وثائقيات تخطف الأضواء في مهرجان كارلوفي فاري

د. أمــل الجمل
“لا أتوقع أن يُعجب الجميع هناك بالفيلم. مؤكد سيُغضب البعض. ولا أتوقع له أن يُعرض بالتلفزيون الحكومي في روسيا. لكننا سنحاول بكل ما نستطيع أن نقدمه ببعض دور العرض السينمائي ليشاهده الجمهور، مثلما أتمنى عرضه في القرية التي قمنا بالتصوير فيها”.
هكذا صرحت المخرجة الروسية كسينيا أوكابينا بأحد حواراتها عقب عرض فيلمها الوثائقي الطويل (60 دقيقة) المعنون بــ”سرمدي” (Immortal) الذي نال الجائزة الكبرى لأفضل فيلم وثائقي وقيمتها خمسة آلاف دولار بمهرجان كارلوفي فاري الرابع والخمسين، إذ كان مشاركاً ضمن عشرة أفلام أخرى بمسابقة الفيلم الوثائقي.
سرمدي.. عن حقبة ستالين
يبدأ الفيلم بكلمات مكتوبة على الشاشة تقول “بعد الثورة الروسية تم بناء معسكرات للعمال في جولاج -أو معتقل سيبيريا- في الدائرة القطبية الروسية، وذلك مثل العديد من الأماكن الأخرى المشابهة، لكن مع الحرب العالمية الثانية تم إنفاق نصف الدخل من عمل المساجين على الحرب. بعد موت ستالين فُتحت السجون وأُطلق سراح الأسرى، لكن ظل الشعب يُعاني الفقر والظروف السيئة، وسوف يستمر الأشخاص الذين يعيشون هناك بعد تفكك النظام القديم يرزخون تحت القهر وشظف العيش”.
لن نرى في الفيلم أشخاصاً يسردون قصتهم أو يتحدثون بلسان حالهم عن أنفسهم، لكننا سوف نشاهد لقطات ومشاهد هي في حذ ذاتها تحكي الكثير عن هذه الظروف والمعاناة، وذلك رغم مرور سنوات على موت ستالين حيث كانت سيبيريا في عهده -وطوال فترة تتجاوز العشرين عاماً- معتقلا لانتهاك كل حقوق الإنسان، فقد تحولت إلى معسكرات للعمل الإلزامي والسخرة، حيث تعرض المنفيون إليها لكافة أشكال التنكيل والقمع.
يساعد على خلق ذلك الأثر جماليات التصوير التي تتسم بالمغامرة والجدة، خصوصا أن المشاهد الخارجية أغلبها تم تصويره ليلاً دون خوف من هذ ا الظلام الدامس، فقد بدا وكأنه خيار فني له دلالة قوية في التعبير عن حالة هؤلاء الناس، وذلك عبر مشاهدتنا لهم أثناء ساعات العمل الأقرب للاستعباد، حيث نرى العمال في المناجم المحلية يبحثون عن المواد الخام أو يقومون بصهر مواد الأسفلت بقوة النار، بينما الأطفال بعضهم يعلم نفسه بنفسه، أو يتم تدريبهم في سن صغيرة جدا على التصويب واستخدام الأسلحة. إنهم مضطرون إلى تعلم الانضباط.
يتأكد ذلك أيضاً من خلال لقطات التدريب في مدرسة الباليه للفتيات والتي تتقاطع مع لقطات أخرى للأولاد وهم يتدربون على كيفية التعامل مع الأسلحة. وفي كلتا الحالتين يُصبح من الحتمي على كل مجموعة الإنصات والإذعان للأوامر.
بؤس الحياة وبذخ النظام
يُركز الفيلم المنتج بأموال مشتركة من لاتيفيا وإستونيا -رغم هوية مخرجته الروسية وكذلك موضوعه- يركز في بعض مواضعه على فكرة الاحتفال بأبطال الوطن، ذلك الاحتفال الذي يُركز على فكرة الخلود السرمدي، حيث يُعد الأطفال مبكراً للعروض العسكرية التي كانت شائعة في الاتحاد السوفياتي قبل الانهيار، ولا تزال مثار إعجاب حتى اليوم في روسيا.
