مهرجان فيلم الهواة بقليبية.. هنا تُصنع السينما الجميلة على نار هادئة

صالح محمد سويسي-تونس
أُطفئت أنوار مسرح الهواء الطلق بقليبية أمس الثلاثاء (6 أغسطس/آب)، بعد أسبوع من السينما والجمال أمّنتها الدورة الـ34 للمهرجان الدولي لفيلم الهواة بقليبية (انطلق في الأول من أغسطس/آب الجاري).
وككل دورة، مئات من عشّاق الفنّ السابع شدّوا الرحال إلى مدينة قليبية التونسية التي تستلقي في هدوء وجمال على الضفة الجنوبية للمتوسط مفتخرة بواحد من أجمل شواطئه على الإطلاق.
المهرجان الدولي لفيلم الهواة بقليبية (فيفاك) لا يشبه غيره من المهرجانات السينمائية التي تنتشر داخل تونس وخارجها، وهو ليس مهرجانا بقدر ما هو “لمّة” أو فرصة ليجتمع عدد كبير جدا من السينمائيين صنّاعا وعشّاقا ومتلقّين، تجمعهم مدينة صغيرة في حجمها كبيرة في احتضان فنون العالم وثقافاته.

جحافل العشّاق تشدّ الرحال إلى السينما
في كل دورة وفي صيف تونس الصاخب، تحجّ جحافل العشاق لتحط الرحال في كعبة السينما، حيث تلتقي أجيال من المؤسسين إلى المولعين مرورا بالمخضرمين.
في هذه الدورة ومثل ما جرت العادة، تابع المشاركون والجمهور تخمة من الأفلام بأنواعها، ولعلّ أكثر ما شدّ المتابع لهذا المهرجان هو الحضور الهام لأعمال تشتغل على البحث سواء على مستوى الفكرة أو صياغة السيناريو أو الإخراج أو التصوير أو حتى التمثيل أحيانا.
ثمّة ما يدعو للتفاؤل بسينما جميلة على كل المستويات بعيدا عن الأعمال التي أصبحت تُنتج لغايات ربحية بحتة سواء للظفر بشبّاك التذاكر أو بجوائز المهرجانات الكبرى.
وبعيدا عن أضواء المهرجانات الكبرى يقدّم مهرجان “فيفاك” رؤية وتصوّرا مغايرا تماما ويقترح جملة من المبادرات السينمائية التي يمكن أن تكون منصّة لانطلاق أفكار وأسماء جديدة تجسّد البعد الآخر للسينما بما هي فعل فنّي ينحت في عمق الذات الإنسانية بامتياز.

“العصا”.. طفل يتحدى الخوف
من بين عدد كبير من الأفلام بين المسابقتين الوطنية والدولية، رأينا أن نقف عند فيلمين أحدهما روائي والثاني وثائقي، وهو اِختيار مزاجي بالأساس ولا يعني أنّ بقية الأفلام لا تستحق وقفة لكل فيلم بمفرده، فعلى العكس تماما قدّم المهرجان أعمالا كانت في جملتها جميلة وتتنظر من يتناولها بالدرس والنقد.
في الفيلم الروائي القصير “العصا” توغّل المخرج علاء الدين الهمامي في سبر أغوار شخصية طفل في العاشرة من عمره يسكنه خوف مقيت من التوجه للمدرسة تسببت فيه المعلمة التي تتعامل مع تلاميذها -وخاصة معه- بطريقة جافة وفيها كثير من التسلّط والعنف غير المبرر، يتشكّل هذا العنف لفظا وفعلا من خلال استعمال العصا للضرب بسبب أو من دون سبب.
خلال الفيلم الذي لم يتجاوز 15 دقيقة، غاصت الكاميرا في أعماق الطفل الصغير الذي يريد والده العامل البسيط أن ينجح ويتميّز في دراسته حتى لا يشقى مثله من أجل ضمان لقمة العيش، وفي المقابل تتلقّفه المعلمة بوابل من الشتائم والاستفزازات المتكررة التي تصل حدّ الضرب بالعصا.
بين رغبة الأب المبطّنة بتهديد أبوي فيه بعض حنان وخوف من المستقبل، وسلطة المعلمة التي حوّلت الفصل إلى مكان لا يرغب الطفل في دخوله، تكوّنت تلك النظرة الحزينة في عيني طفل مازال لا يفقه كنه هذا العالم وهو في أولى خطواته لفهم ما يدور حوله. وعوض أن يجد من يأخذ بيده ويريه الصورة الأجمل عن هذا العالم، تتلقّفه المعلمة بوابل من الضرب والشتائم.
لكنّ الطفل لا يرضخ لهذا الوضع ويثور عليه، ويتحدّى المعلّمة حين رفض العصا وهنا بدا وكأننا أمام فكرة رفض التسلّط أو رفض الدكتاتورية مهما كان مصدرها، حيث ينتفض طفل السنوات العشر رافضا بسط يديه للعصا تاركا الفصل وجالسا وحيدا قرب دورات المياه.
ليفاجئنا المخرج بعودة التلميذ لفصله والقيام بفك شفرة عملية حسابية عجز عنها أمام سلطة العصا، ليبهر المعلمة أمام ذهول زملائه، وليصنع بتمرّده نظرة أخرى لدى معلّمته.
فكرة الفيلم قد تكون مستهلكة، لكن المخرج الشاب قدمها برؤيته الخاصة وإحساس عالٍ جعل الأحداث تتسارع في تناغم جميل، أضف إلى ذلك ذكاءً كبيرا في اختيار زوايا التصوير، فضلا عن الأداء المتميّز لطفل السنوات العشر وبقية فريق العمل.

