاول أن يزيل بعض الأفكار السلبية المسبقة التي تخص هذا الفرض الإسلامي. هذا الانفتاح هو الذي سهل حياة الطبيب العراقي وعائلته، وحولهم إلى نموذج ناجح للتعايش والانسجام موجود في هولندا والدول الغربية، لكنه قليل الظهور على شاشات الإعلام، التي تنشغل غالباً بالأزمات والمشاكل.

صومالية تتعرف على الإسلام
سعى البرنامج إلى الخوض في قضايا جدليّة والتعريف بمسلمين غير نمطيين، فرافق كاتبة من أصل صومالي تصوم للمرة الأولى في حياتها، وحاورها عن علاقتها الإشكاليّة بالدين الإسلامي، خاصة أنها كتبت عن هذا الموضوع مراراً، وبالتحديد عن التفسيرات البشرية للدين الإسلامي التي غمطت حقوق المرأة في الإسلام على حسب قولها.
وتكشف هذه الكاتبة أن صيام رمضان منحها سكينة لافتة، لكنها ما زالت في مراحل اكتشاف لذاتها، وتأسيس علاقة جديدة مع الدين الإسلامي.

ذكريات رمضان
يحتل تحضير الأطباق في البرنامج على مساحة زمنية جيدة، كما يُوفر البرنامج وعن طريق موقعه الإلكتروني الوصفات الأصلية الخاصة بهذه الأطباق للراغبين. بيد أن الطعام في البرنامج، ما هو إلا مدخل للاطلاع على حال مسلمين من مناطق شتى، معظمهم هارب من ظروف قاهرة في بلده، وما زال الكثير منهم يحمل تركات الماضي، وهذه تطاردهم بمظاهر عدة.
يعكس قلق وهموم بعض الشخصيات التي ظهرت في البرنامج، تعقيد ومأساوية العالم المعاصر من حولنا، فهم الذين هربوا من أوضاع مؤلمة كثيراً، وأحياناً من الموت نفسه، يتذكرون من منفاهم الهولندي ماضيهم. في حين يشكل الطعام -الذي يتم الاحتفاء به حيث يصوره البرنامج وبعد الانتهاء من تحضيره عن طريق مشاهد مبتكرة وجميلة جدا– الخيط الذي يربط هؤلاء “الغرباء” بأوطانهم التي صارت بعيدة، ومناسبة لتذكر أجواء خاصة من حيواتهم السابقة المنقضية.