لا يحاول الفيلم شرح أصل النظام، لا يُشير إلى ما قيل عن أن ضحايا الجولاج في عهد ستالين بلغ نحو 18 مليونا، أو أن خمسة ملايين منهم قد قضوا نحبهم. لكن فيلم المخرجة كسينيا يعرض فقط أحد العناصر الأساسية التي فرضتها الدولة على المجتمع الروسي وهو العمل الإلزامي من دون رحمة من أجل وهم الخلود، مثلما لا يحاول صناع الفيلم النظر إلى الاختلافات المحتملة بين الاستخدام الواعي وغير الواعي للدعاية أو نتائجها.
يُساعد على تحقيق الرؤية السابقة الاشتغال على التناقض البصري الذي يُعد أحد مزايا الفيلم، من دون أن يغفل تنوع الأجيال المختلفة. فهناك أطياف من الشعب الشباب والعجائز؛ نساء ورجال وأطفال. هناك التناقض بين الصرف ببذخ على كل من الجيش وكذلك الفن الرسمي المتجسد في الباليه، وبين حياة الناس الصعبة التي تعيش في ظروف قاسية حيث يتضح ذلك من مشهد البيوت السيئة القديمة المتهالكة، وأقدام الأطفال العارية. كذلك عبر التوازي بين لقطات النيران بأيدي العمال وهي تلفح الإسفلت وبين صوت أقدام راقصات الباليه التي تتشابه في قوتها -حين تهبط على الأرض من علٍ- مع أصوات أقدام رجال الجيش في المعسكر، ومع الاثنين تأتي الخلفية مختلطة مع صوت القطار على القضبان في دلالة لقدر هذا الشعب، الذي يرمز إليه صناع الفيلم مرات أخرى بلقطات بشعة لذئب وحيد يعوي من البرد والجوع تحت طبقات الثلج المتساقط في الليل. ويختتم الفيلم مشاهده بلقطة لعيون فتاة شابة راقدة على السرير وعيونها تحمل نظرة ميتة رغم أن حدقة عيونها مفتوحة على اتساعها.

النساء يسابقن الرجال
كان فيلم “سرمدي” -الذي اختارت له مؤلفته عنواناً يخلو من أداة التعريف- مشاركاً ضمن عشرة أفلام بمسابقة الفيلم الوثائقي بمهرجان كارلوفي فاري الأخير الذي انطلق في 28 يونيو/حزيران الماضي واختتم أعماله في السادس من يوليو/تموز الحالي. وكانت حصة النساء المبدعات متساوية مع الرجال في تلك المسابقة، خمسة مقابل خمسة، لكن الفوز كان من حظ النساء، فقد تُوجت المخرجة كسينيا أوكابينا عن هذا الفيلم بالجائزة الكبرى. إنها من مواليد 1989، وهذا أول أعمالها الوثائقية الطويلة بعد خمسة أفلام قصيرة وعملين متوسطي الطول.
لا شك في أن المتأمل لتفاصيل وبرمجة الدورة الرابعة والخمسين من مهرجان كارلوفي فاري سيكتشف أن حظ النساء من التواجد بها كان وافراً في جميع الأقسام والمسابقات، حتى وإن زادت حصتها في مسابقة دون أخرى، بدءا من تكريم جوليان مور بالكرة الكريستال، وختاماً بفوز نساء بالكرة الكريستال عن أفلامهن.
كان التواجد على مستوى المرأة المبدعة سواء أكانت مخرجة أم منتجة، كذلك التواجد على مستوى القضايا التي تناقش وضعية المرأة حتى وإن كانت قضية المرأة بالفيلم تقود إلى قضية أكبر وأكثر عمومية كما في الفيلم الوثائقي القادم من الصين والذي يحمل عنوان “الحلم الكونفوشيوسي” للمخرجة ميجي لي في أولى تجاربها الوثائقية الطويلة بعد ستة أعمال قصيرة، والفيلم نال جائزة لجنة التحكيم الخاصة من المهرجان التشيكي العريق.
طلاق بسبب الحلم الكونفوشيوسي
يبدأ الفيلم الصيني “الحلم الكونفوشيوسي” (85 دقيقة)، بكلمات على الشاشة تقول “تأسست الفلسفة الكونفوشيوسية منذ آلاف السنين، تلك الفلسفة التي تُحدد العلاقات بشكل متناسق وأخلاقي. إنها مجموعة من المعتقدات والمبادئ تنصب على الأخلاق والآداب وشكل العلاقات الاجتماعية، وفي ذات الوقت لا تفصل بين النظامين السياسي والاجتماعي. ربما لذلك، في ظل الحداثة السريعة بالصين اليوم، فإن ملايين العائلات أخذت تتجه صوب هذه الطرق التعليمية القديمة مجدداً”.