“الأب الصغير”.. طفل يعول عائلته
في سياق آخر، يسافر المخرج التونسي مرتضى غنّوشي بالمشاهد عبر 18 دقيقة بفيلمه الوثائقي “الأب الصغير” في رحلة أيمن اليومية لكسب قوته وقوت عائلته.
أيمن ذي الـ14 ربيعا والذي يقدم نفسه أنه “أبو العائلة” يأخذنا معه في رحلة يومية بين الأسواق التي يبيع فيها الحلوى والسكاكر، مستعينا بالـ”تكتك” الذي يعتبره صديقه وأنيسه ويتحدث إليه كلما ضاقت به الدنيا.
في هذا الفيلم الوثائقي الذي بدا بسيطا على مستوى التصوير؛ صَوّر غنّوشي حياة أحد أطفال تونس بين شقاء العمل والرغبة في التحدي ومحاولة التأقلم مع واقع فُرض عليه رغم صغر سنّه.
“أريد مساعدة والدي، كيف يدفع ديونه كلها؟”، هكذا يتحدث أيمن أمام الكاميرا وهو ينفث دخان سيجارته، ويضيف “أصبحت أحب العمل ولا أذكر أنني ارتحت يوما، حتى أنني لا أمرض أبدا، وحتى لو مرضت فلا أعير الأمر اهتماما”.
طفل يعول عائلته ويعتبر أنه يقوم بما يجب عليه، ويحاول بكل السبل أن يوفر أكثر ما يمكنه من مال، يعمل بشكل مرهق ولكنه سعيد جدا بحياته، متصالح مع ذاته، ويعلم جيدا ماذا يريد، حتى إنه يحلم بأن يكون تاجرا كبيرا يحظى بثقة التجار والناس، ولكنّه يقول “حتى لو أصبحت ثريا جدا، فلن أتنازل عن التكتك وسأتركه عندي ما حييت، فهو يمثل لي الكثير”.
وفي خضم العمل والكسب والتعب، يجتهد أيمن ليدرس رغم اعترافه بأن الدراسة لن توصله لشيء مما يحلم به، لكنه يرى أن عليه أن يدرس.
فيلم وثائقي قصير نبش في تفاصيل الحياة اليومية لطفل يعمل ويدرس، يمثّل نواة لفيلم روائي طويل يمكن للمخرج أن يشتغل فيه على جوانب أخرى، كما يمكنه أن يتفتّح أكثر في جوانب تطرق إليها أصلا، من ذلك تلك المفارقة العجيبة لدى أيمن بين إصراره على الدراسة وتقديره أنّها لا تصنع المستقبل.

احتفال واحتفاء
وكان المهرجان انطلق الخميس الماضي بحضور وزير الشؤون الثقافية التونسي محمد زين العابدين ورئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد شوقي الطبيب، لتنطلق فعاليات الدورة الـ34 للمهرجان الدولي لفيلم الهواة بقليبية.
وتضمّن حفل الافتتاح تقديم لجنة التحكيم، وهي لجنة تحكيم المسابقة الدولية للأفلام القصيرة، ولجنة تحكيم المسابقة الوطنية الخاصّة بالأفلام القصيرة والصور الفوتوغرافية والسّيناريوهات.
كما عرض في حفل الافتتاح الفيلم البرازيلي “إنكانتادو.. خيبة أمل البرازيل” (encantado, le brésil désenchanté) للمخرج فيليب غالفون، وهو فيلم أنتج سنة 2000 اشتركت فيه خمس دول هي البرازيل والهند والصين وروسيا وجنوب أفريقيا، ويقدم قصة شخص تحوّل من عامل بسيط إلى رئيس دولة، ويروي الفيلم الأحلام الضائعة لبلد كامل بشهادات حية، قصة تُسائل المستقبل وتبحث في واقع سياسي أفضل للبرازيل.
وخلال الدورة الأخيرة التي توافق الذكرى الـ55 لتأسيس هذا المهرجان المُغاير، شارك عدد هامّ من صنّاع السينما ومُريدوها من 21 دولة بينها ومصر ولبنان وفلسطين والأردن وبوركينا فاسو وفرنسا وأوكرانيا والبرازيل وأوزباكستان التي تسجّل حضورها لأول مرة في تاريخ المهرجان.
واحتفى المهرجان -الذي واكبه ككل دورة عدد كبير من عشاق السينما- بعدد من المخرجين في سهرات خاصة، حيث تعدّدت المواعيد، من ذلك عرض فيلم “استعادة” للمخرج الفلسطيني كمال الجعفري، وفي قسم “مروا من هنا” كرّم المهرجان السينمائية المصرية الراحلة عطيات الأبنودي بعرض مجموعة من أعمالها، وهي “حصان الطين” و”ساندويتش” و”اللي باع واللي اشترى”. كما احتفلت الدورة الـ34 بالمخرجة والمصورة اللبنانية الراحلة جوسلين صعب ضمن السهرة الخاصة “شرّفوا المهرجان”، بحضور جمعية أصدقاء جوسلين صعب.