وعقب تلك المقدمة التمهيدية، تأخذنا المخرجة إلى العينة المختارة، فنعايش معها تجربة شيقة مؤلمة مليئة بالتوتر الدرامي الذي يستحوذ على انتباهنا. فالبطلة امرأة شابة، لديها طفل صغير، تترك وظيفتها من أجل الحصول على دروس في الفلسفة الكونفوشيوسية، تمهيداً لأن تساعد ابنها في دراسة تلك الفلسفة لاحقاً، لكن زوجها غير مقتنع، إنه ضد رغبتها في دراسة هذا العلم.
في مشاهد مكبلة بالتوتر يكاد يتجاهلها أحياناً لئلا يتناقشا في الأمر، لكن أحد الأصدقاء ينصحها بتغيير نفسها أولاً، بالبدء فعلياً في قراءة تلك الدروس والاجتهاد فيها حتى تثبت لزوجها أهمية تلك الفلسفة، فيقتنع.
تحاول الزوجة تطبيق نصيحة الصديق، لكنها لا تقدر على قيادة أمورها بهدوء، دائما تنفعل، وسرعان ما تتفجر المشاحنات بينها وبين الزوج، تبدأ في لومه بأسلوب جاف غاضب آمر، تلومه لأن والديه يعيشان معهما، فليس لها بيتها الخاص، ثم تقرر الانفصال. أثناء ذلك تتقدم للمحكمة بطلب الطلاق، لكن المحكمة ترفض، بحجة الضرر الواقع على الأسرة.
رغم ما سبق، لا تستسلم الزوجة، بل تصر على موقفها، وعلى عدم العودة. وعندما تسألها المخرجة لماذا فعلت ذلك وتخليت عن ابنك تقول “لأنني فكرت فيه عندما سيكبر، عندما سأُخبره أنني ضحيت بسعادتي ورغباتي من أجله، سيكون رده: ومَن طلب منك أن تفعلي ذلك؟ لم يطلب منك أحد فعل هذا، أنا على الأقل لم أفعل”.
ثم تواصل الزوجة حديثها الاستبطاني “عندما فكرت وتأملت نفسي، اكتشفت أنني كنت أفكر في نفسي، وفي راحتي، أنني فعلت ذلك من أجل نفسي. اكتشفت أيضاً أنني لم أكن جيدة بالقدر الكافي، أنني كان لا بد من أن أُغير نفسي أولاً. كان لابد أن أشتغل على نفسي”.

رحلة اجتياز البرزخ
نتابع مع البطلة خلال الفيلم رحلتها لاجتياز هذا البرزخ، معاناتها، صراعها مع الزوج في حضور الوالدين بشأن تعليم الطفل، نعايش معركتهما الكبيرة التي يتم فيها التشويح بالأيدي والصراخ، لدرجة أن المخرجة تضطر في جزء منها لإخفاء الصوت -على ما يبدو أنه تضمن تجريحاً كبيراً بين الاثنين- فاكتفت بالإيماءات الغاضبة، وبتلويح كل منهما في وجه الآخر بينما يبكي الابن محاولاً أن يفصل بينهما، ثم لاحقاً -بعد شهور- عندما يتم التفاهم بينها وبين الزوج تبدأ الحماة في الصراخ والبكاء لأنهم سيأخذون منها الطفل كي يلتحق بالمدرسة ويتعلم الكونفوشيوسية.
أما المستوى البصري في فترات الانفصال فقد استعانت المخرجة بلقطات تتضمن لمحات من زيارة الزوجة للعائلة لترى ابنها أو لتقضي معه بعض الوقت، فتعطيه بعض الدروس وهى تبكي أحياناً، بينما يسألها الطفل ببراءة وحيرة “ماذا بك يا أمي؟ من أين تأتي هذه الدموع؟!”، فتجيبه “هناك مطر بالخارج”.
للصور الفوتوغرافية نصيب كبير بالفيلم، نصيب كاشف لقصة حب كبيرة. يتم القطع بينها وبين اللقطات الحية لها وهى تسير في الشارع تتحدث كأنها بصوتها الداخلي تُعيد التفكير في شخصيتها وفي حياتها وتصرفاتها، لدرجة أنها في لحظة ما تشعر بأنها كانت هي السبب في ذلك الانفصال والتوتر وتمزيق أوصال أسرتها.