اختتام وحوائز
واختتمت أمس الثلاثاء فعاليات الدورة الـ34 للمهرجان الدولي لفيلم الهواة بقليبية الذي ينظم بالتعاون بين وزارة الشؤون الثقافية والمركز الوطني للسينما والصورة والجامعة التونسية لنوادي السينما، وفي كلمته عاد مدير الدورة أيمن الجليلي على الأسبوع الذي عاشته المدينة بين عروض وورشات ونقاشات، وقدمت مختلف اللجان تقاريرها وأعلنت على جوائزها على النحو الآتي:
الجوائز الموازية
– جائزة الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد: وحصل عليها فيلم “اتركوا يامليخا وشأنه” لجهاد بن سليمان من نادي السينمائيين الهواة بحمام الغزاز.
– جائزة جمعية المخرجين التونسيين: وحصل عليها بالتساوي فيلم “اتركوا يامليخا وشأنه” لجهاد بن سليمان من نادي السينمائيين الهواة بحمام الغزاز، وفيلم “السكة عدد 13” لسامي نصري من نادي السينمائيين الهواة هاني جوهرية.
– جائزة الجمعية التونسية للنهوض بالنقد السينمائي: وحصل عليها فيلم “الأب الصغير” لمرتضى غنوشي من معهد الفنون والحرف بقابس.
– جائزة قدماء الجامعة التونسية للسينمائيين الهواة: وحصل عليها فيلم “السكة عدد 13” لسامي نصري من نادي السينمائيين الهواة هاني جوهرية.

جوائز المسابقة الوطنية
– جائزة أحسن صورة: وحصل عليها سليم بلغوثي.
– جائزة أحسن سيناريو: مناصفة بين حسام العشي عن سيناريو “وجوه وأماكن” وأمل عياشي عن “لا أرض للنساء”.
– تنويه خاص: لفيلم “المعبر” لإنصاف بن عجمي.
– الجائزة الثالثة: لفيلم “العصا” لعلاء الدين الهمامي من نادي السينمائيين الهواة بمنزل بورقيبة.
– الجائزة الثانية: لفيلم “اتركوا يامليخا وشأنه” لجهاد بن سليمان من نادي السينمائيين الهواة بحمام الغزاز.
– الجائزة الأولى فرحات حشاد: لفيلم “السكة عدد 13” لسامي النصري من نادي السينمائيين الهواة هاني جوهر.
– جائزة لجنة التحكيم الوطنية: حصل عليها فيلم “مشوار” لعلي قداش وكاظم نمسي.

جوائز المسابقة الدولية
– تنويه خاص أحسن صورة: أسندت ليحيى بشير عن فيلم “نحن قريبا” (on est presque) لفريال بلحاج رمضان.
– تنويه خاص: للفيلم الإسباني “رامان” لروبان سيكا.
– تنويه خاص لأحسن أداء: لمنى صولاب عن الفيلم الأمريكي “أمل” لطه عزيز.
– تنويه خاص للسيناريو: وحصل عليه الفيلم الإيراني “الثور الأمريكي” (the american bull) لفاطمة توسي.
– الجائزة الثالثة: أسندت للفيلم الأوزباكستاني “شاي” (TEA) لشوكير خوليكوف.
– الجائزة الثانية: لفيلم التحريك الفرنسي “النادي الملوّن” (the stained club).
– الصقر الذهبي: أسند للفيلم الإيطالي “صادق” لجرالدين أوتي.
– جائزة لجنة التحكيم: أسندت لفيلم “أثينا” (athena) لمهدي الهمامي ويوسف الباهي من نادي السينمائيين الهواة بحمام الأنف.