لكنها تعود فتتساءل “هل كان لا بد أن أتخلى عن أحلامي وعن الأصدقاء؟”، ثم تعود وتفتح ملف الصور في بداية علاقتها بزوجها عندما تعارفا للمرة الأولى، تعود للأيام الخوالي، لقصة الحب بينهما، والأيام السعيدة التي عاشها الاثنان معاً. تحكي بموضوعية كبيرة من دون أن تغفل الفروق الجوهرية عن العلاقة أثناء فترات الخطوبة وتأجج الحب، ثم النقلة النوعية بعد الزواج لدرجة أنها تشعر بأن الرجل الذي أحبته اختفى بعد الزواج.

فرصة أخرى من التشيك
الأسلوب الفني والمضمون الفيلمي السابق يكاد يتشابه مع فيلم آخر قادم هذه المرة من التشيك عُرض بالمهرجان ذاته ضمن قسم الأفلام التشيكية (2018 – 2019). يحمل الفيلم عنوان “فرصة أخرى” (75 دقيقة) من توقيع المخرجة إيفا تومانوفا التي أخرجت حتى الآن أربعة أفلام وثائقية للتلفزيون، أحدثها هذا الفيلم الجريء.
يدور الفيلم حول امرأة (38 عاما) اسمها مونيكا، لديها طفلان من زواج سابق. تكتشف أنها في انتظار مولود جديد من صديقها الحالي الذي يصغرها بعدة سنوات. لكنه الآن قبض عليه بسبب شيكات وأوضاع مالية تورط فيها بتصرفاته غير المسؤولة ولم يكن قادراً على تسويتها، لذلك يقضي فترة العقوبة في السجن.
أثناء ذلك نعايش المحاكمة، وزيارات مونيكا له، والحب الكبير بينهما، نعايش محاولاتها لتوفير قدر من المال للإنفاق على طفليها ببيع بعض الأشياء من المأكولات. نتورط في تفاصيل بالفيلم تُظهر صعوبة وضعها الاقتصادي، والذي تحت وطأته تُصاب بالاكتئاب، فتبدأ في تناول الأدوية وزيارة الطبيب النفسي، ثم تتحول مشاعرها تجاه صديقها إلى عدوانية -إذ تشعر بأنه هو الذي قادها لذلك، خصوصاً بعد أن تُنجب طفلها الثالث- فتطلب منه الانفصال، لكنها تريد تسوية وضع الطفل في الأوراق الرسمية.
تتابع المخرجة تفاصيل النقاش والخلاف بين الاثنين أثناء الزيارات بالسجن، تسجل التوتر على ملامح الحراس وهم يتابعون تلك المشاحنات. تبدأ مونيكا في تمهيد الأمر لأطفالها، فيتساءلون بدهشة “كيف ولماذا بعد كل هذا الغرام؟!” فيكون ردها “حدث تحول، كان الغرام في الماضي”.
لكن المفاجأة أن صديق مونيكا لا يستسلم، فرغم الجفاء الذي أخذ يُعاملها به بعد قرارها، نراه بعد الخروج من السجن يتحمل تهديدها له وهي تقود السيارة، نسمعها تقول “في بعض اللحظات أشعر بأنه ضاع عامان من حياتي هباء. الآن أعرف كيف أُدير الأمور وأعرف ماذا سأفعل”.
لكن على ما يبدو أن صديقها أصر على البقاء معها، أصر على أن يثبت لها أنه سيتحمل المسؤولية، وأنه سيربي طفلهما بشكل جيد. فعندما تنتهي مدة عقوبته ويخرج من السجن، يبدأ في تجديد البيت وإصلاح بعض تفاصيله بحماس، نرى مشاهد لهم أثناء تناول الطعام واللعب مع الأطفال.
لكن هنا تتوقف المخرجة عن تصويرهما، وتخبرنا أنهما قررا أن يعيشا حياتهما خارج الكاميرا وبعيداً عنها، وأنه بعد عام من خروجه من السجن نجح في العثور على عمل وفي تسديد ديونه. ثم تختتم فيلمها بلقطات فوتوغرافية لحفل زفافهما والسعادة تبدو جلية على ملامحهما.
القرية المتلاشية في الصين
يظل الفيلم الصيني “القرية المتلاشية” (The fading village) (172 دقيقة) للمخرج ليو فايفانغ أحد أهم الأعمال المشاركة بمسابقة الأفلام الوثائقية رغم خروجه من دون جوائز أو تكريمات. وأعتقد أن حصول فيلم صيني آخر -الحلم الكونفشيوسي- على جائزة لجنة التحكيم الخاصة جعل من الصعوبة بمكان أن تذهب جائزتا الوثائقي للصين وحدها.
يبدأ المخرج الصيني فيلمه من الرعي بإحدى القرى الجبلية بمنطقة شانشي جينبي التي عاش فيها والداه والتي يرجع تاريخها إلى 300 عام، لكنها الآن تعاني هجرة أبنائها بسبب مساعي الأجيال الجديدة للبحث عن حياة أفضل في المدينة التي تبدو وكأنها نداهة يصعب مقاومتها، حتى إن القرية تكاد تتلاشى منها الحياة بعد أن نزح عنها الجميع ولم يتبق بها سوى 16 شخصاً فقط، جميعهم من العجائز باستثناء هاو جونلي.
يتابع الفيلم شخصية جونلي في تفاصيل حياته اليومية التي يحاول خلالها إطعام القطيع الذي يملكه، ويبحث الآن عن سعر مناسب لبيعه لأن والدته مصابة بالسرطان. كان جونلي قد قام بمساعدة والده بتربية قطيع يبلغ أكثر من 500 رأس من الماعز.
وأثناء ذلك أيضاً نتعرف على ليو سان لونغ البالغ من العمر 82 عاما. إنه من جيل المزارعين العجائز الذين يعتمدون على الزراعة من أجل توفير لقمة العيش، لكن باقي أفراد أسرته من الشباب وعائلتهم تركوا القرية وذهبوا ليعملوا في تايوان.
تتبع كاميرا المخرج قصة معيشة الناس هناك، والفولكلور الذي يطبع حياتهم، بتفاصيلها المحزنة أحياناً، فإحدى النساء تقف أمام البائع تريد شراء قماش أبيض للكفن، تبحث عن القماش الرخيص لأنهم لا يقدرون على دفع الكثير بسبب اعتمادهم على الزراعة والرعي، وكأن الفيلم بشكل متوارٍ يرصد أحد أوجه عملية التحول الاجتماعي في الصين، والتأثير العميق للحداثة والحضارة على الريف، وذلك من خلال تتبع المصير الشخصي للمزارعين وتبدل مظهر القرية الجبلية.
مع الأجيال المختلفة نتابع النقاش والذكريات، نتتبع عمليات استخراج المياه من أسفل الجليد في الطقس الشديد البرودة، وصعود السلالم بتلك المياه، نشعر بالمعاناة والشقاء وسط حياة الفقر وضعف الإمكانيات ورقة الحال. إناس يفتقدون للدفء والبيت المريح ليلاً ونهاراً. هناك، تأتي الأيام بطيئة كما يُسجلها الفيلم، وتجمع بين المرارات والأشياء الحلوة.
هناك أيضاً في تلك القرية الجبلية مات كثير من كبار السن، بينما المسنون الآخرون فما عليهم سوى الانتظار لنهاية حياتهم، الانتظار في ظل حياة شاقة للغاية، خصوصاً مع تبدل الفصول الأربعة وصعوبة الحصول على المياه.
ينجح جونلي في بيع قطيعه عن أكمله بسعر غير جيد، لكنه مضطر لذلك، ليس فقط بسبب مرض والدته، ولكن أيضاً لأن ابنه على وشك الالتحاق بالمدرسة، وهذا يعني البقاء بالمدينة، والابن نفسه الذي لا يزال طفلاً يرفض العودة للقرية الجبلية قائلاً لأبيه “ليس هناك مول للتسوق، ليس هناك إنترنت، ولا شبكة للهاتف الخلوي”.
فهل فقط هذا ما يعجل بتلاشي تلك القرية؟! بالطبع لا، فظروف المعيشة الصعبة القاسية المجردة من كل الأساسيات الحياتية والبنية التحتية هى الجوهر والسبب الرئيسي في الهجرة، حتى إن بعض المهاجرين للعمل بتايوان يقولون في شبه إجماع “نعم نريد العودة، لكننا أيضاً لا نستطيع”.